لماذا ستكون دول الشرق الأوسط هي مستقبل جهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا؟
دول الشرق الأوسط تسعى بنشاط أكبر للمشاركة في العملية الدبلوماسية، وتعرض فرص الوساطة لموسكو وكييف، ولكن مع الحفاظ على حيادها وبراغماتيتها.
يكتب الخبير الروسي في الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الروسية، أليكسي خليبنيكوف، مقالاً في موقع المجلس الروسي للشؤون الدولية، يتحدث فيه حول دول الشرق الأوسط، وكيف استفادت من الأزمة في أوكرانيا، وعن الدور الذي تلعبه ومن المحتمل أن يزداد في الفترة القادمة على خلفية الوساطة في الحرب بين الروس والأوكرانيين.
وفيما يلي نص المقال كاملاً منقولاً إلى العربية:
دخل العالم المعاصر ونظام العلاقات الدولية في مرحلة جديدة من التحولات ستستغرق سنوات. وكقاعدة عامة، تحدث مثل هذه العمليات عبر إعادة صياغة النظام القديم وبناء نظام جديد بدلاً منه، وعادة ما ترتبط بنتائج مؤلمة. ودخلت منطقة الشرق الأوسط، التي تعد من نواح كثيرة اختباراً للتغيرات في العالم، منذ 10 سنوات مرحلة التحول والتغيرات العالمية المتوقعة في النظام العالمي بأكمله.
وبصفتها رائدة العالم من حيث عدد النزاعات والأزمات المحتملة، تدرك دول الشرق الأوسط تكلفة التغييرات الجارية، وتسعى جاهدة للتخفيف من الأزمات، بما في ذلك الصراع الحالي حول أوكرانيا، من خلال الدبلوماسية والوساطة والبراغماتية.
دور الوساطة
في 21 و 22 أيلول/سبتمبر الفائت، تمت أكبر عملية تبادل للأسرى منذ بداية العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا. وفي تموز/يوليو تم التوصل إلى اتفاق يقضي بفتح الموانئ الأوكرانية لتصدير الحبوب. لقد تم تحقيق هذه الاختراقات الدبلوماسية من خلال وساطة لاعبين خارجيين، كتركيا والسعودية، حيث شاركتا في تنظيم تبادل الأسرى، وتوسطت تركيا، مع الأمم المتحدة، في إبرام صفقة حبوب.
بالإضافة إلى ذلك، زار رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان روسيا في 11 تشر ين الأول/أكتوبر، حيث أجرى محادثات مع الرئيس بوتين، وشكره خلالها الرئيس الروسي على جهود الوساطة التي يبذلها وعلى "مساهمته في تسوية جميع النزاعات، بما في ذلك الأزمة في أوكرانيا".
كل هذا يؤكد اهتمام دول الشرق الأوسط بلعب دور الوسيط بين روسيا والغرب على خلفية الصراع في أوكرانيا.
بشكل عام، تجدر الإشارة إلى أن دول الشرق الأوسط تسعى بنشاط أكبر للمشاركة في العملية الدبلوماسية، وتعرض فرص الوساطة لموسكو وكييف، ولكن مع الحفاظ على حيادها وبراغماتيتها. ويبرز انطباع بأنهم مهتمون أكثر بحل النزاع في أسرع وقت ممكن، أو على الأقل عدم المماطلة بحله، من نظرائهم الغربيين، ومن بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي عرض نفسه وسيطاً دون جدوى.
منذ بداية تصعيد النزاع في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، عرض عدد من دول الشرق الأوسط خدمات الوساطة بين روسيا وأوكرانيا - إيران وتركيا والعربية السعودية وقطر ومصر، إلخ. كما أن جامعة الدول العربية قدمت أيضاً عرضاً للوساطة. فما هو سبب هذا التحرك النشط لدول الشرق الأوسط؟
البراغماتية والحيادية
أولاً، تجدر الإشارة إلى أن دول الشرق الأوسط أظهرت في السنوات الأخيرة المزيد والمزيد من البراغماتية في سياستها الخارجية، وتنويع حقيبتها الدبلوماسية، الأمر الذي يؤتي ثماره. وبالتالي، فإن الدول الرئيسية في الشرق الأوسط – كإيران (قبل ظهور المعلومات حول توريدها الطائرات بدون طيار لروسيا)، وتركيا والسعودية ومصر لديها علاقات جيدة مع كل من موسكو وكييف، وكذلك مع الدول التي تقدم الدعم المباشر لأوكرانيا.
وحتى الآن، لم يختر أي منهم طريق إرضاء ضغوط الدول الغربية، الداعية للانضمام إلى العقوبات، وكذلك إن لم يكن قطع العلاقات مع روسيا، فالحد منها بشكل جدي. تدرك دول المنطقة جيداً أنها باختيارها طرفاً ما، فإنها لا تخاطر بإفساد العلاقات الثنائية المتطورة مع روسيا فحسب، بل ستلغي أيضاً فرصة التوسط في المفاوضات والمساهمة في حل النزاع في أوكرانيا.
بالإضافة إلى ذلك، سيترك هذا أثراً سلبياً على جهود الوساطة التي قد يبذلونها في المستقبل – إذ من المستبعد أن يقبل أحد بوسيط يدعم عن قصد أحد أطراف النزاع. وعليه ستحظى دول المنطقة التي تنتهج سياسة براغماتية بفرص أكبر للوساطة والتسوية السلمية والدفاع عن مصالحها. وهذا هو السبب في أن موسكو لا تعتبر الدول الغربية وسطاء، الأمر الذي من الواضح أنه أضر بحيادهم عندما أصبحوا بحكم الواقع طرفاً في النزاع، وفرضوا عقوبات على موسكو، وقاموا بتزويد أوكرانيا بالأسلحة والمدربين والمرتزقة.
في مثل هذه الظروف، ومع الحفاظ على حيادها، تجد دول الشرق الأوسط نفسها في وضع متميز، لأنه على خلفية السياسة الغربية، يبدو موقفها متوازناً ومستقلاً و بما يتماشى مع مصالحها الخاصة. وفي نفس الوقت الذي يحافظون فيه على بقائهم شركاء مع الغرب، يواصلون تطوير التعاون مع كل من روسيا والصين، وهما أحد مراكز العالم الحديث. وتنظر موسكو إلى مثل هذا المسار على أنه عملي ويؤدي إلى استمرار الحوار.
ثانياً، لا تثق معظم دول المنطقة في الغرب. من وجهة نظرهم، يثبت الصراع في أوكرانيا وجود معايير مزدوجة تستخدمها الدول الغربية فيما يتعلق بمشكلة المهاجرين، أو النزاعات المسلحة الأخرى (على غرار النزاع بين إسرائيل وفلسطين) أو فيما يخص توريد الأسلحة.
ثالثاً، يمكننا القول إن دول الشرق الأوسط تفضل عالماً متعدد الأقطاب والمراكز على عالم أحادي القطب، حيث توجد فرص أكثر للتحوط من المخاطر، وليس وضع كل البيض في سلة واحدة، والحصول على فوائد كبيرة من خلال الحفاظ على التوازن: من الولايات المتحدة - الأسلحة والضمانات الأمنية، ومن الصين - الإستثمارات، ومن روسيا - التعاون في مجال الطاقة والأمن. أصبح النهج متعدد النواقل أحد الإعتبارات الأساسية لسياستهم. وهكذا، فإن دول المنطقة توفر لنفسها ظروفاً أكثر ملائمة للبقاء والتطور، وتضع مصالحها الخاصة في المقدمة، وليس مصالح الآخرين.
اليوم، تتمتع منطقة الشرق الأوسط ككل، ودول بعينها على وجه الخصوص، بفرصة فريدة لتصبح منصة حوار محايدة لاجتماعات مختلف الأطراف المتصارعة، والمشاركة في إعداد المبادرات المختلفة. بالنظر إلى أن الدول الأوروبية التي كانت ذات وضع محايد لم تعد محايدة (النمسا وسويسرا والسويد وفنلندا)، سيزداد الطلب على البلدان المحايدة فعلاً، والتي يمكنها إنشاء منصات إقليمية جديدة، مع مراعاة الفروق الدقيقة في صراع معين.
ونتيجة لذلك قد يظهر نموذج مشابه لحركة عدم الانحياز من البلدان المحايدة، والتي لها صوتها الخاص، ويمكن أن يصبح أيضاً عاملاً لتوحيد دول المنطقة.
الأمن الغذائي والطاقة والسياحة
من بين أمور أخرى، تسعى دول المنطقة إلى تحقيق مصالحها الخاصة، وهو أمر طبيعي في سياق النزاع، الذي قد يكون لعواقبه تأثير مباشر عليها.
من الأسباب الواضحة لمصلحة دول الشرق الأوسط في حل الأزمة والحفاظ على العلاقات مع موسكو هو تأثيرها السلبي على الأمن الغذائي. فنظراً لأن روسيا وأوكرانيا من بين أكبر مصدري المنتجات الزراعية (الحبوب والذرة وزيت عباد الشمس) والأسمدة ، فإن النزاع بينهما يؤثر بشكل كبير على الإنتاج والإمداد الآمن ونقل المنتجات.
وليس من المستغرب أن تكون تركيا ومصر وإيران والسعودية، باعتبارها أكبر الدول في الشرق الأوسط، بل وأكبر مشتري منتجات الصناعات الزراعية الروسية في المنطقة، هي التي كانت قلقة بشأن اضطرابات الإمدادات. لذلك، هم مهتمون بشكل مباشر بضمان توريد المنتجات الزراعية من كل من روسيا وأوكرانيا.
هناك عامل مهم بنفس القدر، وهو التنسيق داخل أوبك +، والذي يساعد الدول المنتجة للنفط على الحفاظ على أسعار النفط المستقرة، وبالتالي تجديد ميزانياتها. ودور روسيا، كأحد أكبر المنتجين في العالم، معترف به من قبل جميع المشاركين. وسيستمر التنسيق، بسبب إعادة تشكيل لوجستيات إمدادات الطاقة وتقلب أسعار الطاقة بشدة. وبما أن دول المنطقة تحتاج إلى مزيد من اليقين، فإنها تسعى جاهدة لتحقيق ذلك. إن قرار أوبك +، الذي تم تبنيه في 5 تشرين الأول/أكتوبر، بخفض إنتاج النفط بمقدار 2 مليون برميل يومياً هو دليل على ذلك.
لا يقل أهمية عن ذلك التدفق السياحي إلى تركيا ومصر والإمارات، والتي أصبحت أكثر الدول شعبية بالنسبة للروس في عام 2022، مما يضمن تدفق ملايين السياح إلى هذه الدول وإيرادات بالمليارات في الميزانية. بالإضافة إلى ذلك، تم تسجيل أكثر من 4000 مستثمر وشركة روسية في الإمارات، ويعيش فيها أكثر من 40 ألف روسي.
قيود
بالنظر إلى كل هذا، من المهم أن نلاحظ أن دول المنطقة، بكل رغباتها وبراغماتيتها، لا تتمتع بالنفوذ الذي يمكن أن يجلب روسيا وأوكرانيا والغرب إلى طاولة المفاوضات وإجبارهم على السلام. ومع ذلك، ليس هذا هو دورهم الرئيسي. ولكن عندما تنشأ الظروف، وعندما يحين الوقت، سيكونون قادرين على تنظيم ودعم عملية تفاوض مقبولة. فعلى سبيل المثال، يمكن لهذه الدول أن تعمل كوسطاء في بعض القضايا المتعلقة بصفقات الغذاء أو تبادل أسرى الحرب.
كما يمكن كذلك حل مشكلة سلامة محطة زاباروجيا للطاقة النووية، بما في ذلك من خلال جهود الوساطة الخاصة بهم. ويتيح ذلك للبلدان تحقيق نتائج مفيدة لها (ضمانات الحصول على الحبوب، وضمان سوق مستقر للطاقة، وما إلى ذلك) والحفاظ على قناة اتصال بين موسكو وكييف.
ليس من مصلحة هذه الدول أن تختار بين روسيا وأوكرانيا والغرب - فكل منها يسترشد بمصالحه الخاصة. لذلك فإن سياسة دول الشرق الأوسط تجاه روسيا في ظل تصاعد الصراع في أوكرانيا تظل واقعية ومتوازنة، رغم ضغوط الدول الغربية. في الوقت نفسه، لا ينبغي للمرء أن يتوقع أن يتخلى الغرب عن محاولة الضغط على شركائه في المنطقة وضمها إلى الأعمال المناهضة لروسيا.
إذا تمكنت بلدان المنطقة من الحفاظ على نهجها العملي تجاه الأزمة الأوكرانية والاستمرار في الالتزام بنهج متعدد النواقل، فستكون هناك المزيد من الفرص لتسوية بناءة وانتقال أكثر سلاسة إلى بنية جديدة للعلاقات الدولية والأمن. ومن خلال تطوير العلاقات مع الجميع، يمكن الحفاظ على التوازن وكبح التجاوزات. يبدو أن سياسة تعدد النواقل هي التي ستصبح إحدى الخصائص الأساسية للنظام الجديد. ومع ذلك، لا يجب نسيان أن دول الشرق الأوسط لا تزال تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة وأوروبا، الأمر الذي يحدد أيضاً عدم واقعية فرضية تخليها الكامل عن شركائها.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني