حلف الناتو في ضوء جدلية القوة والقانون في العلاقات الدولية
مفهوم "الأمن الجماعي" يقوم على قاعدة مفادها أن أمن الدول مسؤولية جماعية، ومن ثم فإن أي اعتداء يقع على "الجزء" يجب أن يعد بمثابة اعتداء على "الكل".
نشأت الدولة القومية في أوروبا في أعقاب حروب دينية استمرّت ثلاثين عاماً، وانتهت بانعقاد مؤتمر وستفاليا عام 1648. وقد ارتبطت الدولة القومية منذ نشأتها بمفهوم السيادة الذي يعني عدم خضوعها لأي سلطة أعلى منها. لذا اعتبرت الدولة هي صاحبة الاختصاص الأصيل في تحديد ماهية مصالحها، وفي اختيار الوسائل التي تراها ملائمة للدفاع عن هذه المصالح، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة.
ولأنّ مجتمع الدول توزّع بين أنواع عديدة، مختلفة الأحجام والأوزان والموارد، فقد ساد اعتقاد مفاده أن العلاقات الدولية ينبغي أن تدار وفقاً لمبدأ "توازن القوى". غير أنه ثبت بالدليل العملي أن حركة التحالفات بين الدول قد لا تؤدي دائماً إلى نقطة التوازن المطلوبة لتحقيق السلم والأمن الدوليين، وأن البحث الدائم عنها غالباً ما يفضي إلى سباق تسلّح قد يتسبّب في حد ذاته في خلق حالة من عدم الاستقرار.
ولا شكّ أن اندلاع الحرب العالمية الأولى في بداية القرن العشرين شكّل نقطة فارقة في مسار العلاقات الدولية. فقد بدأ العالم يقتنع منذ ذلك الحين بحقيقتين على جانب كبير من الأهمية، الأولى: صعوبة السيطرة على نطاق حرب قد تنشب في أي مكان في العالم، بفعل تداخل وتشابك المصالح بين الدول، والثانية: صعوبة التحكّم في حجم الدمار الناجم عن هذه الحرب، بفعل التطوّر المستمر في الصناعات العسكرية وفي وسائل التدمير الشامل.
من هنا بدأ التفكير في تنظيم العلاقات الدولية على أسس جديدة تستند إلى أطر مؤسسية وإحلال مفهوم "الأمن الجماعي" بدلاً من "توازن القوى". وفي هذا السياق تأسست "عصبة الأمم" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وعندما فشلت في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثانية حلّت محلها منظمة "الأمم المتحدة".
يختلف مفهوم "الأمن الجماعي" جذرياً عن مفهوم "توازن القوى". فإدارة العلاقات الدولية وفق مفهوم "الأمن الجماعي" تتم من خلال "مؤسسات" تتولّى تحديد القواعد التي تقوم عليها هذه العلاقات في مختلف المجالات، ما يعنى أن السيادة التي تتمتع بها الدول في هذه الحالة ليست مطلقة، مثلما كان عليه الحال من قبل، وإنما هي مقيّدة بحق جميع الدول في التمتّع بالأمن، وفي المحافظة على وحدة ترابها الوطني.
بعبارة أخرى يمكن القول إن مفهوم "الأمن الجماعي" يقوم على قاعدة مفادها أن أمن الدول مسؤولية جماعية، ومن ثم فإن أي اعتداء يقع على "الجزء" يجب أن يعد بمثابة اعتداء على "الكل"، الذي ينبغي عليه أن يتكاتف لردعه أو لصده. لذا فإن وضع نظام الأمن الجماعي موضع التطبيق يتطلّب أولاً وقبل كلّ شيء توافر شرطين رئيسيين، الأول: التزام الدول كافة بتسوية النزاعات التي تنشب فيما بينها بالوسائل السلمية، وفي الوقت نفسه تحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية، والثاني: وجود جهاز مسؤول عن تحقيق السلم والأمن الدوليين يتم تزويده بالسلطات والصلاحيات والآليات كافة التي تمكّنه من ردع ومعاقبة العدوان.
صحيح أن عهد "عصبة الأمم" لم يجرؤ على تحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية، ولم يزوّدها بالسلطات والصلاحيات والآليات التي تمكّنها من ردع ومعاقبة المعتدي، ما أدى إلى انهيارها بعد أقل من عقدين، غير أن ميثاق "الأمم المتحدة" ما لبث أن تلافى هذا النقص.
لذا يمكن القول إن ميثاق الأمم المتحدة احتوى، من الناحية النظرية على الأقل وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، على نظام أمن جماعي مكتمل الأركان، غير أنه انطوى في الوقت نفسه على أوجه خلل خطيره، خاصة حين ربط القدرة على تشغيل هذا النظام بإجماع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو شرط تبيّن فيما بعد أنه غير قابل للتحقيق بسبب انقسام العالم إلى معسكرين متصارعين تدور بينهما "حرب باردة". وبقيام حلف الناتو عام 1949 ثم حلف وارسو عام 1955، انتكس التنظيم الدولي وعادت العلاقات الدولية إلى حالة تقترب من الفوضى التي كانت عليها قبل الحرب العالمية الأولى.
تجدر الإشارة هنا إلى أن وجود أحلاف عسكرية في مرحلة الحرب الباردة تناقض كلياً مع نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، وذلك لسبب بسيط وهو أنّ حلفي الناتو ووارسو قسما العالم إلى كتلتين متصارعتين، تم وضع كل منهما تحت الهيمنة المنفردة لإحدى القوتين المتنافستين على قيادة النظام الدولي.
وكان يفترض، حين انهار حلف وارسو، أن يقدم حلف الناتو على حل نفسه، وأن تسعى الولايات المتحدة لإعادة إحياء نظام الأمن الجماعي الذي جمّدته الحرب الباردة، وهو ما لم يحدث بسبب إصرارها على الهيمنة المنفردة على نظام دولي أصبح أحادي القطبية بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي. ليس هذا فقط، بل راح حلف الناتو يتوسّع شرقاً ويعمل جاهداً على ضم الدول التي كانت فيما مضي أعضاء في حلف وارسو، ما أدى ليس إلى تغليب سياسة القوة في العلاقات الدولية فحسب، وإنما أيضاً إلى وجود نظامين متناقضين للأمن الجماعي.
الأول: نظام عامّ يديره مجلس الأمن نيابة عن الأمم المتحدة وعن المجتمع الدولي ككلّ، وتخضع لإجراءاته وتلتزم بتطبيق قواعده كافة دول العالم التي أصبحت جميعها أعضاء في منظمة الأمم المتحدة. غير أن هذا النظام أصبح الآن شبه مشلول وغير قابل للتشغيل، بسبب عودة الدول الكبرى إلى ممارسات مرحلة الحرب الباردة التي اتسمت بالإسراف في استخدام حقّ الفيتو الذي يسمح لأي من الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن بشلّ قدرة نظام الأمن الجماعي على الحركة، وتحويله إلى مجرد نصوص ميتة لا حياة فيها.
والثاني: نظام خاص، تقوده الولايات المتحدة الأميركية وغير قابل للتطبيق إلا على عدد محدود من الدول، ألا وهي الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي وحدها. ولأنه نظام فاعل وقابل للتشغيل بكفاءة، ليس لأن الدول الأعضاء فيه ترتبط فيما بينها بروابط أيديولوجية ومصالح مشتركة فحسب، ولكن لأن بوسع الولايات المتحدة أن تفرض عليه أيضاً هيمنتها المطلقة، فقد كان من الطبيعي أن يؤثّر سلباً على نظام الأمن الجماعي العام المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، بل وأن تتحوّل الأمم المتحدة في وجوده إلى أداة في يده وليس العكس.
قد يقول قائل بتمتع حلف الناتو بالشرعية الدولية، لاستناده إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز حق الدفاع الشرعي، الفردي والجماعي عن النفس، غير أنني أختلف تماماً مع وجهة النظر هذه. فحق الدفاع عن النفس يصبح مشروعاً فقط في حال وجود عدوان وشيك، أو في حال تعجز الأمم المتحدة عن ردعه أو مواجهته، لكن حين يكون حلف الناتو هو نفسه عقبة تحول دون إعادة إحياء نظام الأمم المتحدة للأمن الجماعي فإن مشروعية استمراريته تصبح مسألة مشكوكاً في صحتها.
ومن المعروف أن الولايات المتحدة تعمّدت إهدار فرصة نادرة لإعادة إحياء وتشغيل نظام الأمم المتحدة للأمن الجماعي، حرصاً منها على التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي، ولكي يخلو أمامها الطريق لفرض هيمنتها المنفردة على النظام الدولي. دليلنا على ذلك أنها لم تبادر بحلّ حلف الناتو عقب إقدام حلف وارسو على حلّ نفسه، ولم تقدم على أي خطوة من شأنها المساعدة على إصلاح الأمم المتحدة، وأصرّت ليس على بقاء حلف الناتو فحسب ولكن على توسيعه وامتداده شرقاً لكي يضم كل الدول التي كانت سابقاً أعضاء في حلف وارسو وجزءاً لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي نفسه، ما تسبّب في النهاية باندلاع الأزمة الأوكرانية الحالية.
في اجتماعه الأخير الذي انعقد في العاصمة الليتوانية، والذي انتهى يوم أمس الموافق 12/7/2023، تصدّرت الأزمة الأوكرانية جدول أعمال حلف الناتو الذي ما زال يصرّ على ممارسة سياسة التوسّع شرقاً، ونجح أخيراً في اتخاذ الإجراءات التي تضمن انضمام السويد إلى صفوفه بعد نجاحه منذ عدة أشهر في ضم فنلندا.
ومن الواضح أن هذا الحلف بقيادة الولايات المتحدة ما زال يحرص كل الحرص على تقديم أقصى مساعدة عسكرية ممكنة لأوكرانيا، على أمل تمكينها من كسب الحرب وإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا. وتلك كلها سياسات تبعدنا كثيراً عن مفهوم الأمن الجماعي العام، وتعود بالعالم إلى عصر "توازن القوى"، أو عصر "ما قبل التنظيم الدولي".
وفي تقديري أن الرهان على قدرة حلف الناتو على إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا هو رهان خاطئ تماماً، لأن الأخيرة لن تتردّد في استخدام السلاح النووي إن وجدت نفسها عاجزة عن كسب الحرب التي يخوضها الناتو ضدها على الساحة الأوكرانية بالأسلحة التقليدية. وحتى بافتراض أن روسيا ستعجز عن تحقيق نصر عسكري حاسم في أوكرانيا يجبر الدول الغربية على الاستسلام لكل مطالبها، فليس من المستبعد إطلاقاً أن يضطر الغرب في نهاية المطاف إلى الدخول في عملية تستهدف البحث عن تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، وهنا قد يكون إصلاح الأمم المتحدة، بما يؤدي إلى تفعيل نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في الميثاق، هو المدخل الصحيح للوصول إلى التسوية السياسية المنشودة.