مذبحة الجزائريين في باريس عام 1961: الذاكرة التي لا تموت
60 عاماً مرّت على المذبحة التي ارتكبتها الشرطة الفرنسية بحق الجزائريين في باريس، والسلطات الفرنسية تحتجز حتى الآن تفاصيل ووقائع الحادثة إلى درجة أنها لم تُفرج عن الرقم الحقيقي للشهداء والجرحى والمفقودين.
لا تزال النظرات الأخيرة للجزائريين الذين قتلتهم الشرطة الفرنسية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961 تطفو على صفحة نهر السين في باريس. هي صفحة حالكة من تاريخ فرنسا، تتردّد العاصمة الفرنسية في الاعتراف بها رسمياً وصراحةً، تماماً كرفض باريس الاعتذار إلى الجزائر عن جرائم الاستعمار الفرنسي.
هو "القمع الأكثر عنفاً الذي مارسته دولة معاصرة على احتجاجات الشارع في تاريخ أوروبا الغربية"، بحسب وصف المؤرخَين البريطانيَّين جيم هاوس ونيل ماكمستر. أمّا المؤرخ الفرنسي بيير فيدال ناكيه، فيقول إنه "وحشية مفرطة"، وتعتقد زميلته ومواطنته بوليت بيجو أنّ ما جرى يمثّل "مطاردة بشرية"، بينما يصف المؤرّخ الفرنسي إيمانويل بلانشار الوقائعَ بأنها تدلّ على "مجزرة استعمارية".
ستون عاماً على حَدَث دامٍ ومأساوي، يقضّ مضاجع الجزائريين، من عائلات الضحايا وأقربائهم، ويشغل الأوساط السياسية والإنسانية والمؤرّخين بسبب ما يلفُّه من غموض وتحفّظات وعناد، ولاسيما أنّ السلطات الفرنسية تحتجز التفاصيل والوقائع إلى درجة أنها لم تُفرج عن الرقم الحقيقي للشهداء والجرحى والمفقودين. فعدد الشهداء، بحسب الحصيلة الرسمية في ذلك الوقت، ثلاثة أشخاص فقط. أمّا اليوم، فإنّ العدد التقريبي للشهداء يصل إلى 48 على الأقل، وإن كان بعض المؤرّخين يرفعه إلى مئة!!
رفض الاعتراف رسمياً
اليوم، وبينما تضطرم الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، على خلفية تبادُل التصريحات النارية بين المسؤولين الفرنسيين وأقرانهم الجزائريين، تعود الأنظار الحائرة لتترقّب موقفاً فرنسياً على مستوى المذبحة والمسؤوليات المترتّبة عليها، ولاسيما بالنسبة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون وما يُؤْمل منه، من اعتراف رسمي بارتكاب "جريمة عنصرية" أو "جريمة دولة"، بعد أن قال في عام 2018 إنه كان "قمعاً عنيفاً".
"فرانس 24"، وهي محطة تلفزيونية رسمية فرنسية، نشرت في هذه الذكرى ملفاً واسعاً، جاء في مقاطعه:
"فُرِض علينا الصمت. اعتباراً من عام 1962، كانت هناك رغبة شديدة لدى المجتمع الفرنسي في نسيان القذارة التي ارتُكبت في الحرب الجزائرية"، هكذا يحلّل فابريس ريسيبوتي. "لكن، من جهة أخرى، كان هناك إجماع سياسي، يمتدّ من اليمين إلى اليسار الاشتراكي، على عدم العودة إلى تحديد المسؤوليات. بقي الأشخاص الذين كانوا مسؤولين عما جرى في 17 تشرين الأول/ أكتوبر في مناصبهم فترةً طويلة جداً: أصبح موريس بابون وزيراً للخزانة في عهد فاليري جيسكار ديستان، وأضحى روجيه فريه رئيساً للمجلس الدستوري. كان هناك فعلاً صمتٌ قسري مفروض، وذهب إلى حدّ منع الوصول إلى المحفوظات العامة للدولة. كانت هناك إرادة بشأن التعتيم على هذه المسألة وعدم التحدُّث عنها".
من جانبه، يتذكّر جيل مونسيرون ما أُطلق عليه "التعمية الثلاثية". "بادئ ذي بدء، كانت هناك رغبة في الصمت من جانب السلطات الفرنسية. ويتابع المؤرخ بالقول "لقد نظّم رئيس الوزراء ميشيل دوبريه ومدير الأمن بابون والوزير روجيه فريه هذه المجزرة". "لكن ديغول لم يختر اللجوء إلى هذا القمع، فلقد كان رئيس الدولة، إلاّ أنّه فضّل السكوت. كان في حاجة إلى أن تلتئم الجراح مع قوى 13 أيار/ مايو 1958، ولاسيما أنه كان مستهدَفاً من "منظمة الجيش السري". كما لم يستطع الانفصال عن دوبريه وفريه وبابون".
كتاب ريسيبوتي
منشورات "ميديا بلاس" في مدينة قسنطينة الجزائرية تقدّم كتاب فابريس ريسيبوتي "هنا أسقطنا الجزائريين"، الذي يعود إلى أحداث 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961. الكتاب الذي صدر في باريس، في أيلول/سبتمبر الماضي، وكتب مقدّمته جيل مانسيرون، يعود إلى الأحداث الأليمة بعد 60 عاماً من تظاهرات 17 تشرين الأول/أكتوبر.
الكتاب، الذي نشرت جريدة "الشروق" الجزائرية تلخيصاً له، يقع في 288 صفحة، ويؤرخ الأحداث الدموية التي راح ضحيتها آلافُ الجزائريين رمياً برصاص شرطة موريس بابون في باريس، حيث تحوّل نهر السين إلى اللون الأحمر.
وجاء في كتاب فابريس ريسيبوتي "تحت جسر سان ميشيل يتدفّق الدم": "في كل مرة أعبر نهر السين في هذا الجزء من باريس، الذي يقع فيه مقرّ الشرطة ودار القضاء القديمة، أرتجل هذه النغمة المستمَدّة من الشِّعر الذي يفتح لي بونت ميرابو، المشهور، قصيدة غيوم أبولينير. تم لصق لوحة سرية على أحد الحواجز، وهي الآن تشهد هذه المأساة، وهي أقل وضوحاً من الأحرف السوداء الكبيرة التي رسمها في ذلك الوقت ناشطون متضامنون مع القضية الجزائرية المناهضة للاستعمار، والتي تحتفظ بها صورة مجهولة في ذكرى: هنا أغرقنا الجزائريين".
تاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961 جزء من تاريخنا، وعلينا مواجهته. في باريس، جاءت تظاهرة سلمية للعمال الفرنسيين آنذاك – (مسلمين فرنسيين من الجزائر) بحسب الاسم الرسمي – للاحتجاج مع أُسَرهم على حظر التجول العنصري الذي استهدفهم هم وحدهم، بأمر من رئيسها المحافظ موريس بابون. سان بارتليمي الاستعماري الذي يقدَّر ضحاياه اليوم عدد الشهداء بنحو ثلاثمئة، ناهيك بالجرحى وآلاف المعتقلين، وغالباً ما يتم طردهم إلى معسكرات الاعتقال في الجزائر.
يُشيد هذا الكتاب الذي ألّفه فابريس ريسيبوتي بالمؤرخين والناشطين الذين أصبحوا "مؤرخين"، والذين اختاروا التحدث بوضوح وصراحة، لأنه، في هذه المعركة التذكارية الطويلة والتي لا تزال مستمرة، لا يتعلق الأمر بسماع الدعوة إلى حقيقة التاريخ فحسب، بل يتعلق اليوم بماض مليء بالحاضر.
يقرّ صاحب الكتاب بأنّ اليمين الفرنسي يتحمّل مسؤولية إخفاء جريمة الدولة هذه، كما تتحمّل فرنسا الرسمية مسؤولية الاستمرار في إنكار هذه الأحداث الشنيعة. وبناءً عليه، يقرّ صاحب الكتاب بأنه يتعيّن عليهم في فرنسا مواجهة كذبة الدولة هذه.
الجدير بالذكر أنّ مؤلّف الكتاب، فابريس ريسيبوتي، هو مؤرّخ ومدير موقعي histoirecoloniale.net وautres.org. واشتغل على قضايا الاستعمار، وما بعد الاستعمار، وحرب الاستقلال الجزائرية.