لماذا تخشى أوروبا حظر الوقود النووي الروسي؟
شركة "روساتوم" الروسية تستحوذ على سوق الطاقة النووية في العالم. هذا الأمر يثير أوروبا التي تسعى للخروج من العباءة الروسية، فهل تتراجع عن خطط معاقبة القطاع النووي الروسي؟
دفعت سيطرة روسيا على سوق الوقود النووي 5 دول من مجموعة السبع إلى تشكيل تحالف من أجل خفض اعتماد العديد من الدول على تكنولوجيا الطاقة النووية المستوردة من موسكو.
وافقت المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا واليابان وفرنسا، في إطار اجتماع وزراء مجموعة السبع الذي اختتم فعالياته الأحد الماضي في اليابان، على إنشاء سلسلة إمداد مُستقرة لوقود محطات الطاقة النووية لتحلّ محل روسيا. فهل تنجح هذه الدول؟
ما أهمية روسيا عالمياً في إنتاج الوقود النووي؟
ما زال استحواذ شركة "روساتوم" الروسية على سوق الطاقة النووية في العالم يُثير الجدل بين أنصار الشركة وخصومها، لا سيما بعد الحرب في أوكرانيا التي رفعت سقف العداء لموسكو بين الأوروبيين والأميركيين على وجه الخصوص.
وتُخطط غالبية الدول الأوروبية لإنهاء اعتمادها على روسيا في جميع قطاعات الطاقة، بدايةً من النفط والغاز، وصولاً إلى الطاقة النووية، في غضون سنوات.
لكن الدور الروسي في سوق الطاقة النووية لا يقتصر على تصدير الوقود النووي، إذ تروّج موسكو لنفسها بصورة "متجر نووي متكامل" يمكن للمتعاقد معه أن يضمن احتياجاته كافة، من بداية المعدّات، وحتى التشغيل والتخلّص من النفايات، خلافاً لشركات أخرى منافسة لا تُقدّم جميع الخدمات النووية المرتبطة بالمفاعلات.
وإضافةً إلى ذلك، فإنّ "روساتوم"، أكبر مصنّع للمفاعلات النووية في العالم، تنافس شركات صينية وفرنسية ويابانية وكورية وأميركية رائدة للاستحواذ على الحصة الكبيرة من سوق الطاقة النووية؛ ففي عام 2021، كانت الشركة الروسية تخطط لبناء أكثر من 12 مفاعلاً في مختلف أنحاء العالم، من بنغلاديش إلى تركيا.
ويمتد نشاطها إلى تصنيع المفاعلات النووية وتركيبها وتشغيلها وصيانتها على مستوى 54 دولة في العالم، من خلال 330 شركة تابعة وعدد ضخم من المهندسين والفنيين والعمال.
وثبّتت الشركة الروسية أقدامها في مجال الطاقة النووية السلمية منذ تأسيس ذراعها المدنية عام 2007، لتصبح المزوّد الرائد للخدمات النووية في العالم.
وشيّدت الشركة الروسية 10 مفاعلات نووية خلال الفترة الممتدة من 2007 إلى 2017، واستحوذت على 23 طلباً لشراء خدماتها النووية المختلفة من أصل 31 طلباً معروضاً عالمياً، إضافة إلى استحواذها على نصف وحدات المفاعلات النووية قيد الإنشاء في جميع أنحاء العالم.
وتوفّر "روساتوم" الوقود النووي للمفاعلات. وقد تحكمت في 40% من تحويل اليورانيوم عالمياً عام 2020، و46% من قدرات تخصيبه حتى عام 2018، إضافة إلى تقديمها خدمة التخلص من النفايات النووية.
هذه القدرات منحت روسيا نفوذاً كبيراً في سوق الطاقة النووية عالمياً بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، لتصبح المورّد الأساسي في 50% من الاتفاقيات الدولية المتعلقة ببناء محطات الطاقة النووية أو المفاعلات أو إمدادات الوقود أو التخلص من النفايات خلال الأعوام الـ15 الممتدة بين 2000 و2015.
وبلغ عدد المشروعات النووية التي تطوّرها الشركة الروسية نحو 35 مفاعلاً في العالم حتى عام 2021، وفقاً لتقرير سنوي صادر عن شركة "أتوم إنرجو بروم" القابضة التي تدير الأصول النووية المدنية لشركة "روساتوم".
وتصل كلفة مشروعات "روساتوم" إلى ملايين الدولارات، مثل محطة تارابور للطاقة النووية الهندية (700 مليون دولار)، ومحطة بوشهر 1 الإيرانية (850 مليون دولار)، وهناك محطات بمليارات الدولارات في تركيا (20 مليار دولار)، ومصر (30 مليار دولار)، وجنوب أفريقيا (76 مليار دولار).
يُشار إلى أنّ المفاعلات النووية لا تحتاج إلى التزوّد بالوقود بصورةٍ دورية، مثل محطات الكهرباء العاملة بالوقود الأحفوري، إنما يكفيها التزوّد به مرّة كل 12 إلى 24 شهراً.
ما مدى اعتماد أوروبا على الوقود النووي الروسي؟
يُمثل تقليص الدور الروسي في سوق الطاقة النووية تحدياً كبيراً لأوروبا، لأنّ الكثير من المفاعلات العاملة وتلك التي لا تزال تحت الإنشاء، تستخدم التقنيات الروسية.
في أوروبا فقط، وحتى عام 2021، كان هناك أكثر من 30 مفاعل "VVER" روسياً. ويرمز اختصار "VVER" إلى "مفاعل القدرة المائي-المائي"، وهو في الأصل تصميم سوفياتي. وحتى الآن، لا تزال غالبية تلك المفاعلات تعمل بالوقود الذي تزودها روسيا به.
وتضمّ منشأة زاباروجيا التي تُسيطر عليها روسيا في أوكرانيا، والقريبة من خطوط القتال الأمامية، 6 من بين عدد من مفاعلات "VVER" الموجودة في البلاد، والتي تزوّد أوكرانيا بنصف طاقتها من مصادر نووية، كما هي الحال بالنسبة إلى سلوفاكيا وهنغاريا.
وبحلول عام 2040، يمكن أن يأتي ما يصل إلى 78% من كهرباء هنغاريا من مفاعلات روسية الصنع، علماً أن بلغاريا تُواجه احتمال إنشاء شبكة كهرباء روسية تعتمد على المفاعلات بنسبة 37% بحلول التاريخ نفسه، وفق موقع "إنرجي مونيتو".
ولا تزال بعض دول الكتلة السوفياتية السابقة في أوروبا تعتمد على الوقود النووي الروسي، مقاومةً ضغوط حظره من الاتحاد الأوروبي، منتظرة تأمين بديل. وبناء عليه، لجأ الكثير منها إلى شركة "ويستنغهاوس" الأميركية للاستفادة من وقودها بدلاً عن روسيا.
ويقول الدكتور مات بوين الباحث في جامعة كولومبيا الأميركية: "حتى لو كان من الممكن الاستعاضة عن الوقود النووي الروسي بآخر، فإنّ البلدان التي لديها مفاعلات VVER قد تضطر إلى مواصلة اعتمادها على روسيا للحصول على المكونات والخدمات اللازمة"، مضيفاً أنّ "تقليل الاعتماد على روسيا ليس مستحيلاً، ولكن من الصعب تحديد الوقت الذي سيستغرقه ذلك".
أما من الناحية الفنية، فإن منشأة طاقة تعمل بالغاز أو الفحم بحاجة فقط إلى تزويدها بالغاز أو الفحم، لكن الأمر بالنسبة إلى محطات الطاقة النووية لا يعتمد على وضع اليورانيوم في المفاعل، بل يحتاج إلى تصنيع القضبان النووية المناسبة لكلّ نوع من أنواع المفاعلات.
وعلى الرغم من العقوبات المفروضة على روسيا، فقد نجحت "روساتوم" في تشغيل مفاعل جديد في سلوفاكيا في كانون الثاني/يناير 2023، لكنّها واجهت مشكلات في تزويد مفاعلات بلغاريا والتشكيك وبولندا بالوقود النووي بصورةٍ منتظمة بسبب العقوبات المفروضة على موسكو منذ بداية الحرب ضد كييف.
ينطبق الأمر نفسه على محطة الطاقة النووية التي تبنيها موسكو في بنغلاديش، إذ لا يمكن لسفينة روسية تحمل شحنة وقود للمحطة الواقعة في جنوب شرق آسيا أن تمر عبر المياه الإقليمية سالمةً من دون إيقاف أو فرض عقوبات.
وتعدّ فرنسا أكبر مستعمل للطاقة النووية في أوروبا، إذ تولّد نحو 70% من احتياجاتها من الكهرباء. وذكرت صحيفة "لو موند" الفرنسية، في تقريرٍ، أنّ روسيا تمتلك المحطة الوحيدة في العالم القادرة على إعادة تدوير اليورانيوم المتسرّب من المفاعلات النووية الفرنسية.
وأوضحت الصحيفة أنّ "الحرب في أوكرانيا كشفت أنّ الصناعة النووية الفرنسية تعتمد بشكل كبير على موسكو، إذ توجد منشأة واحدة فقط في العالم قادرة على إعادة تدوير اليورانيوم الناتج من الوقود المستخدم في 56 مفاعلاً في البلاد، وهو مصنع سيفيرسك الواقع في منطقة تومسك في سيبيريا، الذي ينتمي إلى مجموعة روساتوم الروسية".
هل تتراجع أوروبا عن خطط معاقبة القطاع النووي الروسي؟
في آذار/مارس 2022، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يُدين العملية الروسية في أوكرانيا. وقد أيّدته 141 دولة، وعارضته 5، وامتنعت 35 عن التصويت، وغابت 12 دولة.
وأفادت دراسة للمعهد النرويجي للشؤون الدولية بأنّ 40% من الدول الـ52 التي لم تصوّت لمصلحة القرار مرتبطة بالطاقة النووية الروسية، في حين دانت 33 دولة العملية العسكرية، ولم تقطع بَعْد العلاقات القائمة مع شركة الطاقة النووية الروسية "روساتوم".
موقف الدول الأوروبية من اعتمادها على الطاقة النووية الروسية يمكن تقسيمه إلى 3 مجموعات؛ الأولى تضمّ بولندا ودول البلطيق (إستونيا - لاتفيا - ليتوانيا) التي تطالب بحظر توريد الوقود النووي من روسيا. هذه الدول تفتقر إلى طاقة نووية خاصة بها، ما يعني أن العقوبات المفروضة على شركة "روساتوم" لن تؤثر فيها بشكلٍ مباشر.
المجموعة الثانية من البلدان هي التي تتخذ موقفاً محادياً، مثل ألمانيا والنمسا، مع العلم أنّ ألمانيا استغنت عن الطاقة النووية، وأغلقت آخر 3 محطات في البلاد قبل أيام.
أما الثالثة، وهي التي تُعارض فرض قيود في المجال النووي، وتعتمد مفاعلاتها ذات التصميم السوفياتي على إمدادات الوقود الروسية، فتُمثّلها هنغاريا وبلغاريا وفنلندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا.
الخوف الكبير لدى الأوروبيين بشأن الاستغناء عن الطاقة النووية الروسية يعود إلى مخاطر السلامة بشأن عملية تغيير الوقود في المحطات، فضلاً عن أنّه لن يكون ممكناً، في ظل الظروف الحالية، الاستغناء عن وقود "روساتوم" للمفاعلات السوفياتية قبل 10 أو 15 عاماً على أقلّ تقدير.
وحتى بوجود لوبي قوي مناهض للأسلحة النووية والخطابات المعادية لروسيا من السلطات الحالية، لا تدعم ألمانيا العقوبات ضد "روساتوم"، على الرغم من تخليها عن المحطات النووية!