مبادرات حياتية مقاومة لاستمرار الحياة
بسبب الأزمة الاقتصادية المستفحلة في لبنان ، وفي غياب الكهرباء في فصل الشتاء القارس حالياً، وتعذر التدفئة والحصول على المياه الساخنة لا يجد اللبنانيون إلا العودة إلى الجذور لحل أزمتهم المعيشية.
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والحياتية التي تضرب لبنان منذ سنتين، وتستمر متفاقمة، ألقت بثقل على مختلف فئات المجتمع، اضطرت كثيرين إلى البحث عن بدائل تخفف من معاناتهم، وتعزز قدرتهم على الصبر والتحمل.
مبادرات مختلفة لجأ إليها المواطنون، منها ما هو جديد، ومنها ما هو عودة للجذور والتراث يستغلونه لتأمين بعض حاجاتهم.
يمكن أن تصنف المبادرات البديلة من هذا النوع بصنفين عريضين، واحد يتعلق بتأمين الوقود للتنقل، وثانيهما تأمين مصادر الطاقة للتدفئة، ومنها الطبخ وما شابه من حاجات، أو للإنارة.
التنقل
لم ينجُ لبناني واحد من نار رفع الدعم عن المحروقات، وبعد أن كان يدفع ثمن استهلاكه من الوقود، كالبنزين والمازوت للتنقل بوسائل النقل، بعشرات الآلاف من الليرات اللبنانية، بات عليه أن يتحمل عشرة أضعاف ثمن الوقود، وغالبية أبناء المجتمع ناءت بحمل الوقود (بنزين ومازوت) الثقيل، ولم تعد تتحمل الأعباء.
يقول زهير، وهو معلم ميكانيكي، إنه اضطر لتغيير سيارته الـ "بي أم ف" (BMW) رغم صغرها، بثانية أصغر حجماً، وأقدم صناعة، والغاية توفير ثمن البنزين"، مضيفا أنه "كان يتكلف نحو مائتي ألف ليرة لبنانية يوميا في تنقلاته لتأمين حاجات الزبائن، أي ما يوازي كل أرباحه، وبات اليوم يتكلف نحو النصف أو أقل بقليل لكي يشعر أنه عمل، وادخر بعض المال".
واقتنى فؤاد باصاً كبيراً سعة 24 راكب، يعمل على المازوت، قبل بدء الأزمة، وكان العمل مُدِرّاً، يغطي كافة نفقات البيت، ويربو. بعد رفع الدعم عن المازوت، باتت تكاليف المازوت الذي تحتاجه ناقلته تناهز مدخوله.
توقف فؤاد، ووضع الباص جانباً، وهو يقول: “في الأسابيع الأخيرة، وفي تنقلاتي بين بيروت والشمال اللبناني، وجدت أن كل ما أدخره في العمل، أدفعه ثمن مازوت. وآخر مرة بقي معي ستة آلاف ليرة من أصل مليون ومائتي ألف ليرة لبنانية. لم أعد أحتمل، فأتعابي لا تحتسب في التنقل طوال النهار من الفجر للنجر، وقررت التوقف".
آخرون بحثوا عن وسائل نقل بديلة أقل استهلاكاً للطاقة، فراج استخدام محرك مطوَّر عن الدراجة النارية، يدعى "التك تك"، مصروفه رمزي، استخدمه البعض كوسيلة تنقل بديلة من التاكسي، ورغم أنه لايستوعب أكثر من راكبين، إلا أنّ كلفته الرمزية جعلته منافساً قوياً للتاكسي.
كما انتشرت عروض "التك تك" على الطرقات العامة، وفي غضون شهور قليلة ارتفع ثمنه من ألف دولار، إلى الثلاثة آلاف لشدة الاقبال عليه، بحسب أحد عارضيه في محلة العبدة على طريق عام سوريا شمالاً.
كثيرون من الأشخاص آثروا التخلي عن بعض رفاهية بالتنقل بسياراتهم السياحية الخاصة، وأوقفوا استخدامها إلا للحالات الشديدة الضرورة، وراحوا يتنقلون بواسطة التاكسي أو الباصات الكثيرة المنتشرة على الطرقات.
يفيد رامي الذي استلم وظيفة جديدة في منطقة البوشرية بينما يسكن في جونية، أنه "ركن السيارة قرب المنزل، وبات التنقل يتم بالسيارات العامة، وبذلك وفرت أربعة أضعاف تكاليف سيارتي من الوقود، وإلا كان علي ترك العمل لأن المدخول لم يكن ليغطي نفقات التنقل".
نار ونور
للنار فائدتان أساسيتان، التدفئة في موسم البرد، والطبخ وتسخين المياه لحاجات مختلفة من ناحية ثانية.
اعتمد الناس على مصدرين للنار، الكهرباء، والغاز (الميثان). بالنسبة للكهرباء، لم يعد التيار متوفراً، إلا من خلال اشتراك المولدات، باهظة الثمن. أما قنينة الغاز فصار سعرها ذهباً لا يستطيعه كل الناس.
في هذا الإطار، لجأ كثير من المتمكنين ماديا لتركيب ألواح الطاقة الشمسية كبديل من التيار، دون الاستغناء الكامل عن الاشتراك مع المولدات. كثير من الطاقة الشمسية، وبعض كهرباء المولدات، تغطي الحاجة.
لكن الغالبية، التي لا قدرة لها على شراء الألواح ومستتبعاتها، اتبعت أساليب متنوعة، كل وفق ما طالت يده.
العودة إلى الطبيعة كانت في مقدمة الخيارات، بالاعتماد على الحطب، وفضلات الأشجار، والجموم البرية. وفي هذا الإطار، نبش بعض من الناس ما خبأه في مخازنه مثل موقدة الحديد العاملة على الحطب، وغالباً ما تعمل على المازوت، و"الطبّاخ"، مستوعب مستدير بارتفاع 40-50 سنتمتراً، له فتحة جانبية للتوقيد، وركائز من فوق لتثبيت الأوعية، يتم بواسطته تشعيل الحطب وفضلاته، فيعطي نيرانا قوية تؤمن الطبخ، وتسخين المياه، والتدفئة في الوقت عينه.
ومن ليس عنده "طباخ"، استحضر مستوعباً من التنك، أو الحديد، استخدم لنقل أصناف من المواد، وثقب جانب منه، ووضعت فيه النيران كـ"الطباخ". الناس الأكثر فقراً وعوزاً اعتمدوا على مستوعب التنك، فتأججت النار باعثة حرارة عالية، تحلق عليها أفراد العائلة أمام المنازل أو على الشرفات ريثما هدأ اللهب، ثم تمّ نقل المستوعب إلى الداخل بجمره للتدفئة.
بعض الاجتهادات الأكثر تطوراً حولت بتقنية مدروسة، برميلاً إلى فرن بديل من فرن الغاز أو الكهرباء أو المازوت، يتم فيه الشوي للمواد المطلوبة من خبز، أو مناقيش، أو حلويات.
حاول بعض الناس استعادة السخان (البابور تحويرا للفابور -Vapor) الهدار العامل على الكاز (الكيروسين)، لكن عدم توافر المادة غالباً، وارتفاع سعرها دائما أكثر من بقية المشتقات، أعاد للسخان مكانته في المطابخ دون وظيفته.
كما أن فقدان الكيروسين، أو ارتفاع ثمنه، أحبط دور القناديل أو المشاعل المتعددة الأصناف والأشكال التي جهزها كثيرون، واقتصرت على التجربة، فعاد القنديل إلى مكانته السابقة، دون وظيفته، واستبدل بالشمع، أو مصادر نور أخرى، منها الجوال المشحون بالتيار الكهربائي عند توافره.
هذه المبادرات تعبير عن مرحلة وسيطة بين العصر الحديث الذي بلغته مختلف مجتمعات العالم، واستعداد اللبنانيين للمقاومة، وخلق بادرات قبل بلوغ العصر الحجري الذي وعد الأميركيون لبنان به لقاء سلاحهم.