"بوليتيكو": تحوّل فرنسا التاريخي الآن شبيه بالأمس
الجبهة الشعبية الجديدة تقف على أعتاب انتصار يحمل في طياته القدرة على تغيير مسار التاريخ الفرنسي.
صحيفة "بوليتيكو" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب روبرت زاريتسكي، يتحدّث فيه عن الواقع السياسي في فرنسا بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، وكيف يمكن أن تغيّر مسار التاريخ الفرنسي.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
منذ أن حلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل مفاجئ الجمعية الوطنية ودعا إلى انتخابات مبكرة، نظر العديد من المراقبين إلى ماضي فرنسا السياسي الثري لاستلهام ما قد يحمله المستقبل بشكل أوضح. ومن المؤكد أن تتصدّر أمامهم أزمة العام 1958، التي دفعت إلى ظهور الجمهورية الخامسة، أو أزمة عام 1940، حين احتلت فرنسا من قبل ألمانيا وتشكيل حكومة فيشي المتعاونة مع برلين.
مع ذلك، هناك أزمة تاريخية أخرى تعود إلى عقود مضت لم يتمّ الانتباه إليها، وهي أزمة الـ 16 من شهر أيار/مايو في العام 1877، حيث يظهر المأزق السياسي آنذاك، كأنه انعكاس للمأزق الحالي، وكلاهما يتمتعان بتأثير عميق على مسار التاريخ الفرنسي. والأمر الأكثر أهمية أنّ ما قد يحدث ليس قاتماً إلى الحد الذي تشير إليه أغلب التقارير.
في العام 1877، كانت فرنسا تتعافى للتوّ من كارثة عسكرية مؤلمة على أيدي الجيش البروسي، عقب قمع "كمونة باريس" الدموي وهي (أول ثورة عمّال اشتراكية في التاريخ)، على أيدي الجيش الفرنسي الجمهوري، حيث واجهت الجمهورية الثالثة التي نشأت من هذه الكوارث تحدّياً من قبل القوى الرجعية المعروفة باسم "النظام الأخلاقي"، والتي سعت إلى استعادة النظام الملكي، وبلغ هذا الصراع ذروته عندما اكتسحت أغلبية جمهورية كبيرة مقاعد الجمعية الوطنية نتيجة الانتخابات.
كان الرئيس آنذاك الجنرال البونابرتي باتريس دي ماكمهون، أبرز زعماء "النظام الأخلاقي"، والذي سارع حينها إلى حلّ الجمعية الوطنية المنتخبة حديثاً قبل الدعوة إلى انتخابات جديدة، لأنّه كان واثقاً من أنّ الناخبين الفرنسيين سوف يعودون إلى رشدهم، وفعلاً قاموا بذلك وانتخبوا مرة أخرى أغلبية جمهورية كاسحة.
في النهاية أقرّ ماكمهون بالهزيمة واستقال من منصبه الرئاسي. وكان لاستسلامه تأثير عميق ودائم على العلاقة بين موقع الرئيس والبرلمان في الجمهورية الثالثة، حيث لم يعد الرئيس يستسهل تحدّي الجمعية الوطنية وتهديدها بالحل، الأمر الذي عزّز من الهيمنة السياسية للجمعية الوطنية حتى انهيار الجمهورية في العام 1940.
اليوم، من الصعب أن ندرك الكثير مما يجري بالضبط في المشهد السياسي الفرنسي المتغيّر بسرعة. رغم أنّ صفة "غير مسبوق" أُسيء استخدامها على مدى الشهر الماضي، لكن غير المتوقّع الحاصل لا يمكن إنكاره. ولم يسبق للجمهورية الخامسة أن شهدت أقصى اليمين يقترب إلى هذا الحد من السلطة، ولم يسبق لرئيس في السلطة أن اقترب إلى هذا الحد من العجز، ولم يسبق لفرنسا أن شهدت ائتلافاً يسارياً راديكالياً يتّحد بمثل هذه السرعة وبنجاح باهر.
بطبيعة الحال، هناك فارق أساسي بين الجمهورية الثالثة في بداياتها والجمهورية الخامسة التي دخلت مرحلة الشيخوخة، فالآن هناك 3 كتل سياسية وأيديولوجية، وليس كتلتان. ولكن في حين كان أداء حزب النهضة الذي يتزعمه ماكرون أفضل من المتوقّع، بحسب ما ذكرت صحيفة "لوموند"، بالكاد تمكّن رئيس الوزراء غابرييل أتال من إنقاذ ما يمكن إنقاذه من كارثة ماكرون، لكن يبقى الحزب محكوماً عليه بالموت وليس بالولادة الجديدة.
على الرغم من أنّ التجمّع الوطني بزعامة مارين لوبان لم يحصد كما توقّع خبراء استطلاعات الرأي بأغلبية مطلقة أو حتى نسبية، لكنه زاد حصته من الأصوات إلى مستويات غير مسبوقة، من 9 ملايين في الجولة الأولى إلى أكثر من 11 مليون صوت في الجولة الثانية. كذلك، يحمل حزب لوبان أكثر من مجرّد تشابه عابر مع "النظام الأخلاقي" في ردّ فعله التحسسي تجاه المثل العليا "الحرية والمساواة والإخاء"، فضلاً عن مزيجه البونابارتي وتطلّعه نحو الحكم الاستبدادي بقناع ديمقراطي.
على غرار الجمهوريين بقيادة ليون غامبيتا في العام 1870، تقف الجبهة الشعبية الجديدة على أعتاب انتصار من شأنه أن يحمل في طياته قدرة على تحويل مسار التاريخ الفرنسي، وقد تحوّل الجبهة اليسارية الجمهورية الخامسة التي أسسها شارل ديغول في عام 1958 إلى الجمهورية البرلمانية التي تصوّرها غامبيتا، وإن لم يستطع تحقيقها بالكامل قبل قرن ونصف قرن من الزمن.
بعد أن تفاجأ الجميع بفوز الجبهة الشعبية الجديدة بالمركز الأول، بينهم قادة الجبهة وقواعدها، أعلن أتال أنّ مركز الثقل السياسي سوف يكون في أيدي البرلمان الآن أكثر من أي وقت مضى، هو ما كان يتمنّاه ويطلبه معظم أحزاب الوسط والاشتراكية والبيئية التي ترى منذ فترة طويلة أنّ على السلطة أن تعود إليها كونها قادرة على تشكيل ائتلافات حاسمة.
بالطبع يبقى أمام الجبهة اليسارية قوى هائلة داخلية يتعيّن التغلّب عليها، في مقدّمتها مارين لوبان وإيمانويل ماكرون الذي سوف يستخدم ما لديه من سلطات، من حريته في اختيار من يرغب في تشكيل حكومة جديدة، وتقويض مشروع زعيم الجبهة الشعبية الجديدة جان لوك ميلينشون لتشكيل حكومة فعّالة.
مع ذلك، المخاطر الكبيرة التي تواجه الائتلاف اليساري تنبع من داخله وتهدّد بانهياره. فحتى اللحظة لم تتفق قيادة الجبهة الشعبية الجديدة على مرشّح لمنصب رئيس الوزراء، مع أنّ فرنسا في عزّ التحوّل التاريخي الآن وتنتظر أن لا يفشل زعماء اليسار في التحوّل معها.
نقله إلى العربية: حسين قطايا