كيف يبتز إردوغان قرارات الخارجية الروسية؟
ما هي أوراق الضغط التي تملكها تركيا اليوم وتسمح لها بالتأثير في الموقف السياسي لروسيا تجاه بعض القضايا؟
أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بشكل متكرر في الأسبوع الأخير من أيار/مايو الفائت، عن تجهيز قوات الجيش التركي لحملة عسكرية جديدة، ستكون في حال حصلت الخامسة في 6 سنوات، داخل الأراضي السورية. وأشار إردوغان إلى أنّ هدف العملية العسكرية التركية المرتقبة سيكون إنشاء "شريط حدودي آمن" في الشمال السوري قد يصل عمقه إلى 30 كيلومتراً وطوله إلى 900 كيلومتر، وتفترض أنقرة أنّه سيضمن إبعاد خطر التنظيمات المسلحة المناوئة لها، لا سيما التنظيمات الكردية المتحالفة معها، إلى مناطق أبعد عن حدودها.
وكان لافتاً أنّ الردّ الروسي على إعلان إردوغان صراحة نيته اجتياح أراضٍ سورية قد تصل مساحتها إلى 27 ألف كلم2، أي ما يقارب 15% من مجمل أراضي الدولة الحليفة لروسيا، توقّف عند إبدائها "الانزعاج" و"أملها" بأن تمتنع أنقرة عن المساهمة في تدهور الوضع الأمني في الشمال السوري. بالإضافة إلى ذلك، تضمّن التعليق الروسي "تفهّماً لمخاوف أنقرة في ما يتعلق بالتهديدات التي يتعرض لها أمنها القومي من الأراضي السورية".
ما هي أوراق الضغط التي تملكها تركيا اليوم وتسمح لها بالتأثير في الموقف السياسي لروسيا تجاه بعض القضايا؟
انقلاب في الموازين
تستفيد تركيا بشكل كبير من علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، برغم كونها عضواً رسمياً في الناتو منذ عقود. وبحسب تقارير رسمية تركية، مثّلت الواردات الروسية إلى تركيا ثاني أكبر نسبة من مجمل الواردات التركية عام 2021 بعد الصين، تركّزت بشكل كبير على واردات الطاقة. وبلغت نسبة الغاز الروسي المستورد 43% من مجمل واردات الغاز التركية بحجم يصل إلى 24 مليار متر مكعب من الغاز.
وكان لقطاع السياحة التركي، النشط في عملية تحريك الدورة الاقتصادية في البلاد وضخ النقد الأجنبي لدعم الليرة التركية، دور مهم في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إذ وصل حجم واردات الاقتصاد التركي جراء قطاع السياحة قبل كورونا 24.5 مليار دولار عام 2021، وتصدّر السياح الروس القائمة بمقدار 4.694 مليون سائح.
كما يشكّل موقع تركيا الجغرافي أهمية كبرى بالنسبة لروسيا، بسبب إشرافها المزدوج على البحر الأسود والبحر المتوسط، وسيطرتها على مضيق البوسفور، المعبر الوحيد لدول البحر الأسود الأخرى إلى مياه المتوسط ومن خلفها المياه العالمية، وهذه الدول هي: روسيا وجورجيا وأوكرانيا ومولدوفا ورومانيا وبلغاريا.
تركيا سوق للصادرات روسيّة
حتى قبيل العملية الروسية والعقوبات الغربية الشاملة على الاقتصاد الروسي، كانت هذه الأرقام والظروف في مصلحة موسكو بشكل أساسي، أما اليوم بعد مقاطعة معظم أوروبا والكتلة الغربية لموسكو، فقد باتت السوق التركية واحدة من الفرص المهمة المتبقية التي يفضل بوتين عدم التضحية بها، فازدادت أهمية الحفاظ على علاقات مفتوحة مع تركيا، مما نقل أوراق ضغط قوية إلى يد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
تحتاج روسيا اليوم للحفاظ على أسواق طبيعية لمنتجاتها، لا سيما صادرات الطاقة ومشتقاتها. وصرّح القادة الروس أكثر من مرة وعلى مستويات مختلفة بأنّ موسكو ستبحث عن أسواق بديلة من الأسواق الأوروبية التي تغلق في وجهها تباعاً. ومع بقاء السوق التركية مفتوحةً أمام روسيا، يستفيد الأتراك من حاجة روسيا للتصدير لتعويض انخفاض قيمة الليرة، بينما يستفيد الروس من تبادل تجاريّ وصل إلى 22.5 مليار دولار عشية أزمة كوفيد-19، وبدأ يستعيد عافيته بشكل كبير قبيل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وبدء الغرب بفرض عقوباته الشاملة على الاقتصاد الروسي.
كما تصدّر تركيا إلى روسيا سلعاً خفيفة ومتوسطة مختلفة، وصل حجمها إلى نحو 4 مليار دولار عام 2019. وهي بقدر أهميتها بالنسبة إلى تركيا، باتت اليوم حاجة وبديلاً مهماً بالنسبة لروسيا التي أدّت مقاطعة الشركات الغربية لأسواقها إلى فقدان العديد من السلع من المتاجر.
تركيا كنقطة ترانزيت محتملة لـ"غسيل البضائع" الروسية
تلعب العديد من الدول دوراً وسيطاً في عمليات التجارة العالمية مع البلدان التي يفرض عليها عقوبات، في عملية تستفيد منها جميع الأطراف المشاركة، فيكسب البلد الذي يستضيف عملية الترانزيت، كما يكسب البلد الذي ينتج ويصدّر بتجاوزه للعقوبات على تجارته وبضاعته، وتستفيد الأسواق العالمية من البضائع بدون إحراج ناتج عن تخطيها للعقوبات التي فرضها عليها حلفاؤها.
وقد استفادت الصين مثلاً من هذه العملية خلال فترات طويلة ماضية، كما استفادت منها إيران وبلدان أفريقية وعربية. واليوم، تبدو تركيا، بعلاقاتها التجارية والسياسية الجيدة مع دول الناتو ومع أوروبا، قادرة بقوة على لعب هذا الدور في المستقبل القريب أو البعيد بحسب تطوّر الأزمة الجارية. كما يهم إردوغان أن يلعب أيّ دور قادر على انتشال اقتصاده من الأزمة الكبيرة التي يعانيها، وهو يدرك أيضاً أهميته القصوى لروسيا، ويراهن عليها في وضع سقف قابل للاحتواء لأي غضبٍ روسيّ قد ينزل على تركيا جرّاء استفزازها لموسكو في قضايا المنطقة.
تركيا "الشرطيّ الجيد"
أدّت حملة العقوبات الغربية الشاملة والعنيفة ضدّ موسكو، والتي قد تكون الأشدّ في التاريخ السياسي المعاصر على الإطلاق، إلى تحويل الكتلة الغربية بأجمعها إلى "صقور" في عملية حظر روسيا وعزلها دولياً. وظهر هذا الأمر جلياً في تنافس الدول الأوروبية والغربية، سواء الكبرى منها أو التابعة لسياسات الدول الكبرى، في قطع العلاقات السياسية وطرد البعثات الدبلوماسية والاستغناء عمّا يمكنها من العلاقات التجارية مع موسكو. وإن كانت ألمانيا تأخرت في مواكبة النزعة العدائية الغربية تجاه موسكو، لكنها عادت ولحقت بها وصولاً إلى إعلانها إرسال مساعدات عسكرية إلى كييف، وكان أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس بوضوح في بداية حملة العقوبات الغربية أن لا مصلحة لبلاده به.
كما قامت دول أوروبية عدّة، مثل إيطاليا وفرنسا وبولندا وألمانيا وليتوانيا واليونان وغيرها، بالتحوّل من استهلاك الغاز الروسي إلى مصادر أخرى كالغاز الأميركي والقطري والأذربيجاني، بالرغم من كون الغاز الروسي أرخص بما يصل أحياناً إلى نصف تكلفة البدائل غير الروسية، لا سيما الأميركية والقطرية والتي تستوجب تكاليف نقل باهظة تضاف إلى سعره الأصلي.
ولكن يبدو أنّ الغرب بدأ يسعى للتراجع عن بعض عدائية الحملة ضدّ روسيا، مع تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأسبوع الفائت بضرورة "عدم إذلال روسيا وإبقاء فرصة العودة مفتوحة"، وتصريحات رئيس الدبلوماسية الغربية جوزيب بوريل اليوم الإثنين لصحيفة ديمانش بضرورة "العمل وبذل الجهد من أجل إبقاء طرق الحوار مع موسكو مفتوحة تحضيراً لمرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية"، وأنّ "روسيا ستبقى موجودة بجوارنا وعلينا التعايش مع هذا الواقع".
ولا شكّ أنّ موسكو يهمها تخفيض حجم العقوبات والمقاطعة ضدّها، وهو ما لا يتوقعه أحد في الغرب أو في روسيا قريباً، ولكنّ تركيا تعدّ العدّة بشكل واضح لتولّي قيادة مسار التهدئة مع موسكو و"عقلنة" الخطاب الغربي ضدّها، وهو ما أصرّ ويصرّ إردوغان على إبرازه عبر حرصه على لعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا تارةً وبين روسيا وأوروبا تارةً أخرى، حتى لو كانت فرص نجاح هذا الحوار شبه معدومة حالياً وكان جميع اللاعبين يعتبرونه سابقاً لأوانه .
يريد إردوغان تثبيت قدرة تركيا على لعب هذا الدور، وهو أعلن منذ يومين أنه سيحاول خلال الأسبوع الجاري لعب دور وساطة بين روسيا وأوكرانيا لحلّ أزمة تصدير الحبوب من البحر الأسود، وإذا نجح هذا المسعى، فسيقدّم لإردوغان هدية كبيرة بتظهيره كبطل ساهم في حلّ أزمة الحبوب العالمية. ولكنّ الأهمّ بالنسبة لموسكو، أنّ هذا في حال حصوله فسيكون بموافقة ضمنية من الدول الغربية التي لن تخطو تركيا خطوة كهذه فيما لو وجد فيتو أميركي أو أوروبي عليها، وبالتالي، سيعني أنّ مسار العقوبات الشرسة تجاه موسكو وصل إلى حدّه الأقصى وبدأ بالتراجع، بالرغم من صمود واضح للاقتصاد الروسي والروبل إلى الآن تحدّث عنه العديد من المسؤولين الاقتصاديين الغربيين أكثر من مرة.
البوسفور التركي: جسر موسكو الوحيد نحو المياه الدافئة
لا شكّ أنّ قرار إغلاق البوسفور تماماً أمام الملاحة الروسية، سواء المدنية أم العسكرية، لم يكن في يوم من الأيام مطروحاً بشكل جدّي على طاولة الخيارات الغربية وبالطبع على الطاولة التركية. والسبب أنّ مثل هذا القرار سيعني حتماً تصعيداً للمواجهة العسكرية مع موسكو إلى مستوى أكبر بكثير من الحدود الأوكرانية، وحصاراً على المستوى الاستراتيجي على موسكو. لكنّ هذا يعني بشكل تلقائي أنّ عدم إغلاق المضيق أو التلويح بورقته بشكل حادّ من قبل تركيا، سيكون له ثمن غير بسيط في العلاقات السياسية بين البلدين.
وحتى الآن، تتخذ القيود التركية على حركة السفن العسكرية الروسية ضمن أسطول البحر الأسود طابعاً مخففاً إلى درجة يصفها البعض بـ"الشكلية"، مع مراعاة روسيا لضرورة عدم إحراج تركيا بتحريك قطعها العسكرية بين قواعدها البحرية داخل البحيرة الأوراسيّة وخارجها من و نحو قواعدها في المتوسط وآسيا وأفريقيا، لا سيما التخفيف من الحركة التي نشطت خلال السنوات الأخيرة من وإلى القاعدة البحرية العسكرية في طرطوس السورية.
وهذه المراعاة المتبادلة تعكس اتفاقاً ضمنياً بين أنقرة وموسكو على اللعب السياسي بشكل متوازن، وأنّ روسيا تضمن أنّ ورقة مضيق البوسفور ستقبض تركيا ثمنها في مكان آخر.
مصالح مشتركة ضمن السياسة الدولية
سعت تركيا جاهدةً خلال الفترة الأخيرة إلى تقديم معارضتها لانضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمالي الأطلسي بمعزل عن أي اعتبار مرتبط بروسيا. وبغضّ النظر عن صحة هذا الأمر، ومدى جدية أنقرة في كون إيواء البلدين لمنظمة حزب العمال الكردستاني التي تصنّفها تركيا منظمة إرهابية هو السبب الوحيد لممانعة ضمهما إلى الناتو، أو كون عرقلة تركيا لسلاسة عملية ضم البلدين الأوروبيين هو أيضاً ورقة مفاوضات وضغط على الكتلة الغربية لتوسيع هامش المناورة لدى إردوغان، فإنّ مما لا مفرّ منه أنّ المعارضة التركية تلتقي مع معارضة موسكو لانضمام البلدين.
وهذا الالتقاء في المصالح السياسية بين أنقرة وموسكو يعكس إمكانية الاستفادة منه مستقبلاً وبناء سياسات جزئية مشتركة متعلقة به، ويعكس أيضاً فرصة الالتقاء السياسي في مواضع أخرى، كما وعدم معارضة تركيا "المبدئية" لكون خياراتها السياسية تلتقي مع خيارات موسكو.
ومع ما تقدّم، تغدو مناورات إردوغان، لا سيما في عمليته العسكرية الجارية والمرتقب أن تتوسع في الشمالين السوري والعراقي، منطقية. وهذه المناورات لا تستفزّ روسيا فقط بل ودولاً غربية كما في الملف اليوناني، وفي الملف السوري بسبب إصرار إردوغان على العملية مع كون قوات سوريا الديمقراطية أو قوات حزب العمال الكردستاني، المستهدفان الأساسيان في أيّ عملية تركية، مدعومين أميركياً بشكل واضح.
فبالرغم من كون تركيا دولة عضواً في ـ"الناتو"، يدرك إردوغان تماماً حاجة أوروبا الملحة لتركيا مستقرة على مشارفها، وحاجة الولايات المتحدة الأميركية لتركيا، التي تستضيف قواعد عسكرية أميركية استراتيجية، أن تكون آمنة ومتماسكة في إحدى أهم مناطق نفوذها أي الشرق الأوسط.
وقد سمح هذا الوضع لإردوغان بهامش استفاد منه ليدخل في مسارات سياسية خاصة تثبّت حضوره السياسي بمعزل عن الناتو وأوروبا، سواء في سياسته الداخلية أم في علاقاته السياسية الخارجية، حتى وصفه بعض السياسيين والصحافيين الغربيين بـ"الديكتاتور الجيد"، كما أنّه يُلاحظ أنّ الصحافة الغربية لم تعتبِر استمرار علاقته بالرئيس الروسي أو عدم موافقته على المشاركة في العقوبات الموسّعة على روسيا بمنزلة تمرّد تركيّ على التحالف مع واشنطن أو انقلاب على عضويتها في "الناتو"، على عكس طبيعة النقد الذّي وجّهه الغرب لعمران خان مثلاً، والذي انتهى بالانقلاب السياسي عليه.
كما سمح هذا الوضع لتركيا بأن تقدم على خطوات مستفزّة للجانب الروسي، وقد نرى في الفترة المقبلة مجالات أخرى قد تقدّم فيها روسيا تنازلاً لتركيا مقابل مكاسب في مكان آخر، طالما أنّ المناورة التركية ما تزال ضمن نطاق الهامش الروسي الذي يقبل به بوتين في الملفات الإقليمية، ولا يغيّر الكثير في خارطة الاستراتيجية الروسية لمواجهة النفوذ الغربي في الشرق.