لماذا يتراجع جيش ألمانيا وتهتزّ معايير التعيين لوزير الدفاع فيها؟
الجيش الألماني متخلّف بسنوات عن نظرائه في الدول الأوروبية الأطلسية الأخرى. فالعديد الكلي لهذا الجيش يقارب العدد نفسه الذي كان عليه في حقبة نهاية الحرب الباردة.
بخلاف الصورة المبهرة عن ألمانيا كنموذج ومثال يحتذى به عالمياً على كلّ الأصعدة التكنولوجية والصناعية والرفاه الاقتصادي، يعيش جيشها هذه الأيام أسوأ أيامه، نتيجة حالة الضعف والترهل والتراجع التي يعاني منها، خصوصاً على مستوى القوة البشرية، بالرغم من محاولات الإصلاح التي قام بها وزراء الدفاع الألمان المتعاقبون طيلة العقود الماضية، ولم يكتب لها النجاح بسبب البيروقراطية الإدارية القاتلة المتحكّمة بمفاصل القرار السياسي والأمني.
مع اندلاع المواجهة الأطلسية - الروسية، وجدت برلين نفسها أمام مخاطر استراتيجية جمّة، فرضتها التحوّلات الجيوسياسية والعسكرية الجارية على تخومها، وما زاد من سوداوية المشهد، هو أن آلية تعيين الأشخاص في المراكز القيادية الرفيعة، خرجت عن مسارها المتعارف عليه في ألمانيا، والذي كان يأخذ بعين الاعتبار الكفاءة والخبرة أولاً وأخيراً.
فأصبحت قواعد التوظيف في المراكز والمواقع السياسية والأمنية المهمة في برلين، ترتبط ارتباطاً مباشراً بالموقف من الأزمة الأوكرانية، وتخضع لقياس درجة العداء لروسيا ومدى الاستعداد لشيطنتها. بالمقابل، فإن إطلاق المواقف المؤيدة الواضحة والصريحة لكييف وعدم التردّد أو التحفّظ على تقديم جميع أشكال الدعم لها تحوّل إلى ما يشبه جواز المرور إلى الوزارات الأمنية الحساسة، كوزارة الدفاع مثلاً.
وبناء على تلك المعايير، الغريبة عن الأعراف الألمانية، جرى تعيين وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، الذي خلف كريستين لامبرخت في كانون الثاني/يناير الماضي، بعد استقالة الأخيرة من منصبها، في أعقاب تعرّضها لحملة انتقادات شرسة وواسعة لم توفّر حتى الجانب الشخصي، ولا سيما بعدما تجنّبت ذكر أوكرانيا في رسالة لها على الإنستغرام لمناسبة حلول العام الجديد، حيث كتبت حينها صحيفة "بيلد" الألمانية، الوسيلة الإعلامية الأكثر قراءة وانتشاراً في أوروبا، في عنوانها الرئيسي قائلة: "لامبرخت تضع ألمانيا كلها في العار"، ووصفت كلماتها أيضاً التي لم تذكر معاناة الأوكرانيين بأنها "مخزية".
من هو وزير الدفاع الألماني؟
كان وزير الدفاع الألماني يفتقر عند تعيينه في هذا المنصب المهم إلى الخبرة العسكرية الواسعة، فضلاً عن عدم درايته بالسياسة الفيدرالية - ناهيك عن السياسة الدولية.
تولّى الرجل، البالغ من العمر 62 عاماً، منصبه بعد أن انتقل من وظيفة شبه غامضة أي منصب وزير الداخلية في ولاية سكسونيا السفلى لأكثر من عقد، إلى قيادة الهياكل العسكرية الألمانية، واضعاً نصب عينيه هدفاً رئيسياً، قوامه إصلاح القوات المسلحة الألمانية المهملة منذ فترة طويلة، وهو ما يعكس مدى تحوّل السياسة الأوروبية بشكل كبير من الداخل إلى الخارج بسبب الأزمة الأوكرانية، بعدما وجد بيستوريوس نفسه فجأة في دائرة الضوء، في ظل هيمنة المواجهة الأطلسية - الروسية على المشهدين السياسي والإعلامي في ألمانيا.
تبعاً لذلك، وبعد أسابيع قليلة من جلوسه على كرسي الوزارة، أصبح بيستوريوس من حزب الديمقراطيين الاشتراكيين (يسار الوسط السياسي) الأكثر شعبية في ألمانيا، وفقاً لمسح عبر الهاتف شمل 1361 ناخباً مؤهّلاً تمّ إجراؤه في شباط/فبراير الفائت، ونشرته هيئة الإذاعة العامة (ZDF) متفوّقاً بذلك على سياسيّي حزب الخضر المشهورين وزيرة الخارجية أنالينا بربوك، ووزير الاقتصاد روبرت هابيك.
ليس هذا فحسب، يعتبر بيستوريوس نجماً سياسياً وإعلامياً صاعداً، إذ غالباً ما يظهر مرتدياً ملابس مموّهة أثناء زيارته لقواعد الجيش، ويدردش مع عناصر وضباط الجيش بأسلوب مباشر. وبالرغم من شعبيته، فهو يشغل وظيفة مشهورة باسم "مقعد طرد". ولهذا رأى العديد من شاغليها السابقين أن طموحاتهم تنحرف عن مسارها، بسبب الفضائح أو عدم الكفاءة أو بيروقراطية الدفاع المشهورة.
حقيقة وضع الجيش الألماني حالياً
عملياً، وعند الاطلاع على الوضع الحالي للجيش الألماني، نجد أنه متخلّف بسنوات عن نظرائه في الدول الأوروبية الأطلسية الأخرى. فالعديد الكليّ لهذا الجيش (وهو يضم أكثر من 200 جنرال وأميرال) يقارب العدد نفسه الذي كان عليه في حقبة نهاية الحرب الباردة، عندما كان عديد قواته يبلغ نحو 3 أضعاف الحجم الحالي. أما المضحك في الأمر، فهو أن الجيش الألماني، وبهدف معالجة النقص في العنصر البشري، أحرز في الآونة الأخيرة تقدماً ضئيلاً من خلال إضافة 20 ألف مجنّد بحلول عام 2032، أي بزيادة قدرها 10% عن الأفراد العسكريين في الخدمة الفعلية.
ولهذه الغاية، يرى الخبراء العسكريون الألمان، أن الحل الوحيد لمعضلة نقص العديد في الجيش الألماني، هو منح الجنسية للمهاجرين الذين يتخرّجون من المدارس الثانوية الألمانية إذا خدموا عدة سنوات في الجيش.
على المقلب الآخر، ثمة مشكلة أخرى قد تواجه وزير الدفاع الألماني، وهي تتمثّل بقواعد المشتريات العسكرية الألمانية، التي تعكس نظاماً مبنياً لمستقبل متخيّل من السلام الدائم، وتحتوي على قيود كثيرة تعيق تحديث القوات المسلحة. والأنكى أنه بموجب قاعدة عمرها نحو 40 عاماً، تتطلّب عقود الدفاع التي تزيد قيمتها على نحو 27 مليون دولار موافقة لجنة الميزانية في البرلمان.
رؤية وزير الدفاع المستقبلية لتأهيل وتقوية الجيش
يحتاج بيستوريوس لتحويل الجيش الألماني الهزيل إلى قوة قتالية ديناميكية يمكن أن تساهم بالدفاع عن أوروبا بفعالية واقتدار، إلى مقومات النجاح للوصول إلى مبتغاه. على أن ذلك سيتطلب زيادة حادة في الإنفاق الدفاعي على أساس سنوي، وهو ما يعتبره الكثيرون من المراقبين الغربيين غير مرجّح، كون ذلك سيدفعه إلى وضع استراتيجية مختلفة، وسيستلزم منه تغييراً وتجديداً ثقافياً من أعلى إلى أسفل داخل وزارة الدفاع.
أما أولى تلك الخطوات فتكمن بتذليل عقبة الإجراءات البرلمانية المتعلّقة بالتسلّح، والعمل على إعادة صياغة قواعد المشتريات القديمة، إضافة الى وضع أطر قوانين حديثة لمواكبة المتغيّرات الأمنية في القارة الأوروبية.
من هنا، ومع أن وزير الدفاع يتطلّع لتأهيل جيش بلاده، ورفع مستوى قدراته التسليحية، وزيادة إمكاناته البشرية، إلا أن هذه التصوّرات والأهداف بالكاد تجري وفق ما هو مخطّط لها.
إذ لا يمكن، برأي المراقبين، أن يحدث أي من هذه الأمور، من دون إجماع وطني حازم على تحمّل جزء أكبر من عبء الدفاع عن أوروبا. وللوصل إلى تلك المرحلة، سيتوجب عليه مواجهة إرث السياسيين الألمان خصوصاً من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي ينتمي إليه بيستوريوس.
وتبعاً لذلك سيكون أحد أكبر التحديات التي سيواجهها وزير الدفاع هو إدارة الصندوق الخاص الذي رصد له مبلغ 100 مليار يورو (106 مليارات دولار)، وكان وعد شولتز القوات المسلحة الألمانية بالعودة إليه في شباط/فبراير 2022.
علاقة تعيين وزير الدفاع الألماني بالحرب في أوكرانيا
في الواقع، إضافة إلى برنامج الإصلاح الذي يسعى بيستوريوس لإتمامه، فإن اختياره من قبل المستشار شولتز، ليكون على رأس هرم وزارة الدفاع الألمانية (بمباركة أطلسية)، لم يكن محض صدفة، فهو أتى إلى وظيفته، لتنفيذ مهمة إخراج برلين مما يصفه الرجل بعقود من العمى المتعمّد لممارسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشيشان وشبه جزيرة القرم وجورجيا وسوريا وأماكن أخرى في العالم.
لذا، وبعد ظهوره الذي لقي استحساناً كبيراً في مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط/فبراير الماضي، أفصح بيستوريوس (خلال زيارة للقوات الأوكرانية، والتي يتم تدريبها في مدينة مونستر الألمانية) عن استراتيجيته ونهجه العملي القائمين على الدعم المطلق لكييف.
الأكثر أهمية، إنه عندما تردّد المستشار شولتز بشأن السماح بإرسال دبابات من طراز "ليوبارد 2" الألمانية إلى أوكرانيا بناء على طلب واشنطن، أعلن وزير الدفاع تأييده السريع لرغبة الولايات المتحدة، في وقت لم يكن شولتز قد أعطى الضوء الأخضر (قبل أن يرضخ المستشار الألماني لاحقاً لضغوط الرئيس الأميركي جو بايدن)، حيث قال بيستوريوس، المعيّن للتو حينها، إنه "سيفحص المخزونات استعداداً للشحن".
علاوة على ذلك، جاهر بيستوريوس في شباط/فبراير الماضي بموقفه المنحاز لكييف قائلاً إن "أوكرانيا يجب أن تربح هذه الحرب"، واللافت هنا أن كلامه كان أكثر تطرّفاً من رئيسه شولتز، الذي قال فقط إن "أوكرانيا يجب ألّا تخسر".
أما المفاجئ في سلوك وزير الدفاع الألماني، فهو سابقة دعمه استراتيجية الهجمات الأوكرانية ضد أهداف البنية التحتية داخل روسيا، والتي اعترض عليها زعماء غربيون آخرون، حيث لم يخف بيستوريوس موافقته الضمنية على هذه الأفعال، عبر قوله إنه "من الطبيعي تماماً أن تشن أوكرانيا ضربات على الأراضي الروسية، خاصةً لإغلاق طرق الإمداد بعيداً عن المدن والمناطق المدنية".
أكثر من ذلك، وعلى النقيض من سياسات سلفه، كريستين لامبريشت ومناوراتها لمنع توريد العتاد العسكري الفتّاك الى أوكرانيا التي عرّضتها للسخرية، ولا سيما تقديمها 5000 خوذة إلى كييف مع احتشاد القوات الروسية على حدود أوكرانيا في العام الماضي ــــ أدّى بيستوريوس دوراً أساسياً في صياغة الحزمة الأخيرة، من تقديمات الأسلحة والذخائر لأوكرانيا، والتي قدّرت قيمتها بنحو 2.9 مليار دولار، وتم الإعلان عنها الشهر الفائت.
في المحصّلة، لم ينجح أي وزير دفاع في الآونة الأخيرة في عكس اتجاه الأزمة العسكرية الألمانية المستمرة منذ عقود، بسبب نقص الموارد البشرية والتمويل، وما زاد الطين بلة هو عدم قدرة برلين على تجديد الترسانات التي استنفدها لتسليح أوكرانيا، والأهم من ذلك كله، أن ذخيرة الجيش الألماني، ستنفد بعد أيام قليلة من أي قتال عنيف سيخوضه مع طرف ما مستقبلاً (إذا لم يتم الإصلاح)، آنذاك ستكون العديد من مركباته المدرعة كذلك، عبارة عن أكوام من الحديد الصدِئ.