عبد الحليم فضل الله، الوجه المعرفي للمقاومة
يبدأ كتاب العلم والعولمة من منظور اقتصادي ومعرفي بتساؤلات من طبيعة سياسية بشأن المصلحة العامة ومن يتخذ القرار المتعلق بها، كما بشأن العلم ومن يقرر برامجه وآفاقه: الدولة، أم السوق، أم الجماعة العلمية وفئاتها النظرية أو التطبيقية.
من الإصدارات المهمة لمركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، كتاب الدكتور عبد الحليم فضل الله: العلم والعولمة من منظور اقتصادي ومعرفي، والصادر عام 2022 عن المركز المذكور.
أهمية الكتاب لا تقتصر على قيمته الفكرية الغنية، والتي تجمع بصورة غير مألوفة بين الموضوعية العلمية الصارمة وانحياز لا لبس فيه إلى مدرسة فكرية لا تحظى بالاهتمام اللازم قياساً بالمقاربات السياسية الشائعة مع المقاومة الإسلامية في لبنان أو ضدها.
فالكتاب، بالإضافة إلى أهميته الفكرية، هو إعلان خطاب نظري غير متداول بشأن تلك المدرسة، ويمكن القول إننا إزاء وجه آخر لنموذج في الحياة والتطور والمواكبة الحضارية في مقابل النظام الليبرالي المتهافت المتأكّل، كما في مقابل النموذج الصيني ومقاربات دوغين، بصورة خاصة، لبناء نموذج روسي أوراسي.
إلى ذلك، بعد أن فكرت في تقديم نظري للكتاب، وجدت من الملائم ابتداءً عرض أبرز خطوطه العامة كما هي، من دون تعليق، في انتظار نقاش أشمل بشأنه بعد اطلاع المهتمين عليه.
يبدأ الكتاب بتساؤلات من طبيعة سياسية بشأن المصلحة العامة ومن يتخذ القرار المتعلق بها، كما بشأن العلم ومن يقرر برامجه وآفاقه: الدولة، أم السوق، أم الجماعة العلمية وفئاتها النظرية أو التطبيقية.
ويرى أن الإشكالية الأبرز في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية هي من حيث الوظيفة والمنهج والمجال المؤسساتي وجدل العلاقة بين المراكز العلمية والمؤسسات السياسية والتمويلية ومَن يتبع مَن.
وتتفاقم هذه المسألة مع الانطباع السائد والنظرة إلى هذه العلوم كأقل شأناً من العلوم الطبيعية، وبالمثل مع الاقتصاد الذي فصلته العلوم الطبيعية عن المجتمع. كما يلاحظ الكتاب تراجع المنهج المعياري أمام المنهج الوضعي وسياقه المعولم، والذي يؤدي موضوعياً إلى رفع منسوب الاضطراب والفوضى وانحطاط القيم، وإحالة الحريات السياسية إلى فلسفة السوق ووضع المجتمعات تحت رحمتها.
والأخطر احتكار مفهوم الليبرالية الجديدة للسلطة وإضفاء شرعية على هيمنتها باسم حق الدولة في العنف، وهو ما انعكس حتى على الأسس المزعومة للحداثة نفسها لمصلحة سلطة الاستهلاك وثقافتها وخطابها الوضعي، والذي هدم الثقافات والهويات المتعددة باسم عولمة أنتجت لوناً واحداً مهيمناً، من دون أن تفلح مساهمات الفلاسفة وعلماء الاجتماع في كبح كل ذلك. ومثل ذلك، أجندة السياسيين التي ظلت محكومة من الخفاء لبرامج مراكز التفكير المحولة على حساب الفلسفة السياسية.
بالعودة إلى الموضوع العام للكتاب (العلم والعولمة) يعرض التاريخ والتداعيات لمسيرة العلوم في النقاط التالية:
- بعد أن كانت النظريات الكبرى تلقي ظلالها على مسارات البحث، راحت تتراجع بسرعة عن هذا الدور.
- لم يعد العلم صديقاً تماماً للأولويات الاجتماعية، وراحت انعكاساته الصناعية تظهر في سلع الترفيه والتصنيع العسكري.
- على الرغم من صعوبة إنكار وجود المكون الاجتماعي في العلم، فإن المسألة تجاوزت ذلك، وكان اول تنكر فظ للعلوم الإنسانية هو ذاك المنسوب إلى بيرسي سنو في كامبردج.
- اتساع التبعية للتكنولوجيا، على رغم أن دولة مثل الصين لم تتقدم بسبب التكنولوجيا وحدها، كما أن امتلاك الاتحاد السوفياتي ناصية التكنولوجيا في قطاعات متقدمة، مثل الفضاء والتصنيع العسكري، لم يمنع انهياره.
كما يتوقف الكتاب عند موضوعات أخرى ذات صلة، مثل انعكاسات الإشكالية السابقة عليها، ومنها التناقض في هذه العلاقة بين حقل وآخر، وموضوع الهوية: فلو أخذناحقول متباينة، الرياضيات، والعلوم الطبيعية، وعلم الاقتصاد، ونظام الترقي الأكاديمي، لوجدنا أن المشكلة لا تتعلق بها، في حد ذاتها، بل في توظيفها: الأولى بإزاحة الإنسان وحاجاته وقيمه، وعلم الاقتصاد يتجاوز (التحفظ العلموي) وتحويل فرضياته النيوكلاسيكية إلى مصاف الحقائق العلمية، أما نظام الترقي وحصر النشر في مجلات أكاديمية محددة، فمن خلال دمجه في منظومة الهيمنة.
أما إشكالية الهوية فتظهر بين موقفين متناقضين: حد إغفالها وتهميشها في مشتركات وهمية، بحسب أمارتياسن، وحد الخلط بين ما هو طبيعي وبيولوجي، وبالتالي نصب حواجز زائفة مؤبدة بين الهويات المتعددة، بما يخدم النظرة الاستشراقية العنصرية الاستعمارية (شمال وجنوب...).
في مقابل ما سبق، ورداً على سؤال: ما السبيل الممكن من أجل بناء سياسات بديلة؟ يناقش الكتاب ذلك تحت أكثر من عنوان:
- الفلسفة السياسية كحقل نظري – اجتماعي – ثقافي.
- أدوار متكاملة للعلوم من جهة، وبالتكامل مع الحاجات الاجتماعية والإنسانية من جهة أخرى.
فيما يخص العلوم الإنسانية، لا تزال الإشكالية بشأن هدف العلوم الإنسانية، خدمة الإنسان أم تسهيل السيطرة عليه، وأيضاً ماذا عن الإنسان نفسه، هل هو جوهر حركة المجتمع والتاريخ أم تابع لها، الأمر الذي يتطلب إعادة الاعتبار للإنسان وللمعايير القيمية كصمام أمان ضد التوحش الليبرالي التكنولوجي، وضد الأخلاق الرأسمالية المرتبطة بتعظيم الملكية الخاصة.
يشار هنا، كما يؤكد الكتاب، إلى خطورة المبالغة في حمل فكرة التقدم ومنحها طابعاً مادياً وكمياً قابلاً للقياس، وتسريع محركات التاريخ بأي ثمن، سواء دفع الفقراء هذا الثمن أو الإنسان وطبيعته وقيمه ومكانته.
العلم والعولمة والدين
يرى الكتاب أنه لا يمكن إدراك المنحى الديني إلا عبر توسيع معنى الاجتهاد وتوطيد صلاته المتبادلة والجدلية بسائر العلوم، وتطوير الروابط بين العقيدة والفلسفة، كما بين النص والنظرية، وبين التفسير (في النطاق الفقهي) والتأويل، في نطاق أوسع، بالاستناد إلى الوقائع والحقائق التي تنبثق من (رحم الزمن)، وبموازاة المعارف البشرية، والاكتشافات العلمية المتواصلة، وهو ما يعني مقاربة النص الديني انطلاقاً من أنه يشرع أيضاً أدوات معرفية تقع خارجه، من أهمها العقل، الذي ليس عقلاً استنباطياً مشدوداً إلى النص فقط، بل عقل استنباطي منتج للمعرفة ما دامت لا تتعارض مع النص، كما جاء في الكتاب.
مقاربات إسلامية ذات صلة
1. في نقد أطروحة الأسلمة الشاملة للعلوم: تنطلق هذه الأطروحة، التي يناقشها الكتاب من موقع نقدي، من تأسيس منهج أو منظومة مغايرة تذهب إلى قراءات شاملة تستخلص النسق المرجعي والمركزية المغايرة من خلال مقابلة وتوازٍ بين القرآن الكريم والوجود المادي، وفق تأويل باطني لمجموعة منتقاة من الآيات الكريمة، لا يستند إلى حجج عقلية أو نقلية تجريبية. ويقول الكتاب إن "أسلمة المعرفة تؤدي إلى إقامة قطيعتين نسبيتين: قطيعة مع العقل التراثي، وقطيعة مع العقل العلمي"، وذلك في سياق محاولات تنم عن تفاعل غير قويم بين المنهجيات العلمية.
2. عن العدل الاجتماعي والتكافل بين المنهجين التقليدي والاجتهادي: بحسب الكاتب، قبل ظهور أطروحة الشهيد السيد محمد باقر الصدر، توزعت الأفكار ذات الصلة بالتكافل والعدل في الاقتصاد الإسلامي بين مدخلين تقليديين، المدخل الفقهي – الحقوقي، والمدخل الأخلاقي – الاجتماعي.
وبحيث تظهر أطروحة الصدر كمثال على الوجهة الاجتهادية، يعبر سيد قطب عن الوجهة التقليدية مركزاً على (المعاني التربوية) ونظام إنتاج وكفاية ذاتية لا تحتل الدولة فيه موقفاً مقرراً، علماً بأن شريكه الآخر في الوجهة التقليدية، محمود أبو زهرة، يلقي المسؤولية على الأفراد والأسرة أكثر من الدولة (نفقات الأقرباء، الزكاة، التعاون داخل المجتمعات الصغيرة، الكفارات...). أما الشهيد الصدر، فيستعين بأدوات تحليل واجتهاد متنوعة، بينها التوزيع التكافلي وعلاقته بالمجال والفضاء الإنتاجي – الاجتماعي، وموقع العدل الاجتماعي في هذا النظام، بدءاً بتقاسم أدوات الإنتاج، وانتهاءً بدور الدولة على صعيدي التكافل العام والضمان الاجتماعي الشامل.
3. تحت عنوان (نموذج اقتصادي مرن ومتكيف) في مقابل النظام الليبرالي والنموذجين الصيني والروسي الأوراسي: يجد الكاتب في التجربة الإيرانية نموذجاً إسلامياً يتمايز عن النماذج الأخرى ويتقاطع مع بعضها، واضعاً العدالة دائماً في مقدمة الاعتبارات ذات الصلة.
والعدالة، وفق هذا النموذج، غير ما يُعرف بتكافؤ الفرص في النظام الرأسمالي. إنها تكثيف لبنية اقتصادية – اجتماعية، وسياسات عامة لتحقيق المساواة وحدود الكفاية، الطبيعية والاجتماعية والبشرية.
ولا يرى الكتاب في هذا النموذج شكلاً من رأسمالية الدولة، بل دولة تستأثر بالجزء الكبير من الموارد والثروات العامة والأراضي والمزارع (بحسب المادة الـ45 من الدستور)، مضافاً إلى ذلك التجارة الخارجية والصناعات الإنشائية الكبرى وكل ما يعزز سيادة الأمة على قراراتها ويصون الأمن الاجتماعي لها.