"Atlantic Council": ما الذي ينتظر فرنسا وماكرون بعد هزيمة أقصى اليمين؟
4 آراء لخبراء بالشأن الفرنسي يفسّرون المشهد السياسي الفرنسي الجديد.. ماذا قالوا؟
مؤسسة "Atlantic Council" الفكرية الأميركية تنشر تقريراً تتحدث فيه عن السيناريوهات المطروحة أمام فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون بعد نتائج الانتخابات المبكرة التي دعا إليها الأخير، والتي قلبت التوقعات، وهُزم فيها أقصى اليمين.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
شهدت الانتخابات البرلمانية الفرنسية أعلى نسبة إقبال في أعداد المصوّتين منذ عقود. وقد جاء التحالف اليساري "الجبهة الشعبية الجديدة" في المرتبة الأولى، تدرّجت خلفها الأحزاب الوسطية المتحالفة مع الرئيس إيمانويل ماكرون، واحتل المرتبة الثالثة "التجمع الوطني" ممثلاً أقصى اليمين، في تحوّل مذهل بعد أن حصل على أكبر عدد من الأصوات قبل 4 أسابيع فقط في انتخابات البرلمان الأوروبي، ما حدا بماكرون أن يدعو إلى هذه الانتخابات المبكرة لتفضي بالمشهد الداخلي إلى مسار سياسي معقد، بسبب عدم الحصول على أغلبية مطلقة لأي من القوى الرئيسية في البرلمان.
في الآتي، 4 آراء لخبراء في الشأن الفرنسي تسهم في تفسير المشهد السياسي الفرنسي الجديد:
نجاح صد اليمين وماكرون خسر رهانه
يقول سفير فرنسا السابق لدى الولايات المتحدة جيرارد أرود: لقد نجح أقصى اليمين في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، وبدا أنّ التطرف في طريقه للحصول على الأغلبية في الجمعية الوطنية الفرنسية ما يؤهله حكم البلاد بدعم من قوى محافظة أخرى. ولكن، المفاجأة الأولى جاءت من نحو 200 مرشح من عدد مرشحي اليسار أو التيارات الوسطية، انسحبوا من السباق الانتخابي لصالح مرشح وسطي أو يساري آخر لمنع أقصى اليمين من الفوز في دوائرهم الانتخابية، مع أنّ استطلاعات الرأي كانت متشككة ما إذا كان الناخبون سوف يتبعون نداء المنسحبين.
لقد نجحت التحصينات المناهضة لأقصى اليمين، الذي هزمه الائتلاف اليساري "الجبهة الشعبية الجديدة"، في الحصول على المركز الأول في الجمعية الوطنية، كذلك فعل الحزب الموالي لماكرون الذي احتل المركز الثاني، بينما جاء التجمع الوطني في المركز الثالث فقط، بذلك قالت فرنسا بوضوح " لا " لاحتمال تشكيل حكومة متطرفة في البلاد.
على الرغم من هذه النتيجة الكبيرة والمفاجئة، ليس هناك أغلبية مطلقة لأحد في البرلمان الجديد، الموزّعة قواه بين 3 كتل غير متقاربة في عدد المقاعد. في حين يطالب زعيم أقصى اليسار جان لوك ميلانشون بالسلطة لتنفيذ برنامج تكتل الجبهة الشعبية الجديدة الكامل، يرى ممثلو كتلة الوسط أنّ توزيع المقاعد في الجمعية الوطنية بين القوى يظهر أن التسويات لا مفر منها في تشكيل السلطة التنفيذية.
لا شكّ في أنّ الأسابيع المقبلة سوف تشكل اختباراً حقيقياً لتحديد ما إذا كان اليسار والوسط قادرين على التعاون. وربما يستلزم هذا تفكك الجبهة الشعبية الجديدة، بسبب التناقضات بين "حزب فرنسا الأبية" الذي يمثل أقصى اليسار و"الحزب الاشتراكي" من يسار الوسط.
مع ذلك، كل الإشارات تظهر أنّ فرنسا تلج الآن إلى أزمة طويلة مليئة بالشكوك وعدم الاستقرار السياسي. لقد خسر ماكرون رهانه وأوضحت ذلك صناديق الاقتراع، وقد أصبح ضعيفاً، لكن الاستسلام والواقعية ليسا من ضمن نقاط قوته.
عدم الاستقرار حتى 2027
راما ياد، أول فرنسية من أصل أفريقي عملت نائبة لوزير الخارجية وحقوق الإنسان وسفيرة لدى (اليونسكو) في عهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، لديها ملاحظات رئيسية يمكن استخلاصها من الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية تندرج في الشكل الآتي:
لم يفز التجمع الوطني، بل جاء في المركز الثالث، ولقد عملت جبهته السياسية بشكل مثالي بعد إشاعة أنها ميتة. كما، لم يحصل يسار "الجبهة الشعبية الجديدة" على أكثرية مطلقة، بغض النظر عن عدم توقع أيّ استطلاع أنّه سيتصدر النتائج.
كل ذلك، يدخل فرنسا في عصر السياسة الائتلافية، وهي ممارسة لم تعتد عليها البلاد. ولم يحصل ماكرون، الذي كان يبحث عن توكيد موقعه في السلطة على ما يريد، فقد اختفت الأغلبية النسبية التي كان يتمتع بها في عام 2022، وأصبح حزبه الآن أقلية في الجمعية الوطنية. وسيتعين عليه اختيار رئيس وزراء يشكّل حكومة ستكون مهمتها الأولى أن تكون قوية بما يكفي لتجنب الوقوع فريسة لتصويت حجب الثقة. وسوف ينتقل مركز ثقل السياسة الفرنسية من السلطة التنفيذية إلى البرلمان، وهناك احتمال الدخول في مرحلة طويلة من عدم الاستقرار في حال اتحدت مشارب المعارضة.
من المرجح أن يقود اليسار المنتصر بزعامة ميلانشون الحكومة، لكن البعض من داخل حزب ماكرون يأمل في أن يتمكّن من نسج ائتلاف من الأقليات يضم سياسيين من اليمين واليسار، بينما تكون استقالة رئيس الوزراء الحالي غابرييل أتال نافذة وفقاً لمنطق المؤسسات وبحكم تصريف الأعمال.
يسود شعور كبير بالارتياح في البلاد التي كانت على شفا الهاوية، ولكن العواقب ستكون صعبة. ونحو 10ملايين مواطن فرنسي الذين صوّتوا لحزب مارين لوبان لم يختفوا، إذ أصبح التجمع الوطني قوة المعارضة الرائدة، وسيركّز الآن على تجسيد البديل في المعركة الوحيدة التي تستحق خوضها في فرنسا، وهي الانتخابات الرئاسية لعام 2027، و ما قالته مارين لوبان بعد اليوم الانتخابي الطويل "لقد تأخر انتصارنا فقط". وهذا يفرض على الحكومة الفرنسية الجديدة أن تحقق في أقل من 3 سنوات النجاح ودحض هذا التوقع.
قلق الاتحاد الأوروبي إزاء عدم اليقين في باريس
يورن فليك، المدير الأول لفرع أوروبا في "المجلس الأطلسي"، يقول إنّ كل أوروبا تنفست الصعداء بعد نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، وتراجع قوى أقصى اليمين إلى الدرجة الثالثة بعد تصدّرها الجولة الانتخابية الأولى، وترجيح فوزها بالأغلبية، وهو ما كان ليحدث دماراً مالياً وإجرائياً في سياسات فرنسا تجاه الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، النتيجة الرئيسية التي سيستفيد منها الشركاء الأوروبيون بالفعل هي حالة عدم اليقين والشلل والزعامة السياسية التي تستهلك نفسها في باريس الآن. فلا يوجد فائزون واضحون، حتى ولو فاجأ الائتلاف اليساري الجميع بفوزه بالمركز الأول، وتفوّق حزب ماكرون على القوميين الشعبويين المناهضين للاتحاد الأوروبي من التجمع الوطني في المركز الثالث.
لا شك في أنّ البرلمان الموزّعة قواه بين الائتلافات المتنوعة سيفرض مستوى من عدم الاستقرار، بغض النظر عن اعتبار الأوروبيين الجبهة الشعبية الجديدة فائزاً لا يحتمل، لكن هذا من شأنه أن يضعف موقف فرنسا الأوروبي وأوروبا نفسها في آن. ومن المرجح أن يستمر الأمر لعام على الأقل من الجمود السياسي في باريس، مع الكثير من التعقيدات بالنسبة إلى ثاني أكبر عضو في الاتحاد الأوروبي في صنع القرار في بروكسل.
ليس لدى فرنسا تقليد حديث للحكومات الائتلافية أو الخبراء الفنيين. وفي حين أنّه على الورق وفي التكهنات الإعلامية، من الممكن تشكيل ائتلاف من القوى المناهضة لأقصى اليمين، فإنّه في الممارسة العملية سيكون من الصعب تحقيق ذلك. إذ إنّ هيمنة أقصى اليسار في فرنسا المتمردة تحت قيادة زعيمها الصلب ميلانشون، وإصراره الفعلي على مواجهة ماكرون بمطالب متطرفة، في الإصلاحات المحلية واتفاقيات التجارة، وغيرها من المسائل الحساسة والمهمة الأخرى، يمنع تشكيل ائتلاف وسطي مستقر مع ماكرون وحلفائه من يمين الوسط.
وبغض النظر عن الديناميكيات المحلية الدقيقة، فمن المرجح أن تنشغل باريس إلى حد كبير بشؤونها الخاصة في المستقبل المنظور. وفي الوقت نفسه، حتى لو تم تجنب أسوأ النتائج، فقد تآكلت مصداقية ماكرون ورأس ماله السياسي في نظر زعماء أوروبا بسبب سياساته المتهورة وخطئه الاستراتيجي غير المبرر المتمثل في الدعوة إلى انتخابات مبكرة في المقام الأول. ومن شأن هذا أن يضعف صوتاً مهماً في المواقف والتوجهات الأوروبية الأكثر طموحاً، من الإصلاح الداخلي إلى التعاون الدفاعي، ودعم أوكرانيا، واتباع مسار أكثر صرامة في التعامل مع الصين.
الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية
جان لوب سمعان، زميل أول في معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية يقول إنّ الائتلاف اليساري الفرنسي سيمثل الكتلة الأكبر في الجمعية الوطنية الجديدة، ولكن في غياب الأغلبية المطلقة، سيكون من غير الممكن تجنب التسويات لتشكيل حكومة مستقرة.
ومن اللافت أنّ السياسة الخارجية لفرنسا لم تكن من القضايا الرئيسية في الحملات الانتخابية التي استمرت 3 أسابيع، ولكنّ برنامج الائتلاف اليساري وزعماءه حددوا بعض جوانب سياستهم في الشرق الأوسط في حال فوزهم، وخاصة فيما يتعلق بغزة ولبنان. وفي كلتا الحالتين، لا يوجد في الواقع خلاف كبير بين اليسار وحزب ماكرون الوسطي.
لكن الائتلاف اليساري يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة بلا لبس، على عكس الحكومة المنتهية ولايتها التي دعت إلى ذلك بشكل موارب. وفي ما يتعلق بلبنان والمخاوف الوشيكة من اندلاع صراع جديد بين "إسرائيل" وحزب الله، كان موقف اليسار الفرنسي غامضاً ووعد فقط بتمكين القوات المسلّحة اللبنانية. وهذا مرة أخرى ليس نقطة احتكاك مع السياسة التي يقودها ماكرون، وهذا مطمئن.
ولعل التغيير الكبير الوحيد سيكون رمزياً، فقد كان الائتلاف اليساري صريحاً للغاية في المطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، على غرار العديد من الحكومات الأوروبية الأخرى في الأشهر الماضية. وقد فكّر ماكرون نفسه في الفكرة وقال إنّ القيام بذلك "ليس من المحرمات بالنسبة إلى فرنسا". وبصرف النظر عن إزعاج الحكومة الإسرائيلية الحالية، فإنّ مثل هذا القرار لن تكون له عواقب كبيرة على الأرض، وقد يكون أحد الأسباب التي قد تجعل ماكرون منفتحاً عليه في حكومة ائتلافية مع أحزاب اليسار، ولكن إلى جانب هذا، لا ينبغي لنا أن نتوقع تحوّلاً كبيراً في السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط.
نقله إلى العربية: حسين قطايا