علاقات قلقة.. الشراكة عبر الأطلسي أمام اختبار إحياء الثقة

العلاقات بين أميركا والدول الأوروبية على المحك في عهد الرئيس جو بايدن، وخصوصاً بعد الأحداث الأخيرة التي ساهمت في زعزعة الثقة بين الحلفاء.

  • علاقات قلِقة.. العلاقات عبر الأطلسي أمام اختبار إحياء الثقة
    الرئيس جو بايدن وعد بتعزيز التعاون مع الدول الأوروبية 

يعود التوتر في العلاقات الأوروبية الأميركية إلى بداية الألفية، وتحديداً إلى عهد الرئيس جورج بوش الابن، ثمّ خَلَفِه الديمقراطي باراك أوباما، الذي عمل على تطوير العلاقات بأوروبا بالتوازي مع إعلان أنّ محور الاستراتيجية الأميركية أصبح آسيا، وأنّ المحيط الهادئ هو الذي أصبح يشكل المجال الحيوي للانشغال الأميركي، بعد أن كان المحيط الأطلسي. 

الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أطلق شعار "أميركا أولاً"، نزع الغلاف الرقيق والبرّاق والذي كان يغلّف الخلافات الأوروبية الأميركية، وشنّ "حروباً كلامية" على الدول الأوروبية، أو على بعض قادتها البارزين، كالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. 

وشدّد ترامب من سياسات الحمائية الاقتصادية، ففرض رسوماً إضافية على واردات بلاده من الصلب والألومنيوم وغيرهما من الاتحاد الأوروبي، ومنع الدول الأوروبية من استخدام بعض التقنيات الصينية، بما في ذلك شبكة الجيل الخامس، التي طوّرتها "هواوي". 

وعلى الصعيد العسكري، شكّك ترامب في أهمية حلف "الناتو"، وطالب الدول الأوروبية بتحمّل مزيد من الأعباء المالية في سبيل تأمين الحماية العسكرية لها، بينما تحدّث مستشاره للأمن القومي عن احتمال انسحابه منه، لو كُتب له الفوز في ولاية ثانية. 

دخول بايدن البيتَ الأبيض رئيساً، بعث آمال الأوروبيين في إمكان تمتين العلاقات عبر الأطلسي، وإيجاد قواسم مشتركة، أهمها احترام المنظمات والقوانين والمعاهدات الدولية، والتي سبق أن انسحب منها ترامب على نحو مفاجئ. فالرئيس الجديد يمثّل منهجاً يحترم الإرث الأوروبي، ويهتم بالتعاون مع الحلفاء لتحقيق المصالح المشتركة. 

وبالفعل، حمل بايدن وعوداً بتمتين العلاقات بدول الاتحاد الأوروبي، وعبّر عن استعداده للتشاور مع الحلفاء بشأن القضايا المشتركة، واستعادة صورة "أميركا العظيمة"، التي تعرف كيف تبرهن على أنّ التزاماتها مُقدّسة، وفق تعبير بايدن.

لكنّ الأوروبيين هم أكثر حاجة إلى التطبيقات العملية من أي وعود أو مجاملات لا تعود عليهم بشيء. وهذا ما تكشفه تصريحاتهم في الآونة الأخيرة، والتي تُظهر عتباً على الإدارة الجديدة، التي أدارت لهم ظهرها عدّة مرات إلى الآن، أي قبل انقضاء سنة من تسلمها الحكم. 

في أفغانستان، بدا الخلاف واضحاً بشأن توقيت الانسحاب. وزراء دول حلف "الناتو" طالبوا وزير الخارجية الأميركية، خلال اجتماع بروكسل، بأن يكون الانسحاب الأميركي مشروطاً بتحقيق تقدم في عملية السلام والوصول إلى نتائج مثمرة في الحوار الأفغاني - الأفغاني، وفق ما كشف مؤخراً كتاب "بيريل" للصحافيَّين بوب وودورد وروبرت كوستا، لكن بايدن رفض هذا المقترح، وأصرّ على الانسحاب في الموعد الذي حدده مسبقاً.

انسحاب أميركا من أفغانستان استدعى انسحاب الشركاء الأوروبيين مباشرةً. بمعنى آخر، تجاوزت واشنطن كل الرغبات الأوروبية في تحقيق إنجاز يسمح بادعاء أنّ الحرب العسكرية أتت أُكلها، وتركت لـ"الأسباب الداخلية" أن تتحكّم في مسار الانسحاب الغربي.

أميركا ستحتاج إلى أوروبا من أجل تطويق الصين عالمياً

أثار قرار بايدن حفيظة الدول الأوروبية، ودفع مسؤولين أوروبيين إلى التساؤل عن مكانة الولايات المتحدة اليوم، وإذا ما كانت قادرة على المساهمة، على نحو فعّال، في حماية الدول الأوروبية. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة الجهود في إعادة إحياء فكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية تكون بديلاً عن الاعتماد الكبير على الجيش الأميركي.

توجيه الولايات المتحدة اهتماهها إلى المشهد الآسيوي، ولاسيما الصين، بعد سنوات من الانشغال المعمّق بقضايا الشرق الأوسط وشرقي أوروبا ودول البلقان، وفي ظل "التهديد" السوفياتي ثم الروسي، سيعني مزيداً من الانسحاب من القارة الأوروبية، وتوجيه الاهتمام إلى تعزيز العلاقات بالحلفاء الآسيويين، كالهند واليابان، بالإضافة إلى أستراليا.   

أميركا ستكون في حاجة إلى أوروبا من أجل تطويق الصين عالمياً أيضاً، واستخدام تحالفاتها السابقة في هذا المجال، تماماً كما فعلت خلال الحرب الباردة، إلاّ أنّ مساعي واشنطن لإنشاء تحالفات جديدة، أو تعزيزها، من أجل هذه الغاية، قد تفجّر علاقات قائمة، وخصوصاً بالدول الأوروبية. وهذا ما تعكسه التطورات، خلال الساعات الأخيرة.

إعلان تشكيل تحالف أمني استراتيجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مساء الأربعاء، يضمّ كلاً من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وأستراليا، من أجل "تعميق التعاون، على نحو كبير، عبر مجموعة من القدرات الأمنية والدفاعية"، وخصوصاً في مواجهة الصين، حمل سموماً للعلاقات الأوروبية ـ الأميركية.

هذه المعاهدة الأمنية الجديدة، والمسمّاة "أوكوس"، ستتيح لأستراليا التزوّد بغواصات تعمل بالطاقة النووية، بمساعدة واشنطن ولندن، في تراجع عن عقد أبرمته الحكومة الأسترالية بقيمة 90 مليار دولار، بعد مفاوضات استمرت سنوات، من أجل شراء غواصات تعمل بالديزل مع شركة تصنيع الغواصات الفرنسية "Naval Group".

الصفقة البريطانية ـ الأميركية ـ الأسترالية مثّلت "طعنة حقيقية في ظهر" فرنسا، و"خيانة" لثقتها بهذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بحسب تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي وصف سلوك الحكومة الأميركية تجاه هذا الاتفاق الجديد بأنّه "شبيه، إلى حد كبير، بما كان يفعله السيد ترامب".

تشكّل السنوات المتبقّية من عهد بايدن اختباراً حقيقياً بشأن مدى احتمال عودة الثقة بين الشركاء التاريخيين، وتجاوُز الهوّة التي وسّعتها واشنطن عبر قضمها المصالح الأوروبية، في سبيل البقاء على رأس العالم. 

وقعت الولايات المتحدة الأميركية اتفاقية أمنية مع كل من بريطانيا وأستراليا، عرفت باسم "أوكوس"، ورغم أنها موجهة ضد الصين بالأساس، إلا أنها أثارت خلافاً دبلوماسياً حاداً مع فرنسا، وتوتراً قد يهز العلاقة الأميركية مع أوروبا كلها وداخل حلف الناتو.

اخترنا لك