في ذكرى سايكس بيكو: الهويات القاتلة
التاريخ العربي ظل دوماً، إما تاريخ إمبراطوريات، وإما جغرافيات مستباحة للغزاة ولم يعرف أبداً تاريخ الكيانات الصغيرة كما هي الآن.
في مثل هذه الأيام من عام 1916، بدأ الاحتلالين البريطاني والفرنسي مفاوضاتهما حول تمزيق الشرق العربي (سوريا الطبيعية والعراق) وصولاً إلى تقسيمه بينهما في منتصف أيار/مايو من العام نفسه وذلك فيما عرف باتفاقية "سايكس بيكو".
ورغم أن الطرف الثالث معهما فيما يخص مناطق أخرى من البلقان، وهو روسيا، فضح هذه الاتفاقية بعد عام واحد فقط، إلا أن العرب لم يأخذوا ذلك بعين الاعتبار مردّدين الكذبة البريطانية عن محاولة (البلشفيك) الروس ضرب الصداقة العربية البريطانية.
فبحسب كتاب أسعد رزوق (إسرائيل الكبرى، الصفحات 270 و362 و363) فإن مفوضية الشؤون الخارجية في حكومة الثورة الاشتراكية الروسية التي أطاحت بالحكم الملكي القيصري، فضحت الاتفاقية المذكورة وأعلنت انسحاب روسيا منها مؤكّدة السياسة الجديدة للثورة والقائمة على حق تقرير المصير القومي وذلك بحسب ما جاء في جريدة "البرافدا" الصادرة بتاريخ 23/11/1917.
يؤكد التاريخ السياسي للدول والكيانات والهويات حتى الحقبة الإقطاعية أن العالم برمّته لم يعرف الكيانات القومية أو الوطنية بالمعنى الحالي، فما عرفه العالم واحداً من شكلين لا ثالث لهما، الشكل الإمبراطوري الذي كان يشمل جماعات وقبائل وأطيافاً وأدياناً شتى، مثل الدول الأموية والعباسية والعثمانية والرومانية، وقبلها الفينيقيون، السومريون، الآشوريون، الكنعانيون، والحضارات الآرامية.
فيما يخص الأزمنة الحديثة عربياً، وإضافة إلى الدور الخارجي لأقلام الاستخبارات البريطانية والفرنسية في اختلاق الكيانات والهويات العربية الحالية واقتطاعها من لحم الأمة، يشار إلى افتقاد هذه الكيانات إلى الحد الأدنى من مواصفات وتقاليد الدولة الوطنية والقومية الحديثة، سواء في شكلها الأوروبي الناجم عن الثورات البرجوازية ودولها القومية على غرار دول وستفاليا، أو في أشكالها الأخرى الشرقية على غرار الصين وفيتنام، والدول التاريخية العميقة مثل إيران ومصر وتركيا والهند.
فالتاريخ العربي ظل دوماً، إما تاريخ إمبراطوريات، وإما جغرافيات مستباحة للغزاة ولم يعرف أبداً تاريخ الكيانات الصغيرة كما هي الآن، كما لم يعرف تحوّل أنماط الإنتاج الإقطاعية إلى أنماط رأسمالية متطورة تسمح بتذويب المجاميع الطائفية والعشائرية في شكل اجتماعي جديد باسم الشعب بالمعنى الحديث.
فالشعب أو الكيان ليس نصاً دستورياً أو رغبة نخبة هنا وهناك بل هو واقعة اجتماعية تحل فيها المواطنة الحقيقية كعنوان لوجود الشعب التاريخي محل المجاميع السابقة، وهذا لم يحدث حتى الآن في غالبية البلدان العربية التي تظهر فيها علامات التعصّب الطائفي والقبلي كلما ضعفت الدولة التي أخذت طابع الناظم المركزي الخارجي لمجاميع وتشكيلات شديدة الهشاشة.
العراق
كما غيره من البلدان العربية الحديثة، لم يكن كياناً بحدوده الحالية قبل اتفاقية "سايكس بيكو"، بل إن الاحتلال البريطاني عندما قرّر ترسيم حدود هذا البلد في إطار تمزيق الشرق العربي، أخرج من قائمة المرشحين لحكمه الشخصية الوحيدة التي كانت تعيش آنذاك في العراق، وهو طالب النقيب، وضمّت قائمة المرشحين: الملك فيصل الأول من أنجال شريف مكة في الحجاز، الأمير عبد العزيز آل سعود أول ملك للسعودية، وشاه إيران.
ويشار إلى أن النفوذ المالي والسياسي في بغداد نفسها آنذاك لم يكن نفوذاً عربياً، بل هو مقسّم بين عائلات من أصول تركية وكردية وبين عائلات يهودية كانت تسيطر على غرفة تجارة بغداد، وظلت كذلك حتى اندلاع ثورة تموز 1958 التي أطاحت بالحكم الملكي.
سوريا الحالية أو الشام بلغة السوريين القوميين
لم يتصرّف أهل الشام يوماً في الإطار المحلي الضيق بل بمنطق التقسيمات الإدارية التاريخية التي جعلت من دمشق وحلب ولايات تتبعها غالبية البلاد السورية. ولذلك وبعد هزيمة الاحتلال العثماني في الحرب العالمية الأولى بادرت رموز البرجوازية السورية الجنينية إلى عقد مؤتمر سوري عام بمشاركة مندوبين من لبنان وفلسطين (سوريا الجنوبية) والأردن (سوريا الداخلية) قبل الاحتلال الفرنسي لسوريا بعد معركة ميسلون.
وفيما قدّم المؤتمر السوري العام صيغة دستورية مدنية، قام الاستعمار الفرنسي بإلغاء هذه الصيغة واستبدلها بحكومات طائفية ممثّلة بالعلم ذي النجمات الحمراء الثلاث، الذي استعادته (المعارضة السورية) خلال العشرية السوداء الأخيرة بديلاً لعلم الوحدة السورية المصرية بقيادة عبد الناصر (العلم السوري الحالي).
الأردن وفلسطين
مثل غيرهما من البلدان السورية وعلى مدار قرون طويلة، لم تعرف الأردن وفلسطين أي شكل لكيان خاص بكل منهما، فقد كانتا جزءاً من ولاية دمشق ثم ولاية سوريا مع استثناءات بين الحين والحين لبعض المدن، مثل القدس لأسباب دينية، ومثل الكرك لأهمية قلعتها التاريخية بين سوريا ومصر وعلى طريق الحج الشامي.
وقد تميّزت العلاقة بين الأردن وفلسطين بأنها كانت علاقة أفقية، بالنظر إلى بعض الخصوصيات الجغرافية والقبلية والاجتماعية (شمال الأردن مع شمال فلسطين، البلقاء مع نابلس والقدس، الكرك مع الخليل، وهكذا...).
وقد تمثّلت مناطقهما في المؤتمر السوري العام وشارك العديد من ممثليها في الوزارة السورية الأولى في دمشق، ومن المظاهر الأخرى ذات الدلالة:
-أنّ أوّل حكومة في شرق الأردن كانت برئاسة رشيد طليع (درزي لبناني)، وبمشاركة شخص واحد من أهل الأردن، كما كان أول رئيس للدرك هو السوري فؤاد سليم، وقد توالى على رئاسة الحكومة شخصيات من سوريا أو من موظفي الانتداب البريطاني في فلسطين.
-أنّ العلم الأردني الحالي ذا النجمة هو علم أول حكومة في سوريا 1920 الذي اشتقّته من العلم العربي كما أقرّه المؤتمر العربي 1913، وهو العلم الذي اتخذه حزب البعث وكذلك فلسطين علماً لهما ولكن من دون النجمة التي أضافتها الحكومة السورية تمييزاً عن العلم العربي. وكان العلمان يُرفعان معاً على مباني الحكومة في دمشق وسائر البلاد السورية.
أي أن العلم الأردني هو علم أول دولة سورية، والعلم الفلسطيني هو العلم العربي وليسا تعبيرات عن تأويلات كيانية.
-وبالمثل ما يتعلق بالكوفيات ذات النقش الأحمر والأسود والأبيض، التي صارت مع الثقافة الكيانية ترمز إلى العصبيات المريضة، الأولى أردنياً والثانية فلسطينياً. فالكوفيات المذكورة فكرة بريطانية لتمييز البدو عن الفلاحين إلى جانب الطربوش الأحمر العثماني (طربوش أفندية المدن).
لبنان
-على مدار ألف عام على الأقل، كان لبنان كما بقية البلاد السورية جزءاً من التقسيمات والأجندات الإدارية، الأموية والعباسية والأيوبيّة والفاطمية والمملوكية والعثمانية، ولم تظهر هذه التقسيمات لمرة واحدة صورة كيانية لأي من المناطق المذكورة خارج ولايات وإيالات سوريا الطبيعية.
لكن ولاية دمشق ثم ولاية سوريا ظلتا العنصر الثابت في كل ذلك وشملت على الدوام مناطق من لبنان الحالي وشرق الأردن وفلسطين، إلى جانب ولايات شبه ثابتة (حلب) وأخرى متبدّلة مثل بيروت، صيدا، صور، وطرابلس.
ويعرف الباحثون أن الميناء الأساسي لدمشق كان صيدا ثم بيروت، كما كانت طرابلس تتبادل الأهمية مع أنطاكيا كموانئ لحلب والموصل.
-من لا يعرف أو ينكر فإن مناطق لبنان الحالي كغيرها من مناطق سوريا الطبيعية كانّت موضوع تجاذبات دولية طيلة القرون السابقة، وخاصة القرن التاسع عشر فصاعداً، حيث تصاعدت حدة المنافسة بين قوى الاستعمار الأوروبي على وراثة الاحتلال العثماني.
يشار هنا إلى التجاذبات الفرنسية والبريطانية والعثمانية وروسيا القيصرية، وكذلك فترة حكم محمد علي لمصر، وانعكاسات كل ذلك على مناطق لبنان الحالي وجوارها، من ضاهر العمر والجزّار في عكا إلى الشهابيين والمعنيين في جبل لبنان، إلى الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر وانقسام الأطراف المحلية بين الفرنسيين (الموارنة) والإنكليز (الدروز).
ثمّ إلى لبنان الصغير (متصرّفية الجبل) برئاسة أرمني من خارج لبنان، ثم لبنان الكبير بتوقيع الاستعمار الفرنسي (إعلان غورو) ومشاغبات بريطانية تذهب روايات إلى أنها دعمت محاولات (البيارتة) الاستقلال بولاية بيروت التي تأخّرت عن الموافقة على مشروع غورو.
بالتأكيد ظل لبنان في قلب هذه التوافقات عبر (دولة المصرف) الفرنسية قبل أن تزاحمها البرجوازية الشامية أيام خالد العظم وشكري القوتلي، ويمكنّنا هنا الاستعانة ببرنامج على قناة أم تي في، هو برنامج (صارو مية) والحلقة التي بثها البرنامج بعنوان (أثروا في لبنان) بتاريخ 15/7/2022، وفيها إشارات واضحة لدور مصطفى النحاس رئيس الوزراء المصري في صياغة ميثاق 1943، ودور نوري السعيد رئيس وزراء العراق في مشروع كميل شمعون واستدعاء القوات الأميركية، وهو الاستدعاء الذي شكّل سمة أساسية من سمات الليبراليين في لبنان.
وليس بعيداً عن الذاكرة هنا استدعاء العدو الصهيوني عام 1982 وبعده قوات المارينز الأميركية والقوات الفرنسية قبل أن تهزم في عمليات عسكرية نسبت إلى فصائل شيعية.
-لم يكن من باب الصدفة أن تتولى شخصيات من أي بقعة في سوريا الطبيعية، مواقع أساسية هنا أو هناك، مثل فارس الخوري اللبناني الذي تولى أكثر من منصب سياسي ودبلوماسي في سوريا، ومثّله شوكت شقير اللبناني الذي تولى قيادة الجيش السوري.
لبنان كغيره، خليط من المهاجرين
وذلك سواء من الوسط العربي أو أوساط كردية أو تركية وغيرها، وبالتالي فإن أي نزعات كيانية ذات بعد تأصيلي نزعات لا قيمة علمية أو تاريخية لها.
وإذا كان ميشال شيحا من أهم مهندسي الكيانية اللبنانية، فهو نفسه من أصول كلدانية عراقية عاش في كنف إخوانه المصرفيين من آل فرعون.
وإذا كان لبنان (دولة مصارف) فإن أبرز المصرفيين في تاريخه هو الفلسطيني يوسف بيدس.
-إن غالبية الشيعة يُنسبون إلى جبل عامل الذي ينسب بدوره إلى قبيلة عاملة اليمنية التي كانت تتخذ من شرق الأردن مقراً لها.
-كما أن الموارنة وإضافة إلى قدومهم على دفعات من سوريا الحالية إما للاشتغال بزراعة التوت وصناعة الحرير أو لعوامل متفرقة، فثمة روايات تردّهم وخاصة المردة كما غالبية الشيعة إلى الأردن، وتحديداً إلى الأنباط، وذلك وفق 3 روايات تاريخية للأب لامانس وثيودور نولدكه والبلاذري، كما ورد ذلك في الصفحة 265 من كتاب متى موسى (الموارنة في التاريخ) الصادر عن دار قدمس 2004.
كما ورد في كتاب حبيب الشرتوني الصادر في 2023 أن أصول عائلة الجميل تتراوح بين ثلاث روايات (مصر، قبيلة شمر في نجد، ومنطقة تعز في اليمن).
-أما العائلات السنية في المدن الساحلية فغالبيتها تعود إلى أصول كردية وألبانية وتركية، مثلها في ذلك مثل غالبية سكان القصبات العربية البحرية وفق قراءة للمفكر المصري، سمير أمين، الذي ذهب إلى أن التركيبة الديمغرافية العربية إلى ما قبل قرون قليلة كانت تتوزّع بين غالبية سنية غير عربية حليفة للحكم العثماني في القصبات والمراكز البحرية والبرية وبين فلاحين وجبليّين من المذاهب الأخرى.
إضافة إلى عشرات العائلات التي قدِمت من سوريا الحالية مثل الحريري وإدلبي وبركات وعيدو وحجار، ثمة عائلات قدِمت من مناطق أخرى عربية وغير عربية مثل المشنوق، حمادة، بريبر، فليفل، الحص، سلام، عيتاني، منيمنة، الوزان. ومن العائلات التي قدمت إلى لبنان أيضاً، العائلات الكردية: الصلح، بدارو، شبارو، مرعشلي، والعائلات التركية: دبيبو، بيرقدار، قاروط، الأحدب، أورفلي، دعبول، وكذلك عائلات من المماليك التركمان مثل: قباني، كبة، غلاييني، قمورية، مكاري.
في مواجهة التوطين المصطنع
يجدر التأكيد هنا بأن التشخيص لأصول التشكيلة الاجتماعية اللبنانية يعود إلى ظروف طبيعية تاريخية مغايرة شملت كل المنطقة عندما لم تكن الحدود الحالية للدول قد استقرّت بعد، أما المحاولات المشبوهة الحالية لتوطين السوريين وغيرهم في لبنان، فتأتي في سياق سياسي مصطنع وضمن معادلات طائفية كريهة مطبوخة في أقلام الاستخبارات الإسرائيلية والأطلسية.
بل إن أحد أهداف المؤامرة على سوريا خلال العشرية السوداء المعروفة، هو خلق بيئة هجرة في أكثر من منطقة بينها لبنان في سياق توظيف طائفي سياسي إسرائيلي – أميركي ضد بيئة المقاومة، واللعب بالديمغرافيا على مستوى الإقليم، وهو ما يقودنا إلى الاستنتاج بأنه بقدر الحاجة إلى تأكيد الإطار الطبيعي التاريخي لوحدة البلاد السورية رداً على اتفاقية سايكس بيكو وتبعاتها، فالحاجة الوطنية اليوم وبالقدر نفسه تستدعي التصدّي لمشروع التوطين المصطنع وغاياته المشبوهة.