"Brussels Signal": لقد بدأ عصر الفوضى في أوروبا
أثبتت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي أنّها نقطة تحول عميق في تاريخ القارة، والاتحاد الأوروبي سوف يصبح مختلاً وظيفياً على نحو متزايد، لأن خططه لتحقيق أهدافه سوف تصبح أكثر عرضة للعرقلة السياسية.
موقع "Brussels Signal" ينشر مقالاً للكاتب غابرييل إليفتريو، يتحدّث فيه عن تأثير صعود أقصى اليمين في أوروبا، ونتائج انتخابات البرلمان الأوروبي ودلالاتها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كل الثورات السياسية العظيمة في التاريخ احتاجت نحو عقد من السنوات كي تتجلى آفاقها وأهدافها بشكل كامل أمام الجمهور حين ينظر إلى الأحداث على أنها مجرد لعنات متوالية، من دون توقع إلى أين ستؤدي بهم الفوضى. وبعد أن تنتهي "المرحلة الثورية"، ويُكتب التاريخ، يمكن تفسير المتغيرات وتقدير الأسباب والنتائج والظروف التي تشكل مصائر الأمم.
من الأمثلة التاريخية على الوقت اللازم كي ترسو المتغيرات التي تحدثها الثورات هو استغراق سقوط الجمهورية الرومانية نحو 18 عاماً، بعد عبور يوليوس قيصر نهر الروبيكون عام 31 قبل الميلاد والحرب الأهلية وعدم الاستقرار لعقد ونصف عقد توج باغتيال علني للقيصر، إلى انتصار أوكتافيوس على جيوش ماركوس أنطونيوس وكليوبترا في معركة "أكتيوم" الشهيرة عام 49 قبل الميلاد.
عام 1649، ولجت بريطانيا إلى مرحلة من الفوضى بعد الثورة التي أعدمت الملك تشارلز الأول، واستمرت نحو 11 عاماً إلى حين استعادة تشارلز الثاني الحكم الملكي، وصولاً إلى الفصل الأخير مع "الثورة المجيدة" عام 1688، التي أحدثت متغيرات جذرية في نظام الحكم.
وعلى هذا النحو، استغرقت "الحرب الثورية" الأميركية نحو 14 عاماً، حتى انتزعت كامل الولايات استقلالها من بريطانيا عام 1783، في حين لم يدخل الدستور الجديد حيز التنفيذ حتى العام 1789، وهو العام الذي قامت فيه الثورة الفرنسية وما أفضت إليه من أشكال حكم مختلفة ومثيرة استمرت متأرجحة نحو 15 عاماً، إلى أن أقام نابليون بونابرت على أنقاض الملكية التي أطيح بها إمبراطورية أعتى، حتى إنّ الثورة الروسية عام 1917 لم تكن معزولة عن ثورة عام 1905 والحرب الأهلية حتى عام 1923، أي 18 عاماً بشكل عام.
ربما يكون هناك نوع مماثل من "الثورات" العالمية اليوم، حتى لو لم يُلحظ بعد أو يستدرك، لكونه اتخذ أشكالاً ناعمة وسياسية بحتة حتى الآن. ويمكن مراجعة الحدث المزدوج عام 2016 في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم انتخاب دونالد ترامب في وقت لاحق، ما اعتبره الليبراليون العام المروع لـ"الديمقراطية"، وما شهدته القارة من "أزمة" نتيجة تدفق المهاجرين الكبير من مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وخصوصاً من سوريا والعراق اللذين شهدا تمدد تنظيم "داعش" فوق أراضيهما عام 2015، كذلك استعادة روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، وكلها تتطابق في الإطار الزمني بشكل جيد مع الأمثلة التاريخية المذكورة أعلاه، وتشير إلى مرور 10 سنوات على تلك الأحداث، والعالم على عتبة ولوج المرحلة النهائية الحاسمة التي تمتد عادة من 15 إلى 18 عاماً.
بين أعوام 2014 و2016، لم تعد الساحات السياسية على حالها، وبدأت التحولات بتدفق الموجات الشعبوية، ولم تتنفس النخب الأوروبية الصعداء إلا قليلاً حين خسر فيها دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية، واضطرت بريطانيا إلى إبرام صفقة سيئة لخروجها من الاتحاد الأوروبي، لكن الأعوام القليلة الماضية تظهر أنّ اليمين المتطرف أصبح الآن حزباً راسخاً في المشهد الأوروبي عموماً، ولن يخرج أو يختفي.
ربما أثبتت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي مؤخراً بلا لبس أنّها نقطة تحول عميق في تاريخ القارة، إذ لن تكون هناك عودة إلى الوضع "الطبيعي"، كما أنّ طبقة النخبة الليبرالية التي كانت تدير النادي الأوروبي لعقود من الزمن بمواجهة معارضات مزعجة قليلاً في السياسة والاقتصاد والثقافة بالماضي لا يمكنها الآن إعادة المارد الشعبوي إلى القمقم.
وفي أحسن الأحوال، قد يحصل هؤلاء على أغلبية نسبية في البرلمان الأوروبي، ولكن أيام التعامل الخشن مع المعارضة اليمينية المتشككة في أوروبا ربما تقترب من نهايتها، ولا بد لهم من إجراء المزيد من المفاوضات والتسويات لتمرير التشريعات مع القوى التي أصبحت أساسية ولم تعد هامشية.
الانتخابات الفرنسية المبكرة قد تقدم مارين لوبان للسيطرة على البرلمان الفرنسي، وبالتالي الحكومة، وقد ينتهي بها المطاف بحصد النتيجة الأكثر أهمية في انتخابات منطقة اليورو.
وفي ألمانيا أيضاً، حقق "حزب البديل من أجل ألمانيا" نتائج مذهلة، في حين مني الائتلاف الحاكم بهزيمة ساحقة من شأنها أن تدفع السياسة في البلاد إلى مستويات من الضغط والحدة ربما لم تشهدها منذ أيام جمهورية فايمار.
لا شك في أنّ هذا المستوى من الحسابات الداخلية، سواء في حالة ألمانيا أو فرنسا أو غيرهما، سوف يؤدي إلى تعقيد التسويات والمفاوضات بين القوى المختلفة، وسوف يؤثر في أداء البرلمان الأوروبي في الولاية الجديدة.
إنّ التصويت الحر هو في الواقع أمر رائع، وخصوصاً حين تأتي النتائج بما يجعل السياسيين يدفعون ثمن غطرستهم بما أخفقوا.
ثمة خياران لا ثالث لهما أمام المؤسسة الأوروبية؛ الأول هو إثارة هستيريا بشأن التطرف و"اليمين الشعبوي" والدخول في مواجهة وبعده الحرب الكاملة لـ"الدفاع عن الديمقراطية". وفي ألمانيا، قد يتخذ هذا الاتجاه تشريعات تحظر "حزب البديل من أجل ألمانيا" ومن يماثله، من الذين يمكن وصفهم ببساطة بـ"أعداء الدولة"، كما حصل في السنوات الماضية في الولايات المتحدة ضد ترامب، ولكن لا يمكن لهذا النهج إلّا أن يؤدي إلى المزيد من التطرف على جميع الأطراف.
الخيار الآخر هو أن تتوصل أحزاب "النخب الليبرالية" إلى تسوية بشأن السياسات الرئيسة واسترضاء اليمين المتطرف بفعالية حول حججها الرئيسة مثل الهجرة وسواها من السياسات التي تشكل أشرعة مشروعها وخطابها.
ولكن من الناحية العملية، من المستحيل تنفيذ مثل هذه الاستراتيجية بطريقة منسقة على المستوى الأوروبي، حتى لو كانت هناك الإرادة للقيام بذلك بين القادة الرئيسيين لمجموعات مثل "حزب الشعب الأوروبي" أو لدى الاشتراكيين والديمقراطيين بسبب المقاومة السياسية من قبل القواعد الناشطة لهذه الأحزاب، والتي تحول دون أي تحركات جادة في هذا الاتجاه.
من المرجح أن يحدد المسار الأوروبي بالقليل من الخلط بين توجهي الضغط والتسوية، مع أنه صعب ويؤدي إلى عواقب. وبعيداً عن تآكل الديمقراطية في المقام الأول من خلال المزيد من الانتهاكات المتوقعة لسيادة القانون، فإنّ الاتحاد الأوروبي سوف يصبح مختلاً وظيفياً على نحو متزايد، لأن خططه لتحقيق أهدافه سوف تصبح أكثر عرضة للعرقلة السياسية، فقد انتهى المشروع الأوروبي إلى ما يشبه منزلاً في منتصف المسافة بين أسوأ ما يمكن بين الجهتين.
ومن الصعب أن نرى كيف ستتمكن أوروبا من الإفلات من هذا الطريق المسدود، مع تزايد الشكوك في أمنها على وجه التحديد بسبب إخفاقاتها العابرة للقارات في كل المجالات السياسية الأخرى، وليس الدفاعية فقط، قبل أن نفكر حتى في توجه أوروبا المستقبلي تجاه أوكرانيا التي أصبحت الآن فجأة موضع شك أكبر من أي وقت مضى منذ عام 2022، وخصوصاً مع النتائج المذهلة لليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الذي يناهض هذه الحرب، فالثورة مستمرة.
نقله إلى العربية: حسين قطايا