في ذكرى الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار

يشكل القرار 1514، الصادر عام 1960، أو "الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار"، نقطة تحول تاريخية في الموقف العالمي من المسألة الاستعمارية.

  • في ذكرى الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار
    في ذكرى الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار

في مثل هذه الأيام قبل 62 عاماً، وتحديداً في 14 من كانون الأول/ديسمبر عام 1960، ناقشت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخامسة عشرة مشروع قرار تقدم به الاتحاد السوفياتي، يقضي بضرورة تمكين جميع الشعوب المستعمرة من الحصول على استقلالها وممارسة حقها في تقرير مصيرها.

ولدى عرض هذا المشروع على التصويت، وافقت عليه الجمعية العامة بأغلبية 89 دولة، ولم يعترض عليه أحد، فيما امتنعت 9 دول عن التصويت هي: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإسبانيا، وبلجيكا، والبرتغال، وأستراليا، وجنوب أفريقيا، وجمهورية الدومينكان.

ويشكل هذا القرار، الذي عرف لاحقاً بالقرار 1514 الصادر عام 1960، أو "الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار"، أو "إعلان منح البلدان والشعوب المستعمرة استقلالها"، نقطة تحول تاريخية في الموقف العالمي من المسألة الاستعمارية. خصوصاً أن ميثاق الأمم المتحدة نفسه، ومن قبله عهد عصبة الأمم، لم يتضمّنا أي إشارة إلى حق المستعمرات في الحصول على استقلالها أو التمتع بالحكم الذاتي. وسوف نحاول في هذا المقال شرح العوامل التي أدت إلى حدوث هذا التحوّل التاريخي المهم وساهمت في بروزه على الساحة الدولية.

من المعروف أن عصبة الأمم، التي أُسّست عقب الحرب العالمية الأولى، لم تهتمّ بالمسألة الاستعمارية إلا من زاوية واحدة، تتعلّق بالبحث عن صيغة لإدارة المستعمرات التي كانت خاضعة للدول التي هزمت في تلك الحرب، وذلك على الرغم من الشعارات التي كان يرفعها الرئيس الأميركي ويلسون في ذلك الوقت، وطالبت بمح جميع الشعوب حقّ تقرير المصير.

وفي هذا السياق استحدث "نظام الانتداب" الذي طبقته عصبة الأمم على المستعمرات الألمانية والعثمانية وحدها، أما المستعمرات الأخرى فقد ظلت تابعة للدول المنتصرة التي لم يسمح للعصبة بالقيام بأي دور رقابي على طريقة إدارتها لها.

ولأن المستعمرات التي خضعت لنظام الانتداب صنّفت ضمن 3 فئات، فلم يُعترف إلا للمستعمرات من الفئة (أ) فقط بحق حصولها على الاستقلال أو على الحكم الذاتي. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن العصبة ارتكبت في الوقت نفسه جريمة سياسية وقانونية وأخلاقية كبيرة، حين وافقت على تضمين صك الانتداب البريطاني على فلسطين نصاً يسمح للدولة المنتدبة بالعمل لتأسيس "وطن قومي لليهود في فلسطين"، تطبيقاً لتصريح كان قد أصدره بلفور منح بمقتضاه "من لا يملك حقاً ما لا يستحق"، لتبين لنا إلى أي مدى انحازت عصبة الأمم إلى الدول الاستعمارية وأهملت كلياً حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها.

حين انهارت عصبة الأمم، بسبب إخفاقها في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية جديدة، وشرعت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في صوغ ميثاق الأمم المتحدة، ظل الفكر التقليدي يسيطر على رؤيتها للمسألة الاستعمارية، ثم حصرت جهدها في نطاق البحث عن نظام بديل من نظام الانتداب. ولذا قامت بتضمين مشروعها الأصلي للميثاق، الذي طرح للنقاش في المؤتمر التأسيسي الذي عقد في سان فرانسيسكو عام 1945، فصلاً خاصاً عن "نظام الوصاية"، اقترحت تطبيقه على المستعمرات التي خضعت من قبل لنظام الانتداب، إضافة إلى المستعمرات التي كانت تديرها الدول التي هزمت في هذه الحرب، من دون أن يتطرق من قريب أو بعيد إلى مصير المستعمرات الأخرى.

غير أن الدول المناهضة للاستعمار والمشاركة في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة، ضغطت لإضافة فصل آخر (الفصل الحادي عشر) عن الأقاليم التي لا تتمتع بالحكم الذاتي، يلزم الدول المسؤولة عن إدارتها توفير معاملة كريمة لسكانها، وتقديم بيانات إحصائية سنوية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عن تطوّر أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكلّلت جهودها بالنجاح.

صحيح أن هذا الفصل لم يشر صراحة إلى حق هذه الأقاليم في الاستقلال أو في الحكم الذاتي، غير أن الدول المناهضة للاستعمار، التي ظل عددها في الجمعية العامة للأمم المتحدة يتزايد عاماً بعد آخر، وجدت فيه أساساً قانونياً يمكن الارتكاز إليه لمطاردة الدول الاستعمارية وإحكام الرقابة تدريجياً على سياساتها تجاه هذه الأقاليم، إلى أن أمكنها في نهاية المطاف إصدار القرار المشار إليه آنفاً، الذي يرى في الظاهرة الاستعمارية جريمة ضد الإنسانية وانتهاكاً غير مقبول لحقوق الإنسان وللمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً تلك التي تقضي بضرورة إنماء العلاقات الودية بين الشعوب وتقر بحق هذه الشعوب في تقرير مصيرها.

عوامل كثيرة ساعدت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إحداث ما يشبه القطيعة مع الموقف الأصلي للميثاق تجاه الظاهرة الاستعمارية وتبنيها موقفاً شديد الراديكالية في تعاملها من هذه المسألة. ويمكن إبراز أهم هذه العوامل على النحو التالي:

1- اشتداد وتصاعد حركات التحرر الوطني المطالبة بالاستقلال، ولجوء عدد منها إلى أساليب الكفاح المسلح، ما عكس استعداد وتصميم شعوب المناطق المستعمَرة على تقديم أغلى التضحيات من أجل الحصول على استقلالها، وجعل التكلفة المترتبة على استمرار الاحتلال تبدو أعلى بكثير من التكلفة المترتبة على منح شعوب هذه المناطق استقلالها الكامل. وتعد جبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي قادت النضال من أجل حصول الشعب الجزائري على حقه في الاستقلال عن فرنسا، المثال الأبرز بهذا الصدد، لكنه ليس المثال الوحيد. ولا شك في أن هذا العامل كان الأكثر حسماً في إقناع الأمم المتحدة بضرورة تغيير رؤيتها وموقفها من الظاهرة الاستعمارية برمتها.

2- تراجع نفوذ ومكانة قوى الاستعمار التقليدي في النظام الدولي الذي استقر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وصعود نفوذ ومكانة قوى دولية أخرى ليس لها ماضٍ استعماري، وبالتالي تتبنى مواقف إما معادية صراحة للاستعمار، أملاً في إضعاف نفوذ المعسكر الغربي، مثل الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي، وإما لديها تحفّظات على أداء وأسلوب قوى الاستعمار التقليدي في إدارتها المستعمرات التابعة لها، على أمل وراثة نفوذها، كالولايات المتحدة الأميركية.

ولا شك في أن التنافس بين القوتين العظميين على اكتساب النفوذ في دول "العالم الثالث"، أدى دوراً مهماً في إطلاق العنان للدول المعادية للاستعمار والمطالبة بالاستقلال الكامل لكل المستعمرات.

3- نجاح دول العالم الثالث، أي الدول الرافضة للتحالف مع أي من المعسكرين المتصارعين، في تأسيس حركة عدم الانحياز، خصوصاً بعد انعقاد مؤتمر باندونغ للتضامن الآفروآسيوي عام 1955، وهي الحركة التي تمحورت أهم مطالبها حول القضايا المتعلقة بتصفية الاستعمار ورفض التبعية والأحلاف وتمركز القواعد العسكرية الأجنبية على أراضيها والعمل لتخفيف حدة الاستقطاب الدولي وسباق التسلح... ولا شك في أن هذه الحركة، التي شكّلت الدول المنتمية إليها أغلبية عددية داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، أدّت دوراً محورياً في تغذية وتعميق التيار الراديكالي المعادي للاستعمار داخل الأمم المتحدة، وفي حشد التأييد الكاسح لقرار تصفية الاستعمار حين تقدّم به الاتحاد السوفياتي، وهو القرار الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع في 14 من كانون الأول/يناير 1960، كما سبقت الإشارة.

تذكرنا مناسبة مرور 62 عاماً على صدور هذا القرار المهم بالعصر الذهبي لحركة عدم الانحياز، حين كانت تصول وتجول على مسرح السياسة العالمية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فقد أمكنها فعلاً تخفيف حدة التوتر القائم آنذاك، والحيلولة من دون تحوّل المنافسة بين القطبين الكبيرين إلى احتكاك قد يؤدي إلى تصادم نووي بينهما.

 ولأن النظام الدولي الراهن يتجه من جديد، خصوصاً بعد اندلاع وتصاعد الصراع المسلح على الساحة الأوكرانية، نحو خلق حالة استقطابية قد تساعد على تهيئة الأجواء للدخول في حرب باردة جديدة، طرفاها روسيا وحلفاؤها، من ناحية، وحلف الناتو وحلفاؤه من ناحية أخرى، يبدو أن هذا النظام بات مرة أخرى في حاجة ماسة إلى تشكيل كتلة دولية محايدة تساعد على تخفيف حدة التوتر القائم حالياً ومنع اندلاع حرب عالمية ثالثة، أو بالأحرى منع تحوّل الحرب العالمية الثالثة التي يبدو أنها بدأت فعلاً إلى حرب نووية.

وفي هذه الحال، ربما يكون إصلاح الأمم المتحدة هو الشعار الذي على هذه الكتلة أن ترفعه في الوقت الراهن، باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تضمن إنقاذ البشرية كلها من دمار محقّق إذا ما وقعت حرب نووية بين القطبين المتصارعين الآن على الساحة الدولية.