انطباعات أوليّة عن الأزمة السودانية

لفهم حقيقة ما يجري في السودان حالياً، ينبغي ربطه بالأزمة الشاملة التي يعاني منها النظام السياسي السوداني منذ استقلال البلاد في بداية النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي حتى الآن.

  • انطباعات أوليّة عن الأزمة السودانية
    انطباعات أوليّة عن الأزمة السودانية

يسهل على أي مراقب للأوضاع السودانية رصد وتتبّع مسار الخلافات المحتدمة منذ فترة بين قيادة الجيش السوداني ممثّلة في الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من جهة، وقيادة قوات الدعم السريع ممثّلة في الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، من جهة أخرى. ومع ذلك فلم يكن بوسع أحد أن يتوقّع تصاعد هذه الخلافات إلى حد اندلاع صدام مسلّح وخطير بين الطرفين على النحو الذي نشهده منذ الـ 15 من نيسان/أبريل الحالي، ما قد يؤدي ليس إلى إشعال حرب أهلية شاملة فحسب، بل وإلى تفتيت السودان نفسه وإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة برمتها.

   ولفهم حقيقة ما يجري حالياً، ينبغي ربطه بالأزمة الشاملة التي يعاني منها النظام السياسي السوداني منذ استقلال البلاد في بداية النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي حتى الآن، وهي أزمة ثلاثية الأبعاد:

           أ-فهناك بُعد يتعلّق بالصراع التاريخي المحتدم بين الجيش السوداني، من ناحية، وكل مكوّنات المجتمع المدني وأحزابه السياسية، من ناحية أخرى. ومن المعروف أن الحياة السياسية في السودان تتسم، ومنذ استقلال السودان عن مصر في أول كانون الثاني/يناير عام 1956 حتى الوقت الراهن، بصراع مرير بين الطرفين، جسّدته سلسلة من الانقلابات العسكرية التي تفضي بدورها إلى ثورات شعبية تطيح بها وتسعى من دون جدوى إلى إقامة حكم مدني قابل للدوام.

ففي عام 1958 وقع انقلاب عسكري قاده إبراهيم عبود الذي تمكّن من حكم البلاد لمدة 7 سنوات قبل أن تطيح به ثورة شعبية اندلعت عام 1964. وفي عام 1968 وقع انقلاب آخر قاده نميري الذي تمكّن من حكم البلاد لمدة 16 عاماً قبل أن تطيح به ثورة شعبية اندلعت في نيسان/أبريل عام 1985. وفي عام 1989 وقع انقلاب ثالث قاده البشير الذي تمكّن من حكم البلاد لمدة 30 عاماً قبل أن تطيح به ثورة شعبية اندلعت في 2019. 

    لكنّ الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع تعاونا للانقلاب عليها عام 2021 من دون أن يتمكّن أي من الطرفين من حسم الصراع لصالحه حتى الآن. أي أن الجيش السوداني كانت له الغلبة في هذا الصراع وتمكّن من السيطرة في معظم الأوقات باستثناء سنوات قليلة.

          بـ-وهناك بُعد ثانٍ يتعلّق بالصراع المحتدم داخل مؤسسات المجتمع المدني السوداني نفسه. فرغم ما يتمتع به الشعب السوداني من حيوية ومن وعي سياسي كبير، إلا أن النخب السياسية السودانية عجزت دوماً عن التوافق فيما بينها على صيغة لإدارة الدولة والمجتمع بطريقة تسمح بتحييد دور الجيش وبناء دولة مدنية حديثة. 

ويعود ذلك لأسباب كثيرة، ربما يكون أهمها التنوّع العرقي والديني والطائفي والقبلي الذي يتسم به المجتمع السوداني، من ناحية، والتداخل الكبير بين الديني والسياسي والطائفي والجهوي في الحياة السياسية السودانية، من ناحية أخرى.

صحيح أن الشعب السوداني تمكّن في أحوال كثيرة من توحيد صفوفه وقواه في مواجهة "حكم العسكر"، ما مكّنه من إشعال ثورات شعبية كبرى نجحت في الإطاحة بقادة الانقلابات، لكن جميع ثوراته فشلت في إرساء دعائم حكم مدني مستقرّ وقابل للدوام. بل إن أحزاباً سياسية سودانية مختلفة الرؤى والتوجّهات تعاونت في فترات تاريخية مختلفة مع قادة الانقلابات لتشكيل حاضنة مدنية لحمايتها ودعمها.

    فإذا أضفنا إلى ما تقدّم ما أدّته الحركات الانفصالية المسلّحة من دور سلبي في الحياة السياسية السودانية، كالحركات التي نجحت بالفعل في فصل جنوب السودان أو الحركات الموجودة حالياً في دارفور وفي جنوب كردفان والنيل الأزرق، لتبيّن لنا حجم الصعوبات والعقبات الهائلة التي تعترض قدرة السودان على تأسيس دولة مدنية حديثة.

جـ-وهناك بُعد ثالث يتعلّق بطبيعة المؤسسة العسكرية السودانية نفسها وميلها الغريزي للتدخّل في الشأن السياسي. ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة منها:

          1-انتشار الأفكار والأيديولوجيات السياسية بين كوادرها وقياداتها، ما شكّل عقبة حالت دون تحوّل الجيش السوداني إلى جيش مهني محترف.

          2-عجزها عن التحوّل إلى بوتقة صهر اجتماعي لترسيخ فكرة المواطنة بين المنخرطين فيها وتذويب الفوارق الناجمة عن التنوّع العرقيّ والديني والطائفي الذي يميّز المجتمع السوداني.

          3-دخولها طرفاً في لعبة الصراع على الثروة من خلال مشاركتها المتنامية في الأنشطة الاقتصادية المتنوّعة، ما ساعد على ظهور مصالح ذاتية تدفع نحو انخراطها بشكل دائم في العمل السياسي.

فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن الرئيس عمر البشير ارتكب في عام 2013 خطأ قاتلاً حين قرّر تحويل قوات "الجنجاويد" إلى قوات نظامية موازية تعرف باسم "قوات الدعم السريع"، والتي صل عددها الآن إلى ما يزيد عن 100 ألف فرد، وقام بوضعها تحت إمرة قيادة مستقلة إلى حد كبير عن قيادة القوات المسلحة، وأتاح لها من الإمكانات العسكرية ما جعلها تبدو كجيش داخل الجيش، لتبيّن لنا حجم التعقيدات التي أصابت الحياة السياسية في السودان وتراكمت بمرور الوقت. ومن المعروف أن قوات الدعم السريع تسيطر حالياً على معظم مناجم الذهب في السودان، وأن قائدها أصبح واحداً من أغنى أغنياء السودان.

نخلص مما تقدّم إلى أن الأزمة الراهنة، والتي تحوّلت إلى صدام مسلح بين جناحين ينتميان إلى القوات المسلحة السودانية، تعكس بشكل دقيق مجمل التعقيدات التي أصابت الحياة السياسية، ولها أبعاد وتداعيات بعيدة المدى على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والدولية. 

فهي على الصعيد المحلي، تعد امتداداً طبيعياً للأزمة التاريخية المتجذرة التي تحكم العلاقة بين المجتمع المدني والطبقة السياسية السودانية، من ناحية، والقوات المسلحة السودانية، من ناحية أخرى. 

فرغم كل ما يتمتّع به المجتمع المدني السوداني من حيوية ومن طاقات نضالية هائلة، لا تزال النخب السياسية السودانية غير قادرة على توحيد صفوفها وفرض إرادتها على القوات المسلحة التي احتكرت السلطة في معظم الأوقات وتريد الآن الاحتفاظ بها بأي ثمن، وبالتالي إجهاض ثورة 2019 مثلما أجهضت من قبل كل الثورات التي قام بها الشعب السوداني في مراحل تاريخية مختلفة.

غير أن الأزمة السياسية الحالية تبدو مختلفة عن كل ما سبقها من الأزمات التي أفرزها الصراع على السلطة، وذلك لأنّ المؤسسة العسكرية السودانية لم تعد الآن متماسكة تحت قيادة موحّدة مثلما كان عليه الحال من قبل، وإنما تتنازعها قيادتان تحاول كل منهما استمالة فصيل مدني إلى جانبها.

فقائد قوات الدعم السريع، على سبيل المثال، يتهم القائد العام للقوات المسلحة السودانية بأنه ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي الذي يحاول إعادة إنتاج نظام البشير، على الرغم من أنه هو نفسه نتاج نظام البشير الذي عيّنه قائداً لقوات الدعم السريع.

لذا يمكن القول إن الطموحات الشخصية تؤدي دوراً مهماً في الأزمة الراهنة، ما يجعلها أقرب ما تكون إلى صراع على السلطة بين جناحين عسكريين منه إلى صراع سياسي بين برنامجين أو رؤيتين مختلفتين، فكل منهما يريد الانفراد بالسيطرة على الجيش حتى يتمكّن من الانفراد بعد ذلك بالسيطرة على السلطة واستعادة "حكم العسكر" من جديد.

وعلى الصعيد الإقليمي، تتشابك خيوط هذه الأزمة مع أزمات أخرى في المنطقة. ففي تشرين الأول/أكتوبر من عام 2020 تمكّنت "إسرائيل" من إحداث اختراق على الجبهة السودانية حين نجحت في إبرام اتفاق لتطبيع العلاقات مع السودان وقّع عليه رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان.

صحيح أن تفعيل هذا الاتفاق يحتاج إلى تصديق البرلمان السوداني الذي لم يتشكّل بعد، لكن الاتصالات بين "إسرائيل" ونظام الحكم القائم حالياً في السودان بمختلف أجنحته لا تزال مستمرة، بدليل تصريح نتنياهو مؤخّراً باستعداده للتوسّط بين الأطراف المتنازعة.

ومن الواضح أن لرئيس الوزراء الإثيوبي علاقات عميقة بالعديد من أطراف الأزمة الراهنة وسبق له أن مارس دور الوساطة فيما بينها، ومن ثم فليس من المستبعد أن يحاول التدخّل فيها لتحقيق مصالح وأهداف إثيوبية محدّدة. ولحميدتي والبرهان علاقات متشابكة بكل من السعودية ودولة الإمارات العربية. فقد شاركت وحدات من الجيش السوداني ومن قوات الدعم السريع في حرب اليمن، ولكلا البلدين مصالح اقتصادية ضخمة في السودان.

وقد نشرت صحيفة الغارديان مؤخّراً تقريراً يشير إلى وجود علاقات خاصة تربط بين دقلو ودولة الإمارات التي تشتري منه معظم إنتاج الذهب المستخرج من المناجم السودانية التي يسيطر عليها. فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن تحقيق الاستقرار في السودان يمسّ بشكل مباشر بأمن مصر الوطني لأدركنا أن ما يجري في السودان يشكّل أزمة إقليمية بكل معنى الكلمة.

وعلى الصعيد العالمي، يمكن القول إن اندلاع صراع مسلّح بهذا الحجم في السودان، وبحكم الوضع الجيو سياسي لهذا البلد، وما يثيره من تنافس بين القوى الكبرى، يشكّل تهديداً لمصالح دولية كبرى ومن شأنه التأثير على التوازنات الدولية، وهو ما يفسّر الاهتمام الشديد الذي تبديه الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، وكلها موجودة بشكل أو آخر على الساحة السودانية ويحاول كل منها دفع الأزمة الحالية في الاتجاه الذي يحقّق مصالحها.

لذا على العالم العربي أن يبذل كل ما في وسعه لإيجاد حل عربي لهذه الأزمة والعمل بكل الوسائل الممكنة للحيلولة دون تدويلها، وإلا فسيخسر الكثير. فهل يستطيع؟