مسؤول سابق في "السي آي إيه": الانسحاب من أفغانستان يعكس الحدود الجديدة للقوة الأميركية

المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية غراهام فولر يقول في مقال له إن الانسحاب الأميركي من أفغانستان كان مفاجئاً لصانعي السياسة الحاليين أكثر من المراقبين الذين لديهم إلمام طويل بديناميكيات هذا البلد.

  • مقاتلو حركة طالبان في كابول. الصورة لجيتي إيماجيس.
    مقاتلو حركة طالبان في كابول. الصورة لجيتي إيماجيس.

كتب المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية غراهام فولر، مقالة في موقع "ريسبونسبل ستيت كرافت"، تناول فيها الانسحاب الأميركي من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على السلطة في كابول. وقال إن الأمر مفاجئاً لصانعي السياسة الحاليين أكثر من المراقبين العديدين الذين لديهم إلمام طويل بديناميكيات أفغانستان.

وتابع "الأمر كان حتمياً منذ فترة طويلة نظراً للطموحات غير الواقعية والتنفيذ السيء للسياسة التي حافظت عليها واشنطن في أفغانستان. لسوء الحظ، فإن تلك الآراء الأكثر قتامة، ولكن الأكثر دقة حول المشروع بأكمله، قد خُنقت إلى حد كبير من قبل وسائل الإعلام لدينا".

وأضاف: يجادل جميع المحافظين الجدد، الإمبرياليون الجدد، بأن رحيل الولايات المتحدة والانهيار اللاحق لحكومة كابول هما أمران مدمران بشدة "لمصداقية" أميركا كقوة عظمى في العالم. الأيديولوجية الأساسية لوجهة النظر هذه هي بالطبع المفهوم المتمثل في أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل كشرطي عالمي في كل مكان، وأن الفشل في القيام بذلك هو علامة على الضعف والانحدار.

واعتبر فولر أن هذا الخط من التفكير متخلف على وجه التحديد: إن الانحدار العام لأميركا محلياً وجيوسياسياً هو العلامة الواضحة على ضعفها الأعمق. هناك اعتقاد دولي متزايد بأن الولايات المتحدة تعيش داخل فقاعة خيالية من الإنكار بشأن الحفاظ على هيمنتها العالمية. إذا كان الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان لمدة 20 عاماً قد أظهر بالفعل أي تقدم ملموس جاد نحو أهداف ملموسة، فسيكون ذلك شيئاً واحداً. لكن المحافظين الجدد يكتفون برمي أموال تلو أخرى في السعي الأعمى للهيمنة - حتى في قلب "مقبرة الإمبراطوريات".

على المستوى الإنساني، بالطبع، المهم هو مصير الأفغان في ظل حكومة طالبان الجديدة. عانى الشعب الأفغاني في ظل الحروب المتكررة والمستمرة والتدخل العسكري منذ عام 1978، بدءاً من الانقلاب المحلي الذي قام به الشيوعيون الأفغان، تلاه الغزو السوفياتي، والسنوات اللاحقة من القتال لطرد السوفيات من قبل مجموعات "المجاهدين" المدعومة من الولايات المتحدة، وما تلاه من الحرب الأهلية التي أعقبت ذلك بين المجاهدين والتي أنهتها "طالبان" أخيراً باستعادة النظام والانضباط، بنوع من العدالة القاسية والجاهزة.

ورأى الكاتب أن تركيز واشنطن على أفغانستان لم يكن له علاقة تُذكر بتأسيس مجتمع أفضل وأكثر إنصافاً للأفغان. فالدافع الظاهري للغزو الأميركي كان اسمياً لتدمير وجود تنظيم القاعدة في أفغانستان. لكن السبب الأعمق للغزو الأميركي والاحتلال الطويل الأمد كان أكثر تحديداً لإنشاء موطئ قدم عسكري وجيوسياسي في آسيا الوسطى على حدود روسيا والصين. لم يتم التعبير عن هذا الطموح بشكل صريح، ولكن كان مفهوماً بوضوح من قبل جميع القوى الإقليمية. كانت جوانب "بناء الدولة والجوانب الإنسانية" للاحتلال الأميركي إلى حد كبير زينة بارزة لتغطية الطموحات الجيوسياسية لواشنطن. هذه الطموحات لم تمت بالكامل حتى الآن بين المحافظين الجدد والتدخليين الليبراليين في الولايات المتحدة.

وقال فولر: شئنا أم أبينا، فإن السمة الرئيسية لـ"الجغرافيا السياسية لما بعد أميركا" الجديدة ستكون العودة إلى حالة طبيعية أكثر من الناحية التاريخية للشؤون العالمية يشارك فيها لاعبون متعددون. وفي هذه الحالة، سيكون للاعبين المتعددين التأثير الأكبر على مستقبل أفغانستان - ربما للأفضل. الحقيقة هي أن الدول الثلاث التي تعتبرها الولايات المتحدة أعداء - إيران وروسيا والصين - تشترك جميعها مع واشنطن في نفس الأهداف الرئيسية لمستقبل أفغانستان: الاستقرار وإنهاء إراقة الدماء وإنهاء الجهاد. لكن هذه الدول الثلاث تتحد كذلك في معارضة شديدة للتدخل والهيمنة الأميركيين في أفغانستان وآسيا الوسطى.

وأضاف: في حقبة أخرى، ربما لم تهتم "طالبان" كثيراً بوجهات نظر هذه الدول المجاورة، لكن آسيا الوسطى أصبحت اليوم مكاناً مختلفاً. وأفغانستان في حالة يرثى لها، وبغض النظر عن السياسات الاجتماعية لطالبان، فهم بحاجة أيضاً إلى إعادة البلاد إلى الحد الأدنى من الازدهار والسلام. تتمتع الصين، على وجه الخصوص، بأكبر قدر من النفوذ السياسي والاقتصادي للمساعدة في مستقبل أفغانستان. تبرز أفغانستان في خطة الصين الطموحة وذات الرؤية الخاصة بمبادرة الحزام والطريق عبر آسيا الوسطى في إعادة إنشاء آسيا الوسطى المرتبطة اقتصادياً والتي لم يتم ربطها كثيراً منذ أيام جنكيز خان. "ستبذل الصين جهوداً كبيرة لمحاولة ضمان أن تحافظ "طالبان" على الاستقرار وتتجنب أي دعم للحركات المتطرفة التي لا تؤثر فقط بشكل كبير على الصين في شينجيانغ، بل تؤثر كذلك على روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى، وعلى أمن إيران الشيعية، وهي هدف منتظم للفكر الجهادي السني".

لا ترغب أي من هذه الدول - إيران أو الصين أو روسيا - في رؤية الولايات المتحدة تثبت وجودها عسكرياً في قلب آسيا الوسطى، وبالتالي فهي سعيدة برؤية واشنطن تتخبط في ذلك الاحتلال. بمجرد إزالة النفوذ العسكري الأميركي من قلب آسيا الوسطى، تصبح أفغانستان المزدهرة والمستقرة في مصلحة الجميع.

لا تزال باكستان تمثل ورقة جامحة، لكن مصلحة باكستان المهيمنة هي ضمان أن تظل حدودها الشرقية مع أفغانستان آمنة وودودة، وخاصة أن الجارة الغربية لباكستان - الهند - تشكل أكبر تهديد استراتيجي لإسلام أباد. لا يمكن لباكستان أن تتسامح مع قوى غير ودية على كلا الحدود. وستبذل قصارى جهدها للحفاظ على علاقات عمل لائقة مع كابول. وبطبيعة الحال، فإن الصين تدعم باكستان كحلقة وصل رئيسية في مبادرة الحزام والطريق الأوروبية الآسيوية. كما يجب على باكستان أن تهتم بالطابع البشتوني لحركة طالبان؛ فبعد كل شيء، يوجد عدد من البشتون في شرق باكستان أكثر مما يوجد في أفغانستان نفسها. وتشكل القومية البشتونية المتصاعدة مصدر قلق دائم لإسلام أباد أيضاً.

وتابع الكاتب أنه سيتعين على واشنطن أن تلعق جراحها في مغادرة أفغانستان المهزومة بعد عشرين عاماً من الاحتلال، لكنها لا تستطيع الاستمرار في سياسة مكلفة وخاسرة. وسيحاول الأحمق فقط درء القوة الجيوسياسية لروسيا والصين، وحتى إيران، عبر مساحات شاسعة من أوراسيا. إضافة إلى ذلك، بينما استخدمت واشنطن بشكل أساسي الأدوات العسكرية لمحاولة فرض هيمنتها حول العالم، تعمل موسكو وبكين على المسار الدبلوماسي، بنجاح أكبر بكثير.

وتساءل فولر: ماذا يمكن أن تكون طبيعة الحكومة التي تهيمن عليها طالبان في أفغانستان؟ وأجاب بالقول: يصعب القول، لكن هذا جيل جديد من قادة طالبان سافروا وشاهدوا العالم وتعاملوا مع العديد من الحكومات الأخرى. يمكن للمرء أن يأمل أنهم تعلموا شيئاً ما أثناء نفيهم. ليس لديهم خيار آخر سوى الاعتراف بواقع العيش الآن في بيئة دولية تتكون أساساً من قوى غير مسلمة. وإذا كانت سياسات طالبان الاجتماعية مقيتة للأميركيين، فقد يرغبون في التفكير في المملكة العربية السعودية في نفس السياق. بطبيعة الحال، لا تزال الرياض والأموال السعودية تتمتع بنفوذ واسع في واشنطن لا تستطيع طالبان ممارسته.

وخلص الكاتب إلى القول: يستحق الرئيس الأميركي جو بايدن قدراً من الائتمان على الأقل لإغلاقه أخيراً صنابير الدم والكنوز الأميركية في أفغانستان بعد 20 عاماً. نأمل أن تكون هذه بداية علامة على مزيد من الواقعية من جانب المفكرين الجيوسياسيين في واشنطن بشأن الحدود الجديدة للقوة الأميركية والحاجة إلى رؤية أكثر تواضعاً بكثير لما يشكل فعلاً المصالح الأميركية.

نقله إلى العربية بتصرف: هيثم مزاحم