حرب "الناتو" التي لا تنتهي أبداً.. المتنمر البالغ من العمر 75 عاماً يتعثر
القدرة على بدء الصراعات أو مفاقمتها وربما عدم الرغبة في إنهائها بشكل دائم، لا تشكّل الأزمة الحقيقية التي تواجه حلف شمال الأطلسي بعد مرور 75 عاماً على تأسيسه
يستعرض مقال منشور في موقع "znetwork" حالة حلف "الناتو" الحالية، بعد مرور 75 عاماً على تأسيسه، والخلافات التي تعصف بين أعضائه، وكيف أن على الدول الأوروبية المنضوية في إطار الحلف أن تعمل على تجديد سياساتها الحالية من أجل مستقبل أفضل للقارة.
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
تواظب المنظومة الغربية على تكرار خطابها غير المقنع عن أسباب إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" قبل 75 عاماً. ولا بدّ من دراسة هذه المبررات المفرطة في التبسيط حتى يتسنى تقدير الانحدار الحالي للمنظّمة، وسط السياسات التي تخدم مصالح أنانية لأعضاء الحلف لا المصالح المشتركة.
السجلات التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، تؤرّخ عن اختراع حلف "الناتو" بلغة مناسبة لكتاب تاريخ مدرسي للمرحلة المتوسطة حيث يؤلف سردية على النحو الآتي: "بعد الدمار الذي خلّفته الحرب العالمية الثانية، كافحت دول أوروبا من أجل إعادة بناء اقتصاداتها وضمان أمنها، مما أجبر الولايات المتحدة على إنشاء (الناتو) في أوروبا لمنع التوسّع الشيوعي السوفياتي نحو القارة الأوروبية وبقية العالم".
هذه الحجج النموذجية مبكرة جداً لعقيدة حلف شمال الأطلسي، ويمكن استخلاص ذلك من معظم التصريحات الصادرة عن الدول الغربية التي أسست المنظمة وما زالت تهيمن عليها. وتتأرجح اللغة الخطابية لحلف "الناتو" بين الود تارة والتهديد تارة أخرى. الرئيس الأميركي هاري ترومان في العام 1945، اعتبر الحلف مهماً في عمليات التجاور، وهو أيضاً صارم ضد الذين قد يشجعون أنفسهم على اللجوء إلى الحرب.
تخفي هذه الخطابات حقائق دامغة لا يمكن نكرانها. ففي الواقع إنّ الولايات المتحدة كانت أكثر قوة عسكرياً واقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية، وانعكس ذلك سريعاً في "خطط مارشال" الخمسية للإنعاش الاقتصادي، وهو توجّه استراتيجي وليس عملاً خيرياً لواشنطن، التي هندست التعافي الاقتصادي لدول مختارة ستصبح حليفة ثابتة للولايات المتحدة لعقود مقبلة. وعلى المنوال ذاته ربط وزير خارجية كندا ليستر بيرسون بين قيام حلف "الناتو" آنذاك والقوة التي يتمتع بها كشرط للحفاظ على السلام العالمي.
على هذا، قامت علاقة أبوية بين منظمة حلف "الناتو" تحت هيمنة الولايات المتحدة التي تتمدد نحو بقية العالم، مما يسمح للأعضاء الأقوياء في المنظمة بأن يحددوا، نيابة عن بقية الدول وغالباً خارج مظلة الأمم المتحدة، مفاهيم مثل "السلام" و"الأمن"، و"المخاطر"، وفي نهاية المطاف "الإرهاب".
مع ذلك، لم يكن الصراع الرئيسي الأول الذي حرّض عليه حلف "الناتو"، بشأن التهديدات الخارجية لأوروبا أو الأراضي الأميركية، بل وقع على بعد آلاف الأميال من ضفتي الأطلسي، في شبه الجزيرة الكورية، حيث تمحور الخطاب السياسي لأعضاء الحلف حول إظهار الحرب الأهلية في شبه الجزيرة، كمثال على "العدوان الشيوعي"، الذي أجبر "الناتو" على الرد والتدخّل والانخراط في الحرب الكورية المدمّرة بين أعوام 1950 و1953.
وقد أثبتت 7 عقود ونيف من عمر الحلف ونتائج الحرب الكورية هشاشة تلك الحجج التي سيقت لتبرير التدخّل، حين كانت كوريا الشمالية تقاتل بشدة من أجل كسر عزلتها. ومع ذلك، توقّفت الحرب الكورية من دون أن تنتهي رسمياً، وتعيش تلك المنطقة إلى الآن في ظل حالة من الانقسام بين نقيضين لا حرب ولا سلام، قد يتحوّل إلى حرب شاملة في أي وقت، وكذلك يوفّر مبرراً للوجود العسكري الأميركي الدائم في المنطقة. وقد اتُبع نهج مماثل في معظم تدخلات حلف "الناتو" بمناطق أخرى في العالم، العراق (1991 و2003)، ويوغوسلافيا (1999)، وأفغانستان (2001)، وليبيا (2011)، وغيرها من المناطق والجهات والدول.
مع ذلك، فإنّ القدرة على بدء الصراعات أو مفاقمتها وربما عدم الرغبة في إنهائها بشكل دائم، لا تشكّل الأزمة الحقيقية التي تواجه حلف شمال الأطلسي بعد مرور 75 عاماً على تأسيسه، حيث كتب وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس في صحيفة "ديلي تلغراف"، أن الناتو يجب أن يقبل أنه الآن في عالم ما قبل الحرب. وهاجم شابس أعضاء الحلف الذين "ما زالوا يفشلون" في تلبية الحد الأدنى المطلوب من الإنفاق على الدفاع، والذي يعادل 2% من إجمالي الناتج المحلي الوطني، "لا يمكننا أن نلعب الروليت الروسية بمستقبلنا".
كثيراً ما يتم التعبير عن هذا النوع من المخاوف من قبل كبار قادة ومسؤولي "الناتو" الآخرين، الذين إما يحذرون من حرب وشيكة مع روسيا، أو ينتقدون بعضهم البعض بسبب تضاؤل نفوذ المنظمة التي كانت قوية ذات يوم.
يُلقى حالياً قدر كبير من اللوم على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي هدد صراحة بمغادرة الناتو خلال فترة ولايته الوحيدة في منصبه. لكن، تعليقات ترامب وتهديداته المهينة ليست منتجاً لأزمة الحلف بقدر ما هي نتيجة لأعراض ومشاكل متنامية مستمرة منذ سنوات سبقت دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وخروجه الدراماتيكي منه.
يمكن تلخيص أزمة "الناتو" بداية في أن التشكيلات الجيوسياسية التي كانت قائمة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي وحلف "وارسو" لم تعد موجودة. ولا يمكن اختزال الجانب الرئيسي من المنافسة العالمية الجديدة في النواحي العسكرية فقط لأنها اقتصادية أيضاً، ولطالما اعتمدت أوروبا في العقدين الأخيرين إلى حد كبير على مصادر الطاقة والتبادل التجاري، بل وحتى التكامل التكنولوجي مع البلدان التي تعتبرها الولايات المتحدة أعداءها مثل، الصين وروسيا وغيرهما.
عليه، إذا سمحت أوروبا لنفسها بالاشتراك في لغة الولايات المتحدة المستقطبة بشأن من هم الأعداء والحلفاء، فسوف تدفع القارة ثمناً باهظاً، خاصة وأن اقتصادات الاتحاد الأوروبي تكافح بالفعل تحت وطأة الحروب المستمرة والانقطاع المستمر لإمدادات الطاقة. ولم يعد حل كل هذه التحديات ممكناً من خلال إسقاط القنابل على "العدو"، كذلك إن الطبيعة المتغيّرة للحرب تجعل التقليدية منها غير فعّالة إلى حد كبير.
ورغم أن العالم قد تغيّر إلى حد كبير، فإن حلف "الناتو" يظل ملتزماً بعقيدة سياسية تعود إلى حقبة ماضية. مع أنه حان الوقت لكي يعاد النظر في تراثه المستمر منذ 75 عاماً، وأن يتحلى بالشجاعة الكافية لتغيير الاتجاهات بالكامل، وبدلاً من اختيار حالة حربية دائماً، يتوجب السعي لتحقيق السلام الحقيقي.
نقلها إلى العربية: حسين قطايا.