النتائج المحتملة لفشل مفاوضات فيينا

السؤال الذي يجب أن ننشغل به أكثر من غيره في هذه المرحلة يتعيّن أن يدور حول ما قد يحدث للمنطقة وفيها، في حال فشل مفاوضات فيينا، بصرف النظر عن الإعلان رسمياً عن هذا الفشل من عدمه.

  • النتائج المحتملة لفشل مفاوضات فيينا
    النتائج المحتملة لفشل مفاوضات فيينا

توقفت منذ شهور مفاوضات فيينا، التي استهدفت بحث إجراءات وشروط عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى اتفاق البرنامج النووي الإيراني، الموقّع عام 2015، والذي انسحبت منه إدارة ترامب عام 2018. ومع ذلك، ما تزال إيران والولايات المتحدة حريصتين على عدم الإعلان رسمياً عن فشل هذه المفاوضات، الأمر الذي يمكن تفسيره بواحد من احتمالين:

الاحتمال الأول: رغبة كل منهما في عدم الظهور بمظهر الطرف المتسبب في حدوث الفشل أو المتعجل في إعلانه، على الرغم من قناعتهما بوصول المفاوضات بينهما إلى طريق مسدود. وفي حال ثبوت صحة هذا الاحتمال، فمعنى ذلك أن إيران والولايات المتحدة أصبحتا مهيأتين نفسياً للتصرف على أساس أن المفاوضات انتهت، وأن عليهما الاستعداد لمرحلة "ما بعد فيينا" والتفكير في شكل الخطوة التالية، سواء تم الإعلان رسمياً عن فشل المفاوضات أو لم يتم.

الاحتمال الثاني: استخدام التجميد كموقف تفاوضي تكتيكي، لاعتقاد كل منهما بأن الظهور بمظهر الطرف غير المتعجل للتوصل إلى اتفاق يقوّي من موقفه ويضغط على الطرف الآخر لتقديم تنازلات إضافية، وهو ما يمكن ترجمته بممارسة دبلوماسية "حافة الهاوية". وفي حال ثبوت صحة هذا الاحتمال، فمعنى ذلك أن الأمل في التوصل إلى اتفاق في اللحظة الأخيرة ما زال قائماً، وأن طرفَي المفاوضات يدركان جيداً أنه البديل الوحيد الأكثر رشاداً، مقارنة بالبدائل الأخرى التي تنطوي جميعها على مخاطر يصعب تحمّلها.

لا تتوافر لدينا معلومات كافية تساعد على ترجيح كفة أحد هذين الاحتمالين على الآخر، ومع ذلك، فمن الواضح أن إمكانية التوصل إلى اتفاق سوف تضعف بمرور الوقت، خاصة أن إيران تعي جيداً أن أي اتفاق يتم التوصل إليه قد لا يطبق إلا خلال فترة قصيرة تقل عن عامين، هي الفترة المتبقية من إدارة بايدن، وأن احتمالات نكوص الولايات المتحدة وخروجها منه مرة أخرى واردة، خاصة في حال وصول رئيس جمهوري من نوع ترامب إلى البيت الأبيض، عقب انتخابات الرئاسة الأميركية المقرر عقدها في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام القادم.

لكن وجود مثل هذا الاحتمال لا يعني بالضرورة أن إيران قد اتخذت من جانبها قراراً بإغلاق باب التفاوض، وأصبحت تفضل الانتظار إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة، والأرجح أن إيران ما تزال راغبة بشدة في التوصل إلى اتفاق مع إدارة بايدن، إذا قبلت الأخيرة بكل شروطها، حتى ولو لم يطبق الاتفاق الجديد إلا لفترة قصيرة. فإيران في حاجة ماسة إلى رفع العقوبات، وتدرك في الوقت نفسه بأن إقدام أي رئيس أميركي قادم على إلغاء الاتفاق الجديد سيكون مسألة محفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وسيقوّي من موقفها هي أمام المجتمع الدولي.

لذا، أعتقد بأن السؤال الذي يجب أن ننشغل به أكثر من غيره في هذه المرحلة يتعيّن أن يدور حول ما قد يحدث للمنطقة وفيها، في حال فشل مفاوضات فيينا، بصرف النظر عن الإعلان رسمياً عن هذا الفشل من عدمه. في تقديري، أننا سنكون في هذه الحالة إزاء عدد من السيناريوهات المحتملة، يمكن إجمالها على النحو الآتي:

السيناريو الأول: توجيه ضربة عسكرية واسعة النطاق لتدمير برنامج إيران النووي

وهو السيناريو الذي تفضّله "إسرائيل" وتسعى إليه بكل الوسائل المتاحة، وتحاول في الوقت نفسه إقناع الولايات المتحدة بأنه الوسيلة الأكثر فعالية لحرمان إيران من تصنيع سلاح نووي. وهناك مؤشرات متعددة توحي بأن الجهود الإسرائيلية الرامية لتحقيق هذا الهدف (إقناع الولايات المتحدة بالخيار العسكري) على وشك أن تثمر، بدليل:

1- صدور تصريحات أميركية عديدة مؤخراً تؤكد أن الخيارات كافة، بما فيها الخيار العسكري، ما تزال مطروحة على الطاولة.

2- قيام الولايات المتحدة و"إسرائيل" مؤخراً بإجراء مناورة عسكرية جوية مشتركة، قيل إنها تحاكي هجوماً على مواقع إيرانية انطلاقاً من الأسطول الأميركي الخامس.

3- قيام عدد كبير من العسكريين الإسرائيليين والأميركيين على أعلى المستويات بتبادل الزيارات، التي وصلت وتيرتها، في الآونة الأخيرة، إلى درجة تكاد تكون غير مسبوقة. من المعروف أنه سبق لـ"إسرائيل" أن أكدت مراراً وتكراراً أنها ليست ملزمة بأي اتفاق يبرم مع إيران حول برنامجها النووي، وأنها لن تتردد في اللجوء إلى الخيار العسكري منفردة، إذا اضطرت إلى ذلك، لكني أعتقد أن "إسرائيل" لن تلجأ إلى الخيار العسكري إلا إذا ضمنت مشاركة الولايات المتحدة مباشرة، وهو ما أستبعده لأسباب عدة أهمها:

1-أن الولايات المتحدة تبدو غارقة حتى أذنيها في إدارة الحرب المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية، فضلاً عن أنها تتحسب في الوقت نفسه لاحتمال تصاعد الصراع مع الصين حول تايوان، ولذا لا تريد حرباً أخرى في الوقت الراهن.

2-أن احتمالات النجاح في تدمير البرنامج النووي الإيراني بضربة واحدة ساحقة ليست مؤكدة، والأرجح أن تظل إيران قادرة على الرد على أي هجوم مباغت قد تتعرض له، فضلاً عن أن حلفاءها في المنطقة لن يصمتوا، ما سيؤدي حتماً إلى تحوّل المواجهة مع إيران إلى حرب إقليمية شاملة يصعب على العالم احتمال ما قد يترتب عليها من نتائج، خاصة إذا تعرضت آبار النفط التي تعجّ بها المنطقة للضرب.

السيناريو الثاني: الإبقاء على السياسات الراهنة من دون تغيير

ما يعني استمرار العمل بنظام العقوبات القصوى المفروضة على إيران، وربما تشديدها وتوسيع نطاقها لتشمل قطاعات وأنواعاً أخرى، مع استمرار منح "إسرائيل" والدول المناوئة لإيران في الوقت نفسه، ضوءاً أخضر لتشديد ضغوطها على إيران، سواء بتقديم مساعدات للقوى المناوئة للنظام الإيراني في الداخل، أو بتضييق الحصار وممارسة أقصى أنواع الضغوط الممكنة على القوى الحليفة لها. لكن احتمال نجاح هذه الوسائل في حمل إيران على تغيير موقفها يبدو محدوداً، وذلك لأسباب عدة أهمها أن إيران:

1-تمكنت من تحمّل هذا النوع من الضغوط القصوى لفترة تقترب الآن من 4 سنوات، بل واستطاعت خلالها زيادة قدراتها العسكرية وتوسيع نفوذها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

2-لجأت إلى مواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم بنسب أعلى بكثير من تلك المنصوص عليها في اتفاق 2015، كردّ على انسحاب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق، وبالتالي تمكنت من زيادة إنتاجها ومخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة قد تصل إلى 60%، وربما تستطيع الوصول قريباً إلى نسبة 90%، ما يعني اقترابها من العتبة التي تمكنها من تصنيع السلاح النووي في الوقت الذي تريد.

3-صمدت في وجه المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى تخريب برنامجها النووي، باغتيال العلماء، أو إلى إسقاط النظام الإيراني من داخله، بإثارة الفوضى وزرع الفتن.

معروف أن "إسرائيل" مقتنعة تماماً بأن إسقاط النظام الإيراني هو الوسيلة الوحيدة لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي أو تصنيعه، وتبذل جهوداً مضنية لإقناع الولايات المتحدة بتبني سياسات تستهدف تغيير النظام الإيراني، سواء باستخدام القوة العسكرية أو بأي وسيلة أخرى، لكنها فشلت حتى الآن في تحقيق هذا الهدف. لكل هذه الأسباب، يبدو لي أن فرص نجاح هذا السيناريو تبدو ضئيلة للغاية.

السيناريو الثالث: تصعيد عسكري محسوب للصراع مع إيران

وذلك بإقدام إدارة بايدن على منح "إسرائيل" ضوءاً أخضر يتيح لها إمكانية تصعيد عملياتها المتنوعة ضد إيران، سواء من خلال مواصلة العمليات العسكرية وتكثيفها، والتي اعتادت أن تقوم بها ضد المواقع الإيرانية في سوريا، أو من خلال تكثيف عمليات التخريب والاغتيالات وتأليب الأقليات التي تقوم بها منذ فترة في الداخل الإيراني، مع الحرص في الوقت نفسه على ألا يصل هذا التصعيد إلى حد المغامرة باحتمال اندلاع مواجهة شاملة أو حرب إقليمية في المنطقة.

وفي تقديري، أن هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحاً، وذلك لأسباب كثيرة، ربما يكون أهمها أنه يمثل حلاً وسطاً يجنب إدارة بايدن الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، ويستجيب في الوقت نفسه للضغوط التي سوف تمارسها حكومة نتنياهو الجديدة على إدارة بايدن من أجل دفعه إلى المشاركة في مواجهة عسكرية مع إيران، خاصة وأنه يتوقع أن تحصل حكومة نتنياهو على دعم أكبر من جانب مجلس النواب، عقب فوز الحزب الجمهوري بالأغلبية في انتخابات التجديد النصفي التي جرت مؤخراً.

لكن، يتعين الانتباه إلى أن هذا السيناريو لا يخلو من تحديات. فتطبيق مفهوم "التصعيد المحسوب" يتطلب القيام بحسابات دقيقة تحتاج إلى معلومات قد لا تكون متوافرة بسهولة، ومن ثم فقد تخرج الأمور في أي وقت عن نطاق السيطرة، خاصة مع وجود حكومة إسرائيلية شديدة التطرف من نوع الحكومة الحالية التي تشكلت في "إسرائيل" مؤخراً بقيادة نتنياهو، وهي حكومة تضم أحزاباً صهيونية دينية تتعجل إشعال المعركة النهائية مع الفلسطينيين، وتعتقد أن الوقت قد حان للشروع في إقامة دولة "إسرائيل" التوراتية الكبرى على الفور، بما في ذلك إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى. لذا، يتوقع أن تمر منطقة الشرق الأوسط قريباً بمرحلة صعبة يجب أن تتحسب الدول العربية لكل سيناريوهاتها المحتملة.