"فورين بوليسي": مشاركة الولايات المتّحدة في سوريا إمّا الآن أو أبداً
قد لا تواجه سوريا مجاعة أو حرباً شاملة، ولكن لا يجب على الولايات المتحدة أن تضيّع فرصة إخماد إحدى أكبر الكوارث في القرن الحادي والعشرين.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً تقول فيه إنّ الإبقاء على الوضع الراهن من العزلة الاقتصادية في سوريا لن يؤدي إلا إلى معاقبة السوريين العاديين، وأنّ على الولايات المتحدة تنفيذ الإجراءات اللازمة للحد من ذلك.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
عقب إطاحة النظام السوري، كانت صورة تدفّق آلاف المعتقلين السياسيين وهم يخرجون من السجون الأكثر تأثيراً، وعلامة أمل وحزن مشتركة للآلاف الذين لم يخرجوا أبداً. وحين وصل مبعوث الأمم المتّحدة الخاصّ إلى سوريا غير بيدرسن، إلى سجن صيدنايا سيّئ السمعة بالقرب من دمشق، صرخت في وجهه إحدى السيدات، "أتيت الآن؟ لقد فات الأوان!". غضب هذه المرأة أكثر من مجرّد لائحة اتهام في وجه التقاعس العالمي خلال العقد الماضي تجاه السوريين، بل هو تحذير، للمجتمع الدولي الذي لطالما سارع إلى فرض تدابير عقابية، لكنّه كثيراً ما تباطأ عندما كانت تنشأ فرص ومتغيّرات إيجابية.
وفي اللحظة التي يجب أن يسارع فيها العالم إلى دعم السوريين، لا يوجد تحرّك حاسم من الولايات المتّحدة، بتقدير خاطئ يربط التوجّه والمشاركة في سوريا بالاعتراف السياسي بالسلطات الجديدة بزعامة "هيئة تحرير الشام"، وهي فرع سابق لتنظيم "القاعدة".
مع سقوط نظام بشار الأسد، ظهرت فرص جديدة لدعم الشعب السوري بشكل مباشر، من خلال أو من دون حكومة معترف بها، مع توفير معايير واضحة للحكومة الانتقالية لإطلاق العنان لفرص التعافي. وهذا واجب أخلاقي للتخفيف من معاناة السوريين الإنسانية، الذين يتحمّلون العقوبات الاقتصادية لا الحكومة السورية التي لم يختاروها ولم تعد موجودة أصلاً، وكلّ ذلك أدى إلى الانهيار الاقتصادي في البلاد، ودفع بملايين السوريين إلى الفقر والعوز وبيع كل أملاكهم.
في العام الماضي، قدّم المانحون ثلث المساعدات المحتاجة لسوريا فقط، وهو أدنى مستوى منذ عقد من السنين، والمطلوب زيادة المساعدات الإنسانية الطارئة، مع أنها ليست سوى حل أولي، ولا يمكنها تضميد الجرح الكبير لاقتصاد مدمر، حطمته الحرب وخنقته العقوبات الشاملة.
لقد كلّفت الحرب سوريا بالفعل 85% من قيمة ناتجها المحلّي الإجمالي وما يعادل 35 عاماً من التنمية. اليوم، يعيش 90% من السوريين في فقر. قريباً، قد يتسنّى لبعض اللاجئين السوريين البالغ عددهم 5.5 مليون لاجئ في الخارج العودة إلى بلادهم، لكنّ منازلهم ومدنهم مدمّرة، وقطاع الخدمات العامّة والبنية التحتية شبه مهترئة، ما يزيد مخاطر النزوح الداخلي المتكرّر للسكّان، وكلّ هذا وصفة كاملة للتوتّر وتجدّد العنف، ويترك سوريا عالقة في أزمة دائمة.
لا شكّ بالقيمة الاستراتيجية في اغتنام الولايات المتّحدة كلّ فرصة للتقليل من مخاوف انحراف سوريا نحو انهيار الدولة، ووقوع البلاد في فراغ أمني وهي تعاني خطر عودة "داعش"، أو الجماعات المسلحة الأخرى.
لكنّ الولايات المتّحدة تخاطر في تردّدها في المبادرة، ما يقوّض الاستقرار الذي تسعى إليه، مع أنّها إلى جانب معظم دول العالم وعلى مدى السنوات الـ 14 الماضية، أعربت عن تضامنها مع الشعب السوري، والآن إلى متى سيتعيّن على السوريين انتظار الإغاثة الاقتصادية؟
هناك 3 خطوات يجب على إدارة ترامب أن تعطيها الأولوية لوضع الأساس لخارطة طريق اقتصادية مفيدة لسوريا، وتحفّز الدعم العالمي لها كذلك:
أوّلاً، يجب على واشنطن تخفيف العقوبات، عن السوريين المحتاجين إلى الوصول الفوريّ إلى المزيد من المساعدات الإنسانية والنشاط التجاري والواردات لبدء التعافي. وفي خطوة أولى مرحّب بها، أصدرت إدارة بايدن إذناً جديداً هذا الشهر، يتيح التعامل مع الحكومة الانتقالية، بما في ذلك دفع رواتب موظّفي الخدمة المدنية. ومع ذلك، هذا نطاقه محدود. لأنّ الترخيص المذكور فشل في رفع العقوبات أو السماح بأنشطة تجارية واسعة النطاق والاستثمار الخاصّ والمساعدة الفنّية للمؤسّسات المالية. ومدّة نصف السنة التي تريد خلالها واشنطن مراقبة الحكومة الانتقالية في دمشق، تشكّل مخاطرة بأن تكون مدّةً قصيرة لا تنتج ثقة حقيقية أو تغييراً دائماً، وتتجنّب الإجابة عن السؤال الأساسي عن تصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظّمة إرهابية. ومن غير الواضح إذا كان التصنيف المذكور ينطبق على الحكومة الانتقالية بأكملها.
سوريا عالقة في شبكة من القيود القانونية المتناقضة، ويبدو أنّها ترث جميع العقوبات الأميركية المفروضة على النظام السابق، والتي فرضت لأوّل مرّة مع تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب في عام 1979، واشتدّت لاحقاً بعد اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011. والآن بينما يهلّل القادة الأميركيون لسقوط نظام الأسد، أكّدت إدارة بايدن بهدوء هذا الشهر أنّ العقوبات الرئيسية في عهد الأسد لا تزال سارية اليوم.
على الولايات المتّحدة أن ترى أنّ هذه حكومة جديدة في السلطة، وهي تمثّل جماعات متنوعة، وليست رديفة لـ "هيئة تحرير الشام" أو النظام السابق. ويتوجّب على واشنطن أيضاً إعادة النظر في تصنيفها لمنظّمة أجنبية أنها إرهابية مثل "هيئة تحرير الشام"، لأنّه تصنيف غير مناسب استخدامه مع الجماعات التي تحكم عدداً كبيراً من السكان، ويولّد مخاطر جنائية لعمّال الإغاثة والشركات والتجّار وغيرهم إذا قدّمُوا دعماً ما للمصنّفين. من جهة أخرى، يجادل مؤيّدو التصنيف في سوريا بأنّه يجب أن يبقى على حاله كوسيلة ضغط. لكنّهم، يغضون النظر عن إمكانية استخدام وسائل أخرى، من حظر السفر إلى العقوبات المفروضة على القادة الأفراد إلى حظر الأسلحة، من دون إلحاق مثل هذا الضرر بالسكان المدنيين عبر العقوبات الشاملة.
ومن شأن تخفيف العقوبات الأميركية وإصدار أذونات أوسع للنشاطات أن يمنحا الأوكسجين للاقتصاد السوري المتعثّر، ويتيح إعادة الإعمار بعد الحرب في بلد تتعرّض فيه معظم القطاعات للخراب من الزراعة إلى الكهرباء. إذا كانت العقوبات الأميركية تهدف إلى شلّ الحكومة السورية، فيجب أن يفهم استمرارها على أنّه يعرض نجاح السلطات الانتقالية للفشل في مثل هذا الوقت العصيب.
ثانياً، يجب على الولايات المتّحِدة أن تدعم إنهاء تعليق برامج البنك الدولي في سوريا السارية منذ 14 عاماً، كي يستطيع السوريون استعادة الخدمات الأساسية المتضمّنة شؤون الصحّة والمياه والمدارس. وعلى واشنطن الاستفادة من نفوذها كأكبر مساهم في البنك الدولي للضغط من أجل حزمة عاجلة من الاحتياجات الرئيسية لسوريا. كذلك أنّ إحياء هذه البرامج سيكون فرصة قوية للبنك الدولي ومهمّته الجديدة، ونشاطه الأكثر مرونة من الحكومات في التعامل مع الجهات المختلفة في البيئات الهشّة ومناطق الصراع، وخصوصاً في الأماكن التي تغيب عنها حكومة معترف بها أو دولة قادرة، إذ يمثل شركاء المجتمع المدني هؤلاء الخيار الوحيد لاستعادة الخدمات بسرعة.
لقد سمح ترخيص بايدن الحاسم بدفع رواتب موظّفي الخدمة المدنية الأساسيين، مثل الأطباء والمعلّمين. وقد تمّ تصميم هذا النهج بنجاح في أماكن مثل اليمن وأفغانستان، حيث حوفظ على الخدمات العامّة الأساسية من خلال توجيه التمويل بشكل مستقلّ إلى العمّال والموظّفين. الآن، أكثر من نصف المحافظات السورية تفتقر إلى عدد كاف من العاملين في قطاع الصحّة، في حين أنّ بعض الأطبّاء لا يستطيعون حتّى تحمل تكاليف الانتقال إلى مراكز العمل.
وينبغي للبنك الدولي أن يساعد في تمويل الرواتب إلى جانب برامج واسعة النطاق لمساندة سبل العيش واستعادة خدمات الصحة والمياه والصرف الصحّي. وما يقرب من 40% من المرافق الصحّية الرئيسية أو الثانوية غير عاملة جزئياً أو كليّاً. إنّ استعادة النظام الصحّي في سوريا ليست مجرّد ضرورة عملية، بل إنّها مسألة أخلاقية بالضرورة.
أخيراً، يجب على الولايات المتّحدة تطوير مسار لإعادة دمج المؤسسات المالية السورية في النظام العالمي. لأنّ المعاملات المالية واسعة النطاق المطلوبة لبرامج التنمية الكبرى والاستثمار الأجنبي والنشاط التجاري على نطاق واسع تواجه تحدّياً إذا لم تكن المصارف السورية مرتبطة بالاقتصاد العالمي، ما يجبر المنظّمات على استخدام حلول بديلة مثل النقد ونظام الحوالة. سيكون من الصعب أيضاً تحقيق فوائد من أيّ تخفيف للعقوبات من دون بنك مركزي فعال ووزارة مالية قادرة على إدارة الاقتصاد.
وعلى المؤسسات المالية الدولية العمل مع سوريا لإجراء تقييمات مستقلّة للنظام المالي السوري بسرعة وتحديد الإصلاحات الضرورية. يمكن للولايات المتّحدة أن تضع معايير، مماثلة لتلك المرسومة لأفغانستان، وتطلب من المؤسّسات المالية السورية أن تكون متحرّرة من النفوذ السياسي، وبإدارة التكنوقراط، ومجهّزة بضمانات قوية لمنع الفساد أو تمويل الإرهاب، وهو قلق يمكن أن يكون له تأثير مخيف كبير مثل العقوبات.
إذا استوفت السلطات السورية المعايير الأوّلية للسياسات، بما يدلّ على الإرادة السياسية للالتزام بالمعايير المصرفية الدولية، يمكن لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تقديم مساعدة فنية مباشرة لإعادة بناء قدرة سوريا على تنفيذ هذه الإصلاحات. ولدى المجتمع الدولي مصلحة راسخة في رؤية تحوّل سوريا نحو القنوات المالية الرسمية والتنظيم والرقابة.
وعلى الولايات المتحدة أن تدعو إلى عقد اجتماع حول سوريا مع البنك وصندوق النقد الدوليين في أبريل/نيسان المقبل، لحشد الدعم الاقتصادي الأوسع نطاقاً لمرحلة ما بعد الحرب عبر المجتمع الدولي.
قد لا تواجه سوريا مجاعة أو حرباً شاملة، ولكن في الوقت الذي يحترق فيه العالم، لا يمكننا أن نضيّع فرصة إخماد إحدى أكبر الكوارث في القرن الحادي والعشرين.
نقله إلى العربية: حسين قطايا