هل جاءت نتائج قمّة جدة على مستوى التوقعات؟

راحت الرياح تهبّ بما لا تشتهي سفن المتفائلين بالنتائج التي ستنجم عن قمة جدة؛ فقد فوجئ الجميع بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يشارك بنفسه فيها ويلقي خطاباً في جلستها الوحيدة.

  • هل جاءت نتائج قمّة جدة على مستوى التوقعات؟
    هل جاءت نتائج قمّة جدة على مستوى التوقعات؟

يبدو أنّنا تفاءلنا أكثر مما ينبغي بالنتائج المرجوة من القمة العربية التي عقدت في الآونة الأخيرة في مدينة جدة؛ فقبيل انعقاد هذه القمة، كانت رياح التغيير قد بدأت تهب بقوة على المنطقة، ضاغطة بشدة من أجل تهدئة الصراعات المشتعلة في معظم جنباتها. 

ولأن موجة التهدئة هذه لم تقتصر على الصراعات العربية البينية، إنما امتدت لتشمل مجمل الصراعات العربية الإيرانية والعربية التركية في الوقت نفسه، فضلاً عن أنها كانت قد انطلقت أصلاً تحت تأثير تحولات عميقة في النظام الدولي، فقد كان من الطبيعي أن يولد معها إحساس عام بأنَّ ما يجري في المنطقة ليس حدثاً طارئاً أو عابراً وسيكون له ما بعده، وبالتالي ربما يمهد لوقوع تغييرات جذرية في بنية النظام الإقليمي العربي قد تساعده على تحقيق انطلاقة جديدة قادرة قادرة على انتشاله من حالة التفكك والانكسار التي يعيشها في المرحلة الراهنة.

لا شكّ في أن هذا الإحساس راح يترسخ رويداً رويداً، وخصوصاً بعدما بدأت المملكة العربية السعودية تبتعد تدريجياً عن الدوران في فلك السياسة الغربية، عبر الإقدام على اتخاذ قرارات تعكس قدراً أكبر من الاستقلالية وتتيح لها في الوقت نفسه هامشاً أكبر من حرية الحركة والمناورة في الساحة الدولية.

وعندما قرر مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري إلغاء قرار تجميد عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وما أعقبه من إقدام السعودية على توجيه دعوة رسمية لسوريا لحضور القمة العربية حرص الرئيس بشار الأسد على أن يشارك فيها بشخصه، اقترب هذا الإحساس من درجة اليقين، وأسهم في ترسيخ قناعة مزدوجة توحي بأن السعودية تهيئ نفسها لقيادة النظام العربي في المرحلة الراهنة، وأن قمة جدة ستكون مختلفة عما سبقها، وبالتالي ربما تنجح في التأسيس لمرحلة جديدة أكثر فاعلية في مسيرة العمل العربي المشترك.

الرياح راحت تهبّ بما لا تشتهي سفن المتفائلين من أمثالي؛ فقد فوجئ الجميع بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يشارك بنفسه في قمة جدة، ويلقي خطاباً في جلستها الوحيدة (الافتتاحية والختامية في الوقت نفسه).

حينها، بدأ شعوري بالتفاؤل ينحسر إلى درجة العدم، وأحسست بأن يداً خفية تدخلت في اللحظة الأخيرة لإفساد وجبة شهية، ومن ثم توقعت ألا يقدم البيان الختامي لهذه القمة أي جديد يذكر، وأن يكون مجرد نسخة مكررة لبيانات كثيرة مشابهة اعتدنا سماعها كثيراً من قبل، وهو ما حدث فعلاً.

قيل، في معرض تبرير الدعوة التي وجهت إلى الرئيس الأوكراني لحضور قمة جدة، أن المملكة أرادت من ورائها تأكيد حيادها في الصراع الروسي الأوكراني الغربي وتهيئة الأجواء لدور وساطة تتطلع إلى القيام به، غير أن هذا التبرير يبدو لي شديد التهافت، ولا يستطيع أن يقنع أحداً، وخصوصاً أن رغبة المملكة في التوسط في الصراع الدائر في الساحة الأوكرانية هو قرار سيادي يخصها وحدها، ولا علاقة للدول العربية الأخرى به، ولا سيما أن مواقف الدول العربية من هذا الصراع تتباين كثيراً، ومن ثم يتعذر على السعودية الادعاء أنها تقوم بهذه الوساطة نيابة عن الدول العربية أو بتفويض منها.

وحتى بافتراض أن الدعوة التي وجهتها السعودية إلى زيلينسكي تعكس مصلحة وطنية سعودية خالصة، وهو ما لا نعتقد بصحته، فقد كان المنطق يقضي بأن تأخذ شكل الزيارة الخاصة للمملكة، وليس لإلقاء خطاب في قمة عربية تستضيفها.

لذا، أرجح أن تكون هذه الدعوة قد جاءت إثر ضغوط أميركية هائلة مورست على المملكة وتستهدف تحقيق أمرين تحرص عليهما الإدارة الأميركية أشد الحرص؛ الأول: تشتيت الانتباه والحيلولة دون تركيز الأضواء على الرئيس بشار الأسد الذي أثارت مشاركته في القمة حنق الرئيس بايدن وإدارته، والآخر هو توجيه رسالة إلى كلّ من يهمه الأمر داخل المملكة وخارجها، مفادها أن السعودية ما تزال تدور في فلك السياسات الغربية، ولن تستطيع منها فكاكاً.

وبافتراض أن يكون القصد من وراء هذه الخطوة الغريبة هو القيام بمناورة تكتيكية ليس لها أي دلالات وغايات استراتيجية، بهدف الإفلات من تأثير الضغوط الأميركية، فلا شكّ في أن مشاركة زيلينسكي في قمة جدة العربية كسرت موجة التفاؤل التي سادت قبل انعقادها، وخففت كثيراً من حجم التوقعات المتعلقة بما قد تتمخض عنه من نتائج وما قد تصدره من قرارات.

وإذا ما ألقينا الآن نظرة فاحصة على نص البيان الختامي الصادر عن هذه القمة، فسوف نكتشف على الفور أنه لم يأتِ بأي جديد يذكر؛ فقد تبنى لغة جوفاء يغلب عليها الطابع الإنشائي الذي تتسم به اللغة المستخدمة في معظم بيانات القمم العربية، وبالتالي لم نعثر فيه على ما يشير من قريب أو بعيد إلى أن قمة جدة تمهد لانطلاقة جديدة في مجال العمل المشترك.

دليلنا على ذلك ما ورد في هذا البيان حول 3 قضايا محورية هي: القضية الفلسطينية، وقضية التكامل العربي والتنمية، وقضية الإصلاح المؤسسي لجامعة الدول العربية.

في ما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية، يلاحَظ أن البيان الختامي لقمة جدة أكد من جديد مركزية هذه القضية، باعتبارها أحد العوامل الرئيسة للاستقرار في المنطقة، ودان "الممارسات والانتهاكات التي تستهدف الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم ووجودهم"، وطالب "بتكثيف الجهود الرامية للتوصّل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين وفقاً للمرجعيات الدولية، وعلى رأسها مبادرة السلام العربية".

تلك كلّها مواقف يدرك القادة العرب قبل غيرهم أنها لن تسهم في تقديم أي دعم حقيقي للقضية الفلسطينية، بل على العكس، تمنح الكيان الصهيوني مزيداً من الوقت لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين، وخصوصاً أن هذا الكيان ما يزال يتجاهل مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت منذ أكثر من 20 عاماً.

ولو كان العرب جادين حقاً في حديثهم عن مركزية القضية الفلسطينية وراغبين حقاً في تمكين النظام الإقليمي العربي من القيام بدور فاعل في خدمة هذه القضية، لاتخذوا مواقف مغايرة للتأكيد من ناحية على تأييدهم للمقاومة الفلسطينية المسلحة واستعدادهم لدعمها مادياً ومعنوياً، باعتبارها الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحرير الأرض المحتلة، وللمطالبة، من ناحية أخرى، بتجميد الخطوات التي سبق اتخاذها في مجال تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، إلى أن يعلن هذا الكيان موافقته رسمياً على المبادرة العربية ويشرع في تنفيذها.

بعبارة أخرى، يمكن القول إن محاولة إعادة الاعتبار إلى النظام الإقليمي العربي لا بد من أن تبدأ بالاقتناع الكامل بضرورة تبني نهج جديد لإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني ودعم القضية الفلسطينية. 

وفي ما يتعلق بالموقف من قضية التكامل العربي والتنمية، يلاحظ أن البيان الختامي لقمة جدة تضمن فقرة تقول "إن الرؤى والخطط القائمة على استثمار الموارد والفرص ومعالجة التحديات قادرة على توطين التنمية وتفعيل الإمكانات المتوفرة واستثمار التقنية من أجل تحقيق نهضة عربية صناعية وزراعية شاملة تتكامل في تشييدها قدرات دولنا، ما يتطلب منا ترسيخ تضامننا وتعزيز ترابطنا ووحدتنا لتحقيق طموحات شعوبنا العربية وتطلعاتها".

ومن الواضح أنها فقرة لا تنطوي على التزام من أي نوع، ومن ثم فهي "لا تسمن ولا تغني من جوع". ولأن النظام العربي الرسمي كان، وما يزال، يفتقر إلى رؤية للتنمية تتضمن مشروعات محددة وخططاً وبرامج تنفيذية لتحقيق التكامل العربي، فمن الطبيعي أن يظل عاجزاً عن الاستجابة للحد الأدنى من الطموحات المشروعة للشعوب العربية إلى أن يتسلح بمثل هذه الرؤية.

وفي ما يتعلق بالموقف من قضية إصلاح البنية المؤسسية لجامعة الدول العربية، يلاحَظ أنّ البيان الختامي لقمة جدة تجاهلها كلية، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد، ما يعني أن هذه القضية لم تعد تحتل أولوية تذكر على جدول الأعمال العربي، رغم حاجته الماسة إلى التعامل معها بأكبر قدر من الجدية؛ فالجامعة العربية ما تزال تفتقر إلى آلية مؤسسية فاعلة للتسوية السلمية للنزاعات العربية، بما في ذلك آلية قضائية لتسوية النزاعات ذات الصبغة القانونية، وإلى آلية مؤسسية فعالة لمعاقبة الخارجين على الإرادة العربية ومنتهكي القرارات الصادرة عن مجلس الجامعة العربية، وخصوصاً على مستوى القمة.

لا أريد أن أبدو متشائماً أكثر مما ينبغي، لكني أعتقد مخلصاً أن على الدولة التي ترغب في التصدى لمسؤولية قيادة النظام العربي، والسعودية مؤهلة للقيام بهذا الدور في المرحلة الحالية، أن تدرك أنها لن تستطيع أن تنهض بأعباء هذه القيادة على نحو يستجيب للحد الأدنى من طموحات الشعوب العربية، إلا إذا تسلحت برؤية قومية لإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني على أسس جديدة تقوم على إيمان حقيقي بأن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وتمكنت من صياغة مشروعات ووضع خطط للتكامل الاقتصادي قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وتبنت نهجاً واضحاً لإصلاح البنية المؤسسية لجامعة الدول العربية، بما يضمن فاعليتها والتزام كل الدول العربية بتنفيذ قرارتها؛ ففي غياب هذه الأدوات المؤسسية سيظل النظام الإقليمي العربي يدور حول نفسه في حلقة مفرغة لا سبيل للخروج منها.