"نيويوركر": أسباب مغادرة سوريا والعودة إليها

شهدت إحدى القرى الحدودية فرار بعض السوريين إلى لبنان، في حين احتفل آخرون بسقوط نظام بشار الأسد أو عادوا من المنفى بحثاً عن المفقودين. 

  • "نيويوركر": أسباب مغادرة سوريا والعودة إليها

مجلة "ذا نيويوركر" الأميركية تنشر مقالاً للكاتبة إليزا غريزوولد، التي أجرت مقابلات مع عائلات سورية غادرت سوريا، وأخرى تعود إليها، بعد سقوط النظام السوري، ناقلةً قصصهم وأسباب مغاردتهم وعودتهم إلى سوريا.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

يشير الرصيف المطلي باللونين الأحمر والأبيض في المنطقة المحايدة بين لبنان وسوريا إلى نهاية الحدود اللبنانية. وعلى بعد بضع مئات من الأقدام، توجد لافتة معدنية زرقاء مكتوب فيها، باللغتين الإنكليزية والعربية: "الجمهورية العربية السورية ترحب بكم". وفي مكان قريب، ظهرت صورة الرئيس المخلوع بشار الأسد على لوحة إعلانية للمصرف التجاري السوري.

في نهاية الأسبوع الفائت، كانت العائلات تجرّ حقائبها وتحمل البطانيات مسرعة في كِلا الاتجاهين. ومرّ المغادرون من لبنان عبر كشك في طوابير منظمة، حيث وضعوا جوازات سفرهم تحت حاجز زجاجي للحصول على طوابع الخروج. في حين أنّ المغادرين من سوريا قادوا سياراتهم تحت راية ممزقة تحمل صورة بشار الأسد ووالده حافظ الأسد، عبر نقطة تفتيش مهجورة. ومروا بمطعم بيلا لونا الإيطالي المنهوب، قبل أن يخرجوا من السيارات السورية وينتقلوا إلى التوك توك وسيارات الأجرة اللبنانية.

كان أسعد زين الدين، وهو طاهٍ سوري، يفرغ الأمتعة من شاحنة صغيرة في الجانب السوري، بينما كان هو وزوجته وأطفالهما الستة وحفيدان مشاغبان ينتظرون سيارة أجرة تقلهم إلى الحدود اللبنانية. في عام 2012، وبعد إعدام شقيق أسعد في السجن على يد النظام السوري، هرب وعائلته إلى جنوبي لبنان، بحيث افتتح محلاً لبيع السندويشات اسمه "فلافل لذيذة". وقبل عدة أشهر، عندما شنت "إسرائيل" غارات جوية على جنوبي لبنان، كجزء من حربها ضد حزب الله، أغلق أسعد متجره. وأعاد عائلته إلى سوريا، إلى جانب آلاف الأشخاص، بحثاً عن الأمان. 

واليوم، بعد أن أصبح احتمال حصول فوضى في سوريا يلوح في الأفق، كانت العائلة في طريق عودتها إلى لبنان. وقال أسعد، في معرض تعليقه على الوضع في سوريا: "قد نعود يوماً إلى سوريا". فهو أراد أن يرى كيف يتصرف أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، وهي جماعة إسلامية كانت مرتبطة سابقاً بتنظيمي "داعش" والقاعدة والرئيس الفعلي لسوريا في الوقت الراهن. وفي إشارة إلى رغبته في تشكيل حكومة فاعلة، تخلّى الجولاني عن اسمه الحرك،ي وأطلق على نفسه اليوم اسمه المدني أحمد الشرع. فبعد حرب أهلية وحشية دامت نحو 14 عاماً، وبدأت بانتفاضة ضد الأسد وأودت بحياة ما يقدر بنحو 600 ألف شخص، وعد الجولاني باحترام حقوق الأقليات الدينية، والتي تشمل في سوريا طائفة الأسد، العلويين. ومع ذلك، لا تزال هناك أسئلة تتعلق بالحقوق. وفي عام 2021، عندما عادت حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، أثنت هيئة تحرير الشام عليها.

وتساءل أسعد عما إذا كان هذا التغيير سيحمل معه البشرى للسوريين، قائلاً: "عندما يجلس الجولاني في كرسي الرئاسة، فمن يدري ماذا ستفعل به السلطة؟".

وعلى بعد بضع مئات من الأقدام، في سوريا، قام أنس مظلوم بتحميل كيس من الملابس في سيارة ابن عمه. وأنس شاب يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وله لحية حمراء كثيفة، فر من سوريا بمفرده عندما كان في الثالثة عشرة من عمره لتجنب الاضطرار إلى الانضمام إلى جيش الأسد، وسافر إلى بيروت لطلب المساعدة من اليونيسف. وقال: "كان النظام يسحب الأولاد من السيارات عند نقاط التفتيش". وبعد رحيل الأسد، عاد أنس إلى البحث عن شقيقه عبد الرحمن، صاحب محل حلويات في مدينة حماة، والذي اعتقله النظام عام 2014. وقد علم أنس بأنّ شقيقه قد نُقل إلى سجن صيدنايا، بحيث يُعتقد أن نحو 30 ألف شخص قُتلوا فيه. وقال في هذا الصدد: "آخر مرة سمعنا أنه في قيد الحياة من سجين آخر أطلق سراحه عام 2021". وكانت زوجة عبد الرحمن حاملاً في شهرها الثالث عندما ألقي القبض عليه، وكانت ابنتهما البالغة اليوم 10 أعوام تسأل باستمرار عن والدها.

ولمدة خمسة أيام، بحث أنس في السجون والمستشفيات عن شقيقه، لكنه لم يجد أي خيط يصله به. بدا وجهه متعباً ومرهقاً وارتسمت على جبينه خيبة الأمل؛ وكان ينام في المستشفيات الفارغة. ليأتي بعد ذلك ابن عمه، أحمد الزعتاني، ويصطحبه لرؤية والدته في حماة، التي تبعد ثلاث ساعات. وخطط أنس من أجل البقاء في حماة مدة شهر تقريباً قبل العودة إلى لبنان للعمل كعامل بناء. لم ينوِ أنس التوقف عن البحث عن أخيه، قائلاً: "سأبحث عنه لبقية حياتي".

وخلال حديثه إلى أحد المراسلين الأميركيين في وسط ميدان سوق مزدحمة، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره قبل أسبوع، قال الزعتاني: "لا أعرف أي شيء عن الجولاني، لكنه يُعد بطلاً بالنسبة إلينا لأنه أطاح الأسد. ويبدو لي أنه يحترم جميع الأديان". 

واقترب رجل اسمه خليل عبد النبي، وهو مصمم أزياء تملّكه الفضول للانضمام إلى هذه المحادثة. ومثل الكثيرين، فر من سوريا في أثناء الحرب لتجنب التجنيد الإجباري. 

وأوضح خليل أنه، قبل يوم واحد فقط، سمح زعيم هيئة تحرير الشام المحلي لمقاتلي حزب الله بالمغادرة من دون التعرض للهجوم، وغادر معهم كثيرون من السكان الشيعة. وقادنا عبر دوار إلى مجموعة مؤلفة من 10 رجال تقريباً يرتدون ملابس مموهة غير متطابقة، ومسلحين ببنادق "أيه كيه -47" (AK-47)، ويسلمون على بعضهم البعض. كانوا أعضاء في هيئة تحرير الشام، يطلقون على أنفسهم اسم "جنود التحرير"، وأوضحوا أنهم جاءوا للتو من سلسلة جبال لبنان الشرقية، التي تفصل سوريا عن لبنان. وكان يتوسطهم زعيمهم المدعو عبد الباري الأسعد، أحد أعضاء هيئة تحرير الشام والقيادي الذي كان يقاتل طوال الأعوام الثلاثة عشر  الماضية، وكان مسؤولاً عن مساحة 15 كيلومتراً مربعاً على طول الجبال.

وقال الأسعد إنه لم يتحدث قط إلى أي مراسل، ولم يكن حريصاً بشكل خاص على القيام بذلك اليوم، لكن في جو الاحتفال العام، وافق على التحدث إلينا، موضحاً: "لقد أعطت الصحافة صورة سوداوية عن الثورة وعنّا أيضاً". وأضاف: "نحن لسنا كما يتصور البعض"، في إشارة إلى وصفهم بأنهم متطرفون سنة. وقال إنّ جنوده وزعوا الخبز على الشيعة والمسيحيين الذين بقوا في البلدة، والذين كانوا خائفين في البداية من الخروج من منازلهم.

"جورج!" نادى الأسعد على أحد المارة الذي يرتدي قبعة بيسبول حمراء تحمل علامة "نايكي" وسترة عسكرية. ومازحه قائلاً: "لقد سمحنا له بارتداء ملابس مثلنا". وقال جورج إنه ينتمي إلى واحدة من العائلات المسيحية المتبقية في المنطقة، ويملك محل حلاقة في الشارع المقابل. وقال، وهو يحدّق في الرجال المسلحين المحيطين به: "أشعر بأمان شديد" (في وقت لاحق، قال على انفراد إنه على الرغم من حماسه لإطاحة الأسد، فإنه لا يزال غير متأكد من المستقبل الذي ينتظره). 

هذه الحماسة التي يشعر بها السوريون تخفي وراءها أموراً مقلقة. فكثيرون من الأشخاص، الذين تحدثت إليهم، يخشون من أنّ الأيام الأولى من التحرير كانت تسير وفق نمط مألوف، وأنها سرعان ما سيتم تغييرها بمنطق الطائفية والانتقام. في ذلك المساء، في المنطقة المحايدة، وهي عبارة عن حقل تتناثر فيه زجاجات المياه الفارغة، جلست أربع عائلات شيعية على بطانية نزهة حول مدفأة غاز، أفرادها خائفون ويشربون المتة. هذه العائلات قررت مغادرة سوريا في ذلك الصباح، بعد أن علمت بمقتل جيرانها في دمشق وجيران أبناء عمومتها في حمص. ولم يكن أفرادها متأكدين من هوية مرتكبي هذه الجرائم. وقال رجل اسمه أبو يوسف: "قال الجولاني إنه لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن كل ما يحدث". لذا، أغلق متجر اللُّعَب الخاص به، وجمع أخاه وأخته وأمه، واستقل سيارة أجرة إلى الحدود. واعترف شقيقه، الذي أطلق على نفسه اسم أبي علاء، بأنه كان في جيش الأسد فترة طويلة. وقال: "لقد كانت الأسعار مرتفعة، لكننا شعرنا بالأمان في ظل الأسد. نحن آخر عائلة شيعية تغادر منطقتنا". وأبقى مسؤولو الحدود العائلات تنتظر مدة 20 ساعة قبل أن يسمحوا لها في النهاية بالعبور. فدخلوا لبنان واستقلوا سيارة أجرة إلى سهل البقاع.

نقلته إلى العربية: زينب منعم.