فؤاد شكر.. الجاهز دوماً للحرب الكبرى
السيد محسن، خاض غمار المقاومة ضد كل أنواع الاحتلال ومراتبه، مقبلاً غير مدبر، محققاً في غضون سنين معدودة إنجازات لا تنتهي، بدءاً من الثمانينيات وصولًا إلى "طوفان الأقصى"
فؤاد شكر، أو السيد محسن، أو أبو محمد، ممن لهم خطوات تأسيسية للمقاومة في لبنان. قبل أن يقرّر تخصيص حياته للمقاومة في لبنان، خلع بدلته الرسمية يوم عَمِلَ ضمن جهاز الأمن العام اللبناني، ولبس بدلة المقاومة منذ ذلك الحين.
على مر عقود أربعة، كان لهذا القائد دوره الميداني المباشر، منذ قتال اللحظة الأولى في خلدة. وهو واحد ممن رافقوا كل الذين تولّوا قيادة المقاومة. كما كان شريكاً أساسياً في قراءة الواقع وتحضير لوازم الحرب والاستعداد لفعل نوعي متى تحين لحظة الحرب الكبرى.
يُجمع كلّ من عرفه وعاصره على أنه كان قيمة عسكرية وثقافية وإنسانية كبيرة، فقد تمكّن من تطويع قدراته وذكائه الحاد ليكون شريكاً في تأسيس منظومة لمواجهة الاستعمار والاحتلال، أياً كان ضد بلاده.
ببراعة، نجح في اقتناص حصّة وافرة من الضوء لحضوره الآسر. ورغم ندرة ظهوره، فإنّ ما قام به في وجه الاحتلال الإسرائيلي كان واضحاً وجلياً منذ بدايات المقاومة الإسلامية في لبنان، قبل أكثر من أربعة عقود. فمنذ شبابه رفض الرجل الذي ينحدر من بلدة النبي شيت أن يعيش يوماً تحت لبنانٍ ذليل ومقهور.
لم يكن يتوقع يوماً أن تكون سنين عمره طويلة، إذ كان ينتظر الشهادة كل يوم. بعد مسيرة طويلة في الجهاد بلغ الـ63 من عمره بجسد مليء بالجراح من المعارك التي خاضها. هو الملاحق منذ بداية انضمامه إلى العمل المقاوم، ولم يقلل يوماً من قدرات الأعداء وقوتهم، والذين استطاعوا بعد 25 عاماً من ملاحقتهم إياه، الوصول إليه، في وقت كان يخطط للنصر المقبل.
اللقاء الأول على البحر
قبل 1982، أخذ صديقٌ للحاج عماد مغنية بيد الأخير ليعرّفه إلى ما وصفه آنذاك بشخصٍ "مقبل غير مدبر". كان السيد محسن يمارس هوايته بالغوص والصيد على شاطئ بيروت. هناك التقى لأول مرة مع مغنية الذي صار في ما بعد ثقته وصديقه.
توالت الأيام، وتعززت روابط الأخوة مع رفاقه المؤسسين، الشهداء منهم والأحياء، داخل المساجد. من هناك كانت البدايات، ومعاً استمروا في دراسة أعدائهم داخل لبنان وخارجه، وكل ما يخص القضية والمقاومة الفلسطينية. شبّوا في بلد يعاني من اعتداءات إسرائيلية متواصلة، وبدايات حرب أهلية.
مع ثلةٍ قليلة جداً، قرروا أن يكونوا من الذين يأخذون بلبنان من مرحلةً إلى أخرى. في حزيران 1982، يوم اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان، وأريد لهذا البلد أن يحكمه شلال الدم، آمنوا بجدوى القتال، ورفعوا راية الجهاد التي أتوا بها من الإمام الخميني، يوم أصدر فتوى توجب قتال "إسرائيل" ومواجهتها.
في خلدة، بعد صد عنيف وقاسٍ للعدو الإسرائيلي شارك فيه شكر مع مغنية ومصطفى بدر الدين وآخرين، وصلت بعض وسائل الإعلام لتسأل هذه الثلة عن هويتهم، فلم يتردد السيد محسن في الإجابة: "نحن الخمينيون".
هكذا بدأت تتشكل ملامح التشكيل العسكري الأول للمقاومة، في وقت زاد انخراط القائد شكر في العمل الجهادي، بعدما تعرّف إلى الحرب وفنون القتال الإستراتيجية والتكتيكية وحتى الشخصية، فبات حضوره الميداني المباشر عاملاً مؤثراً منذ ذلك الوقت في كل المعارك والحروب اللاحقة.
حين بدأ الحصار على بيروت بعد انتهاء معركة خلدة، انطلق التحضير لعملية استشهادية. ولدت العملية في شهر حزيران، والأهداف تتراوح بين نقل المعركة من محاصرة بيروت إلى ضرب الخطوط الخلفية للعدو في الجنوب.
العملية الكبرى
في تموز 1982، عمل الشهيد ومعه قادة ومجاهدون آخرون على نقل قوافل المواد المتفجرة والأسلحة من الضاحية إلى الجنوب لتخزّن في أماكن متعددة، من أجل تحضير البنية التحتية لبدء العمليات ضد الإسرائيليين في الخطوط الخلفية.
اتجه الحاج عماد مغنية والسيد محسن، وقيادي آخر إلى تلك المنطقة، لرصد نقطة التفجير، والتأكد من دقة وصحة ما نقله الشهيد أحمد قصير لهم، باعتباره الشاب الذي عمل مع أبيه بائع خضار، وكان أول من دلَّهم على المكان الذي يمر أمامه يومياً، كسائقٍ يتجه من دير قانون النهر إلى صور لشراء البضاعة، ثم يعود إلى قريته.
كان يمرُّ يومياً أمام مبنىً لقيادة "الجيش" الإسرائيلي تقابله باحة تضم عدة خيم للحراسة والدوريات والعناصر. نقل أحمد المعلومة إلى أحد المقاومين الذي نقلها بدوره إلى القيادة. وعلى مدى شهر ونصف، تم رصد المكان وجمع المعطيات.
بعدها، جرى تهريب أحمد من خلف خطوط العدو إلى الضاحية الجنوبية لبيروت بهدف الخضوع لتدريبات مكثفة. وبعد تدبر كل الأمور العسكرية واللوجستية، وفي السابعة من صباح 11 تشرين الثاني، طوى أحمد، بحسم ويقين، آخر سجدة في صلاته، ثم ركب "سفينته" واقتربت لحظة الطوفان.
بدأ المطر ينهمر في ليلة العملية. يكشف الراصد أن كل الجنود في الخيم الخارجية انتقلوا إلى داخل المبنى للاحتماء من شدّة المطر. أجبر الجو العاصف مسؤولاً استخبارياً كبيراً كان في زيارة إلى الموقع أن يبيت هناك. اجتمع الإسرائيليون هناك من دون موعد، ودخل حارس البوابة الرئيسية معهم تاركاً الحاجز المجنزر مفتوحاً على مصراعيه، رغم أن المخطط كان أن يقتحم أحمد البوابة، ويخلعها ليصل.
الراصد للموقع من جهة حزب الله ظل كما كان قبل العملية، وأثناءها، وبعدها. في حزب الله، لم يعلم أحد بما بات قريباً من التنفيذ إلا دائرة ضيقة، حفاظاً على سرية العمل وخطورته. حتى إن الراصد لسير العمل في المبنى الإسرائيلي فوجئ حين اقتحمت السيارة المبنى.
عبرت عاصفة صنعتها أيدي حزب الله. هوى المقر بمن فيه، وتحول إلى باحة حمراء من كثرة الدماء التي تناثرت. 74 عسكرياً بين ضابط وجندي بينهم الحاكم العسكري ومسؤول في الاستخبارات، أما 27 فكانوا في عداد المفقودين، لتنتهي المحصلة بـ 141 قتيلاً.
عملية أسرٍ أولى
في 1986، كان شكر من القادة العسكريين الذين يقودون سير المعارك من خارج الشريط المحتل. ولعل أبرز ما برز في تلك المرحلة، عملية الأسيرين التي جرى تنفيذها في 17 شباط من العام نفسه. هذا التاريخ دخل في سجّل المقاومة تحت عنوان "عملية كونين"، لتصبح لاحقاً "عملية الأسيرين".
كانت أول عملية أسر ناجحة ينفذها المقاومون، بعد محاولات سابقة. قائد العملية على الأرض كان صديقه الذي أحب الشهيد سمير مطوط (جواد)، الذي وصفه السيد محسن في كتاب عن الشهيد بـ"جواد موجٌ لا شاطئ له، بعدما جعل عالي أعدائه سافله، كما تجعل الموجة قعر البحر على سطحه وسقفه".
لكن، من الخلف، كان قائد العملية السيد محسن الذي أعطى التعليمات تباعاً على جهاز تواصل به مع الشهيد جواد. وهؤلاء كلهم من جيل المقاومة التي كانت تفتقر إلى الأسلحة الحديثة والخبرات، فكانت تتعلم ميدانياً وتراكم الخبرات التي ستستفيد منها الأجيال اللاحقة.
حين سألناه: ألا يصعب وصف روحية رجل ظلَّ منذ الثمانينيات حاضراً ومربياً لأجيال الاستشهاديين، ومودعاً لهم في اللحظات الأخيرة قبل الانطلاق، ومطمئناً أنه لا يوجد ذرة تردد لديهم. كيف تلخص تجربتك مع الاستشهاديين، كان جوابه على قاعدة أعذب الكلمات أقصرها: "فرصة ضاعت".
مراحل فاصلة
بعد ذلك، قاد عمليات المقاومة بين 1988 و1990، بإشراف مباشر، وخاصة العمليات الاستشهادية. من عملية الشهيد هيثم دبوق على طريق تل النحاس التي استهدفت قافلة للعدو تضم ما لا يقل عن خمسين عسكرياً، إلى الشهيد عبد الله عطوي (الحر العاملي) الذي فجر نفسه بقافلتين صهيونيتين عند التقائهما في بوابة العبور إلى فلسطين المحتلة (بوابة فاطمة)، فحوّل القافلتين بكل آلياتهما إلى حطام، وصولاً إلى أسعد برو الذي فجّر قافلة عسكرية على مدخل القليعة، فضلاً عن تنفيذ اقتحامات وتفجير عبوات بدوريات الاحتلال.
عام 1992، وفي مهمة سرية واضحة الأهداف، سافر إلى البوسنة، على رأس مجموعة عسكرية من نخبة مقاتلي المقاومة أبرزهم الشهيد علي فياض (علاء البوسنة – استشهد في سوريا عام 2016). قطعوا الحدود بطائرة وزير الخارجية الإيراني حينها، علي أكبر ولايتي، ويمموا شطر البلاد لتنظيم صفوف المقاتلين المسلمين، والبدء في مهمات تدريبية وتقديم الخبرات، لأن "مشروعنا أممي، ولا يقتصر على بلد أو منطقة محددة" يقول السيد محسن.
بعدما وضعت الحرب اليوغوسلافية أوزارها، عادوا إلى البلاد، وتلى ذلك تنصيبه قائداً لـ"الوحدة العسكرية" حتى 1995، ثم بعدها تسلّم تأسيس وقيادة القوة البحرية، وبعدها القوة الصاروخية والجوية.
في 2000، وبعد مشاركته في التخطيط الطويل لعملية الأسر آنذاك، كان السيد محسن على الأرض مع المجاهدين الذين نفذوا العملية، وما إن نجحت، وصار الأسرى الثلاثة داخل السيارة، قادها بنفسه ناقلاً إياهم إلى مكان آمن.
من الملفات الاستراتيجية إلى "طوفان الأقصى"
جاءت حرب 2006، وفيها لم يغادر غرفة العمليات، مشرفاً ومن معه من القادة الجهاديين على كل تفصيل في المعركة. آنذاك، كان مسؤول القوة الصاروخية والبحرية التي استهدفت البارجة الحربية "ساعر".
في لحظة تفجير "ساعر"، كان هو من تبلّغ الخبر، من منفذي العملية، ونقله إلى الغرفة حيث كان السيد نصر الله يلقي خطاباً.
لم يكن السيد محسن غارقاً في عالم العسكر وحسب، بل له متابعاته السياسية والثقافية الواسعة. مكتبه الذي يقع في قلب حارة حريك يضيق على مكتبته التي تغرق بالدواوين والمجلدات والروايات وكتب العلوم السياسية والثقافية. فما إن تأتي بسيرة أمامه، حتى يزيدك من الشعر بيتاً.
تعلو مكتبه صورة كبيرة تضم 9 شهداء "سبقوه" على حد قوله. سيرة الشهداء، وهو الذي كان قائد سرايا الاستشهاديين، لا تفلت من لسانه. لا يحتاج ليذكرك بأي شهيد أو بتفاصيل عمليته إلا ذكر الاسم أمامه، ولو كان شهيداً منذ الثمانينيات.
يؤكد مسؤول "سرايا الاستشهاديين"، السيد محسن، أن وحدة الاستشهاديين ما زالت قائمة، وهي دائماً موجودة في حزب الله؛ "في حرب تموز 2006 كانوا جاهزين، والآن ما زال الوضع على حاله. ساعة يطلب من الاستشهادي القدوم، فإنه يلبي النداء"، يؤكد السيد محسن أن مقولة وجود عدد أكبر من الاستشهاديين في الثمانينيات من الوقت الحالي مقولة غير صحيحة.
على العكس تماماً، "اليوم عدد الاستشهاديين الحاضرين عشرات الأضعاف مما كانوا في البدايات، وإذا ما أُعلن النفير العام، فإن العدد بطبيعة الحال يتضخم".
شهيداً للمرة الأخيرة
الرجل الذي يُعد أشبه برئيس أركان أدار منذ "طوفان الأقصى" في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023 جبهة الإسناد اللبنانية يوماً تلو الآخر، متابعاً أدنى تفصيل للعمليات العسكرية في الجنوب. في هذه المرحلة، كان يُعدّ من أقدم القادة العسكريين في المقاومة، ومستشاراً للأمين العام، السيد حسن نصر الله، في التخطيط وتوجيه العمليات خلال الحروب.
حتى أيامه الأخيرة كان تبدو على وجهه آثار جهد كبير. ما إن تسأله عن حادثة بعيدة، يثبت لك أن الذاكرة لا تسقط شيئاً. يمكن لأصابعه التي كدّت ولم تتعب أن ترتاح على جبينه لفترة، كأنه يحاول الإمساك بفكرة هاربة.
#المقاومة_الإسلامية في #لبنان تصدر بياناً تزفّ فيه القائد الجهادي الكبير، السيد #فؤاد_شكر "السيد محسن"، شهيداً كبيراً على طريق القدس، والذي ارتقى في إثر الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لـ #بيروت. تعرفوا إلى سيرة حياة الشهيد 👇 pic.twitter.com/bk6r2lzSMQ
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) July 31, 2024
كان كل مشهد يومض في ذهنه، وفيه ما فيه من أسرار للمقاومة قد تخرج إلى العلن يوماً وربما لا. لم يمل من كل تحدٍ جديد ومواجهة الأعداء من جنوب لبنان ضد "إسرائيل" إلى التكفيريين في سوريا ثم "إسرائيل" مجدداً وأخيراً.
لا شك أنّ الوداع سيكون وداعاً يليق بتاريخه بعدما بنى صرحاً كبيراً من الإنجاز، وحفر الصخر بإبرة، رفقة الرعيل الأوّل الذي أسس لنهضة أممية. وإن كان حضوره قد ظلّ بعيداً عن الشهرة، بسبب الحيز الأمني، فإنه كان أستاذاً وقائداً بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
مساء الـ30 من تموز/يوليو 2024، أمسك بمفتاح الراحة الأبدية، ومضى ليحلّق قرب رفاقه الذين سبقوه، لكن من الذي يمنح "المرة الأخيرة" لوجوده مسمّى الانتهاء؟ لقد كانت لحظة البداية، حين أغمض عينيه بكامل وعيه، كي يبصر الآخرون الطريق.