مخاطر التصعيد النووي.. كيف لا تتعثر روسيا بعتبة استخدام أسلحة نووية؟
قال الرئيس بوتين حول استخدام الأسلحة النووية ضد روسيا: "يجب على المعتدي أن يعرف أن الانتقام أمر لا مفر منه، وأنه سيتم تدميره. ونحن ضحايا العدوان نذهب إلى الجنة كشهداء، وهم ببساطة سيموتون لأنه لن يكون لديهم وقت للتوبة".
هل نحن على عتبة حرب نووية؟ يقدم أندريه فرولوف الباحث الأول في مركز الدراسات الأوروبية والدولية في المدرسة العليا للاقتصاد، نقاشاً حول مخاطر التصعيد النووي، ويتناول أسباب طرح استخدام الأسلحة النووية الذي تعزز أواخر أيلول/سبتمبر الفائت في روسيا، وذلك في موقع "روسيا في السياسة الدولية".
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
سلط نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف الضوء في رسائله البرقية المعتادة، في 26 سبتمبر/أيلول، على قضية التصعيد في علاقات روسيا مع الغرب، ولخص خطابه بالأطروحة الآتية: "لم يعد أمام روسيا خيار سوى الصراع المباشر مع حلف شمال الأطلسي على الأرض، والذي تحول إلى كتلة فاشية علنية مماثلة لمحور هتلر، وإن كان أكبر. نحن مستعدون لذلك، على الرغم من أن تكلفة الصراع أكبر بكثير على البشرية مما كانت عليه في عام 1945...". من الواضح أن كلامه تضمن تلميحاً إلى استخدام الأسلحة النووية في صراع مباشر مع الناتو، حيث من الواضح أن روسيا لن تكون قادرة على تحقيق نتائج مقبولة باستخدامها الأسلحة التقليدية حصرياً.
في اليوم نفسه، نشر الرئيس الفخري لهيئة رئاسة مجلس السياسة الخارجية والدفاع سيرغي كاراغانوف مقالاً بعنوان "كيفية منع الحرب العالمية الثالثة". في هذا المقال، يدعو المؤلف مرة أخرى إلى مناقشة مسألة الردع النووي، موضحاً صراحةً أن "الردع النووي النشط يهدف إلى منع نشوب صراع نووي عالمي، والأفضل من ذلك، منع أي استخدام للأسلحة النووية". من الغريب أن يعترف سيرغي كاراغانوف بأنه شارك بنشاط في الماضي في خلق الأسطورة القائلة بأن الاستخدام المحدود للأسلحة النووية يتطور تلقائياً إلى صراع نووي عالمي.
بالمجمل، يتلخص جوهر الطرح الجديد في ضرورة إيقاظ غريزة الحفاظ على الذات لدى النخب الغربية من خلال زيادة التهديد النووي. ولتحقيق هذه الغاية، يُقترح إجراء تغييرات على عقيدة الردع النووي من خلال خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية، فضلاً عن "التحرك الحذر ولكن الحاسم لصعود سلم التصعيد والردع النوويين". كخطوات عملية، يُقترح إجراء تفجير نووي تجريبي أو على الأقل الانسحاب من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
ولم تنته المسألة عند هذا الحد، ففي 28 أيلول/سبتمبر، انضم إليها مشارك جديد، وهو رئيس "معهد كورشاتوف" ميخائيل كوفالتشوك، الذي دعا إلى تعديل أسس سياسة الدولة في مجال الردع النووي. وفي رأيه أن "الغرب يجب أن يفهم بوضوح تصميم روسيا على الدفاع عن أمنها". ولهذا "يكفي إجراء الاختبارات في موقع نوفايا زيمليا... مرة واحدة على الأقل. وكل شيء سوف يقع في مكانه".
عبر صدفة مثيرة للاهتمام، بات من المعروف في اليوم نفسه أن جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية عززت مكانة القوات المسلحة النووية في الدفاع عن الدولة ومبادئ نشاط الدولة في بناء القوات المسلحة النووية.
كانت الحلقة الأخيرة في سلسلة المعلومات حول القضايا النووية هي التقارير (غير الرسمية) التي تفيد بأنه في 3 تشرين الأول/أكتوبر، سيتم إجراء مناورات في جميع أنحاء روسيا تتعلق بالتعبئة والدمار والتلوث الإشعاعي.
بعض الإشارات تأتي أيضاً من "الجانب الآخر". في 22 أيلول/ سبتمبر، أفادت شبكة "سي أن أن"، نقلاً عن بيانات من صور الأقمار الصناعية، أن الولايات المتحدة وروسيا والصين تقوم بأعمال نشطة في مواقع التجارب النووية الخاصة بها منذ عام 2021. وفي روسيا، نتحدث عن موقع التجارب النووية في "نوفايا زيمليا" تحديداً. قبل بضعة أيام، تناول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مسألة الأسلحة النووية، من على منصة الأمم المتحدة، معتبراً أن "الإرهابيين ليس لديهم الحق في امتلاك أسلحة نووية، وأن روسيا كان يجب نزع سلاحها النووي في التسعينيات، وهي تستحق نزع سلاحها الآن". كما أعرب عن أسفه لأن أوكرانيا "تخلت" عن ثالث أكبر ترسانة نووية لديها. تلك التي ورثتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ومن الواضح أن قضية التصعيد النووي أصبحت مرة أخرى سائدة على الأجندة العالمية والروسية. وكل هذه الأحداث تستحق التعليق. بادئ ذي بدء، أود أن أنتقل إلى المصادر الأولية، وهي الوثائق الروسية التي تحدد شروط استخدام الأسلحة النووية، المسماة "ركائز سياسة الاتحاد الروسي في مجال الردع النووي"، التي تمت الموافقة عليها بموجب المرسوم الرئاسي الصادر في 2 حزيران/يونيو 2020. في هذه الوثائق تأكيد الطبيعة الدفاعية للعقيدة العسكرية. تجدر الإشارة إلى أن القوات النووية في حال نشوب صراع عسكري تضمن منع تصعيد الأعمال العدائية ووقفها بشروط مقبولة لدى الاتحاد الروسي و/ أو حلفائه.
يهدف الردع النووي نفسه إلى ضمان فهم العدو المحتمل أن الانتقام في حال العدوان على الاتحاد الروسي و/أو حلفائه حتمي، وأن هذا الانتقام سيلحق به ضرراً ضخماً. ومن المهم، وفقاً للوثيقة، أن يتم تنفيذ الردع النووي بشكل مستمر في وقت السلم، خلال فترة التهديد المباشر بالعدوان، وفي زمن الحرب، حتى بدء استخدام الأسلحة النووية.
تسرد الوثيقة "مخاطر عسكرية"، اعتماداً على التغيرات في الوضع العسكري السياسي والاستراتيجي، يمكن أن تتطور إلى تهديدات عسكرية للاتحاد الروسي (تهديدات بالعدوان) والتوقف عن الردع النووي. ومن هذه المخاطر: استخدام الأسلحة النووية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا و/أو حلفائها. كذلك في حال العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية، عندما يكون وجود الدولة ذاته مهدداً.
ويبدو أن "ضمان فهم" النخب الغربية لحتمية الانتقام، على الرغم من أهميته، ليس المهمة الوحيدة للردع النووي.
تجدر الإشارة إلى أن القيادة العسكرية السياسية العليا في البلاد تذكر بهذا بانتظام، ويبدو أن بيان الرئيس الروسي في جلسة "نادي فالداي الدولي" في عام 2018 ينبغي تقييمه في ضوء ذلك. آنذاك، قال فلاديمير بوتين رداً على سؤال حول استخدام الأسلحة النووية ضد روسيا: "يجب على المعتدي أن يعرف أن الانتقام أمر لا مفر منه، وأنه سيتم تدميره. ونحن ضحايا العدوان نذهب إلى الجنة كشهداء، وهم ببساطة سيموتون لأنه لن يكون لديهم وقت للتوبة". وتعليقاً على هذه الكلمات، أوضح السكرتير الصحافي الرئاسي دميتري بيسكوف أن "النقطة الأساسية، وهذا هو الأمر الرئيس الذي فوته كثيرون، هي أن روسيا، على المستوى العقائدي، لا تحتفظ بالحق في توجيه ضربة وقائية". وتابع المتحدث باسم الكرملين: "لا نعتبر أنفسنا مؤهلين للضرب أولاً، ولكن لدينا شرطين. قال الرئيس كل هذا بكلمات مختلفة وأكثر إيجازا. مكتوب في عقيدتنا أنه إذا تمت مهاجمتنا باستخدام الأسلحة النووية (الشرط الأول)، وإذا تمت مهاجمتنا بطريقة تعرض وجود دولتنا ذاته للتهديد (الثاني)، فإن روسيا تحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية".
عام 2023، كلف الرئيس فلاديمير بوتين في رسالة اتحادية وزارة الدفاع وشركة "روساتوم" بالاستعداد لإجراء تجارب نووية إذا لزم الأمر، ولكن فقط كرد على تجارب مماثلة في الولايات المتحدة الأميركية. أرسلت هذه التصريحات إشارات إلى الغرب، وعلى أعلى المستويات. في رأينا، لا ينبغي اتخاذ أي تدابير إضافية فيما يتعلق باستخدام الأسلحة النووية، لأنه من غير المرجح أن تتمكن من تحقيق هدف أكبر مما هو مذكور في المواثيق التي ذكرها الرئيس.
في المقابل، لا جدوى كذلك من خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية مقارنة بالأطر القائمة اليوم. إن التخلي عن مبدأ استخدام الأسلحة النووية غير قائم، لكن استخدامه أثناء العدوان باستخدام الأسلحة التقليدية، عندما لا يكون وجود الدولة ذاته مهدداً، على العكس من ذلك، سيعطي ورقة دعائية رابحة قوية لكييف والغرب، ما يغذي الأطروحات المضللة حول طبيعة روسيا العدوانية أو حول خسارة العملية العسكرية الخاصة. في الواقع، لا يزال الوضع على الجبهة حتى أيلول/سبتمبر 2023 لصالح الجيش الروسي، والشاهد الرئيس على ذلك فشل الهجوم الأوكراني المضاد، بل فشل الحملة العسكرية الأوكرانية بأكملها. من الواضح أن الطلب، في ظل هذه الظروف، بإجراء مراجعة علنية لأساسيات سياسة الردع النووي من شأنه أن يتسبب بالحيرة في الداخل الروسي في المقام الأول.
وهناك فرضية أخرى مثيرة للجدل بالقدر نفسه، وهي اقتراح الانسحاب من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وإجراء تجارب نووية "مرة واحدة على الأقل". عند الحديث عن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ينبغي للمرء أن يضع في اعتباره أن الولايات المتحدة حتى الآن هي التي تبدو في أعين العالم أجمع وكأنها "مشعل الحرب العالمية الثالثة" المحتملة. وكذلك أن أميركا تجري الاختبارات كطرف لم يصدق على هذه المعاهدة. إن الرفض الطوعي للمعاهدة لن يؤدي إلا إلى تأكيد التضليل الغربي والأوكراني حول رغبة روسيا في تنفيذ أعمال تخريبية على أراضي أوكرانيا باستخدام الأسلحة النووية أو الكيميائية.
أما بالنسبة لإجراء التجارب النووية فالأمر لا يتطلب تفجيرات نووية واسعة النطاق. بشكل عام، تهدف الأبحاث في مجال الأسلحة النووية إلى زيادة كفاءتها، ولكن يتم ضمان ذلك من خلال التقنيات والمواد غير النووية ويمكن تنفيذها من دون تفجيرات نووية كبيرة. إن تنفيذ مثل هذا التفجير النووي لن يفيد روسيا كثيراً من الناحية العملية والعلمية، ولكنه سيلحق ضرراً كبيراً بسمعة البلاد، وهو أشبه بالانسحاب من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ولكن بدرجة أشد خطورة. وسيؤدي إلى استعداء روسيا من قبل جيش ضخم من الناشطين في مجال المناخ والبيئة في مختلف أنحاء العالم.
ربما ليس من المنطقي النظر في اقتراح توجيه ضربات نووية إلى الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، لأن الوضع في ساحة المعركة لا يقدم حتى الآن سبباً واحداً لذلك. بطبيعة الحال، من الواضح أن الصراع التقليدي الذي طال أمده ليس في مصلحة روسيا. أما باستخدام الأسلحة فلن تعود الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم التي تستخدم الأسلحة النووية (هيروشيما وناكازاكي) ولكن ستفقد روسيا القوة الأخلاقية التي كان الاتحاد السوفياتي يتمتع بها. ومن الواضح أن روسيا ظلت تتحدث طوال هذه السنوات عما لا ينبغي أن يحدث، ناهيك عن أن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية في جميع أنحاء العالم مع عواقب لا يمكن السيطرة عليها.
إن جميع الوثائق العسكرية العقائدية الروسية المتعلقة باستخدام الأسلحة النووية هي ثمرة تطور بدأ من الانفجار الأول للقنبلة النووية عام 1949، وهي تخضع لمنطق واضح للغاية. ويبدو أن تغيير هذا المنطق، حتى في سياق صراع معقد مثل الأزمة الأوكرانية، يشكل خطوة مفرطة بل ضارة على المدى الطويل.
نقلها إلى العربية: عماد الدين رائف.