"فورين بوليسي": في لبنان كما غزّة.. النزوح القسري أداة حروب "إسرائيل"
في لبنان كما في غزّة، تفشل العملية الإسرائيلية بتحقيق أهدافها عن طريق آلاته العسكرية والقصف الوحشي للمدنيين الأبرياء، في خرق صارخ لكلّ القوانين الدولية وانتهاك موصُوف لحقوق الإنسان بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً للأستاذتين والباحثتين الجامعيتين في الولايات المتحدة لمى مراد وسارة باركنسون، تتحدثان فيه عن استخدام "إسرائيل" النزوح القسري كأداة حرب، تنتهك من خلالها حقوق الإنسان والمواثيق الدولية.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
في 27 من أيلول/سبتمبر، أسقط "الجيش" الإسرائيلي عشرات الآلاف من أرطال الذخائر الخارقة للتحصينات على حي سكني في الضاحية الجنوبية لبيروت. وكان قادة حزب الله مجتمعين في ذلك الوقت؛ وأسفرت العملية عن اغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله.
وقد دمّرت "إسرائيل" ستة مبان سكنية بالكامل، وتضررت مبان أخرى إلى الحد الذي جعلها غير صالحة للسكن. ورغم أنّ عدد القتلى الرسمي بلغ 33 شخصاً، فضلاً عن 195 جريحاً، فقد أشار المسؤولون اللبنانيون إلى أنّ العديد من الضحايا ربما دُفنوا أو احترقوا بالكامل بسبب الانفجارات. وقال مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية بأنه "لم ير قط مثل هذا العدد من القنابل المستخدمة ضد هدف واحد"، بحسب ما نقلته صحيفة "واشنطن بوست".
قبل ذلك، في منتصف الشهر الماضي، فجّرت "إسرائيل" الآلاف من أجهزة "البيجر"، بعد تفخيخها بمؤامرة مُعقّدة، مُوقعَة عشرات القتلى والآلاف الجرحى من عناصر حزب الله ومن المدنيين أيضاً.
ثم في 23 من أيلول/سبتمبر، كثّفت "إسرائيل" ضرباتها الصاروخية على لبنان بسرعة. وكان ذلك اليوم الأكثر دموية في البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990. وفي الثلاثين من أيلول/سبتمبر، أعلنت "إسرائيل" غزوها البري للبنان. ومنذ ذلك الحين، توسعت الحملة الجوية الإسرائيلية. ورد حزب الله بإطلاق وابل من الصواريخ، ووصل بعضها إلى المدن الإسرائيلية.
وأسفرت الضربات الإسرائيلية عن مقتل أكثر من 1400 شخص في غضون أسبوعين، أغلبهم من المدنيين. ويتجاوز هذا العدد بالفعل عدد القتلى الكلّي في حرب 2006 بين "إسرائيل" وحزب الله، التي استمرت 34 يوماً، كما يرفع إجمالي القتلى في لبنان بسبب القصف الإسرائيلي منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى أكثر من 2000 شخص.
وإلى جانب الخسائر الفادحة في الأرواح، فقد أدّى الهجوم الإسرائيلي الأخير على لبنان إلى نزوح أكثر من 1.2 مليون إنسان، أي ما يقرب من ربع سكان البلاد. والآن تغطي أوامر الإخلاء الإسرائيلية ربع الأراضي اللبنانية. وهذه هي أكبر أزمة نزوح يشهدها لبنان حتى الآن في كلّ تاريخ الاعتداءات الإسرائيلية الطويلة. وكما في فلسطين كذلك في لبنان، يستخدم ساسة "إسرائيل" بنشاط النزوح الطويل وربّما الدائم، كتكتيك ضغط ضدّ المدنيين اللبنانيين.
كما اعتبرَ العديد من المسؤولين الإسرائيليين النزوح الواسع من جنوب لبنان فُرصة، لصالح إنشاء "منطقة عازلة أو "منطقة أمنية على الحدود مع لبنان. وهذا من شأنه، على حدّ تعبير المعلّق في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوسي يهوشوا، أن يتضمّن "تطهير أرض جنوب لبنان" من السكّانِ"، ما يعني منع عودتهم بحكم أمر واقع الاحتلال العسكري، الذي ينتهك كلّ الأعراف والقوانين الإنسانية والحقوقية الدولية، خصوصاً أنّ "إسرائيل" ليس لديها المبرّرات الكافية للقيام بذلك، ولم تأخذ في الاعتبار سلامة المدنيين وكرامتهم بشكل كاف.
إنّ أطراف أي نزاع، مُلزمة بمعاملة المدنيين بإنسانية وحمايتهم من آثار الأعمال العسكرية بحكم القوانين، وأنّ القوّة التي تفرض النزوح القسري ترتكب جريمة حرب بسبب تأثيراته الضارية على الاقتصادات المحلّية والبنى الاجتماعية بشكل عميق. إذ يفهم السكّان أوامر الإخلاء والنزوح القسري على أنّهما عقابٌ جماعي، و"إسرائيل" تقوم بذلك.
وتستخدمُ حياة المدنيين اللبنانيين كسلاح غايته زعزعة استقرار لبنان، وكلّ جيرانه من الدول العربية والإسلامية. كذلك، تُغذّي صور الكارثة الإنسانية غضب الشعوب في العالم واستياءها تجاه "إسرائيل"، الأمر الذي يصعدُ من الاستقطابات الحادّة في المنطقة، ما يتطلّب إرساء التهدئة ووقف إطلاق النار الضروري فوراً.
قبل العدوان الإسرائيلي، استضاف لبنان أكبر عدد من النازحين الفلسطينيين والسوريين أكثر من أي دولة في العالم نسبة لعدد مُواطنيه. ويعيش فيه ما يقرب من 1.5 مليون سوري ونحو 210 آلاف فلسطيني في مناطق تأثرت بشدة بالهجمات الصاروخية والقصف العشوائي الإسرائيلي.
ومُنذ يوم 23 الشهر الفائت، وسّعت "إسرائيل" من عدوانها، وقصفت عشرات المدن والبلدات في الجنوب والعاصمة بيروت، وفي أنحاء مُختلفة من جبل لبنان، وكلّ مناطق سهل البقاع بما فيها المعبر الحدودي بين لبنان وسوريا. وقد تسبّبت عمليات النزوح الكبيرة للبنانيين من قراهم ومدنهم باختناقات مُرورية مُحوّلة ما كان عادة رحلة قصيرة لمدّة ساعة ونصف أو ساعتين إلى العاصمة، إلى رحلة شاقّة لمدّة 10 ساعات أو حتّى أطول.
والآن، مع استمرار "جيش" الاحتلال باستهداف المدنيين وَقُراهم ومُدنهم، يتوقّع العديد من اللبنانيين الذين نزحوا أوّل مرّة أن يُعاودوا الكرة والانتقال إلى مكان يعتقدون أنّه أكثر أمناً. ولقد أدّى هذا النزوح الجماعي إلى إجهاد لبنان الذي يُعدّ موطناً للعديد من مُنظّمات الإغاثة الدولية بِما في ذلك برنامج الغذاء العالمي، ووكالة الأمم المتّحدة للاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأونروا"، المنظّمة التي تُعاني بضراوة من نقص التمويل المزمن. على الرغم من أنّ "الأونروا" تُدير حالياً 11 ملجأ طوارئ تؤوي 4570 من النازحين الفلسطينيين من مخيّمات لبنان. إلّا أنّ "الأونروا" اضطرّت إلى وقف مُعظم عملياتها في مدينة صور الجنوبية بسبب التهديدات الإسرائيلية بقصف مراكزها. كذلك كانت المنظّماتُ الدولية الأخرى بطيئة في الاستجابة للحرب المتصاعدة على بلاد الأرز.
عدم الاستجابة الدولية لأزمة النازحين اللبنانيين، قابله استجابة وطنية واسعة من القطاعين العام والخاصّ على حدّ سَواء. وسادت الاستجابات المحلّية من مُؤسّسات وجمعيات غير رسميّةٍ، وتمّ إنشاء نحو 1000 مأوى جماعي على مدى الأسابيع القليلة الماضية، من ضمنها المدارس الحكومية والخاصّة، وكذلك مُعْظم الفنادق في جميع أنحاء البلاد، إلى جانب عدد من المبادرات الخاصّة التي توفر المأوى والإغاثة لآلاف آخرين.
عموماً، كانت الاستجابات الشعبية للأخوّة بين اللبنانيين ملحوظةً بجدارة. والاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على اللبنانيين في ظلّ وهنّ مُؤسّسات الدولة قد نشّطت الروح الوطنية لديهم لحشد المستطاع في سبيل دعم المحتاجين.
إنّ العدوان الإسرائيلي على لبنان، يزيد على البلد المرهق اقتصادياً أعباء إضافية ضخمة. ففي عام 2019، انهار القطاع المصرفي بسبب الفساد المحلّي المتّصل بالفساد السياسي والأخلاقي والمالي في مركز الإمبريالية في الولايات المتحدة، وخسرت العملة الوطنية اللبنانية 98% من قيمتها. والدمار الواسع النطاق للقرى الحدودية اللبنانية، فضلاً عن البنية الأساسية الحيوية مثل المستشفيات، يثير المخاوف من أنّ النازحين قد لا يجدون مسارات قابلة للتطبيق للعودة إلى ديارهم عندما يتوقّف القتال. وقد حذّر العديد من الخبراء بالفعل من أنّ الذخائر الإسرائيلية المنتشرة في جنوب لبنان ستؤثّر في الغلّة الزراعية، من ضمنها شجر الزيتون الذي يعتمد معظم المزارعين على محصوله. وقبل أيام فقط، ضرب "جيش" الاحتلال الإسرائيلي قناة رئيسية للمياه في الجنوب اللبناني، ما أدّى إلى غرق المناطق المحيطة وحرمان مناطق أخرى منها.
مناطق ومدن الجنوب ووادي البقاع، هي الأكثر تضرّراً من ضربات العدوان الإسرائيلي، وهي المراكز الزراعية في البلاد. كما اعتدت "الدولة" الصهيونية على المناطق الساحلية من الناقورة إلى نهر الأوّلي، ما حرم الصيادين كذلك في هذه المنطقة من سبل عيشهم.
لطالما استخدمت "إسرائيل" النزوح القسري كسلاح سياسي مألوف للغاية بالنسبة إلى الفلسطينيين واللبنانيين الذين يُدْركون بعمق أطماع "الدولة" الصهيونية، التي تعتمد استراتيجية تؤمن بأنّ النازحين والمرهقين وغير الآمنين اقتصادياً سوف يضغطون بطريقة ما على حركة حماس وحزب الله للتراجع عن المقاومة. ولكن هذا التكتيك لم ينجح ضد الفلسطينيين المقاومين في غزّة، وَلم ينجح في المرة الأولى التي حاول فيها الإسرائيليون ذلك في لبنان في العام 1982، وحرّرته المقاومة في العام 2000. وكما يحدث اليوم، نزح المدنيون من المنطقة الحدودية مع فلسطين المحتلة، واستقر العديد منهم في الضاحية الجنوبية لبيروت، لكنّهم خاضوا مع حزب الله، و حركة أمل وقوى المقاومة الوطنية الأخرى مواجهة الاحتلال وحرروا أرضهم بالنهاية. عل هذا يُفهم حكومة "تل أبيب" عن أنّ شقّ طريقها إلى الهيمنة على المنطقة بالقنابل فاشل، ولن يسمح له بالنجاح.
نقله إلى العربية: حسين قطايا