شغبُ جزر سليمان: احتجاجات غربية على النفوذ الصيني؟
تشهد جزر سليمان احتجاجات ضد الحكومة، وأعمالَ شغب لا تغيب عنها الاعتبارات الخارجية، وخصوصاً أن السلطات الحاكمة مقرّبة إلى الصين، التي تُشَنّ عليها حربٌ باردة غربية من أجل تحجيمها والحدّ من نفوذها.
تشهد جزر سليمان، لليوم الثالث على التوالي، أعمال شغبٍ، حاول المحتجون في اليوم الأول منها اقتحام مقر البرلمان، وذلك بسبب عدم خضوع رئيس الوزراء ماناسيه سوغوفار لمطلبهم الداعي إلى الاستقالة، كما تخلَّلها إحراق مبانٍ ومهاجمة مراكز شرطة ونهب متاجر.
وتوسّعت هذه الاحتجاجات العنيفة إلى الحدِّ الذي دفع السلطات إلى فرض حظرِ تجوالٍ ليليٍّ يمتدّ إلى أجَلٍ غير محددٍ، كما استدعت قلق أستراليا ونيوزيلندا، جارَتَي الدولة المؤلفة من نحو 990 جزيرة، والواقعة جنوبي المحيط الهادئ، إذ بدأت أستراليا نشر قوةٍ لحفظ السلام فيها، تلبيةً لطلب وجّهه رئيس الوزراء إلى جيران بلده للحصول على مساعدة عاجلة لوقف الاضطرابات.
لا تُرى هذه الاحتجاجات كشأن داخلي. فالمطّلع، على عَجَلٍ، على أوضاع هذا البلد البعيد، سيلحظ النفوذ الصيني داخله، من خلال جاليةٍ فعّالةٍ اقتصادياً، وكذلك من خلال العلاقة التي تربط السلطة هناك بالدولة الصينية، بحيث تبدو هذه الاحتجاجات، من دون تجاوز الأسباب المحلية، جزءاً من سعي الولايات المتحدة، ومن خلفها الغرب، لتحجيم الصين وإخراجها من مناطق نفوذها.
الخلفية التاريخية
الاحتجاجات الحالية ذات خلفية تاريخية، إذ أدّت خلافات مماثلة بين الجزر الكثيرة العدد إلى نشر قوة لحفظ السلام بقيادة أستراليا، بين عامي 2003 و2017. كما اندلعت أعمال شغبٍ في أعقاب الانتخابات العامة في عام 2006.
وبحسب تقاريرٍ إعلاميةٍ ميدانيةٍ، أتى معظم الذين تظاهروا خلال الأيام الثلاثة السابقة في العاصمة هونيارا من جزيرة مالايتا المجاورة، التي لطالما شكا أهلها تهميشَ الحكومة المركزية لهم. كما عارضت الحكومة المحلية في الجزيرة بشدة قرار الحكومة المركزية إلغاء الاعتراف الدبلوماسي السابق بتايوان دولةً مستقلة، في خطوةٍ يقف وراءها رئيس الوزراء ماناسيه سوغافار، الذي يقول منتقدوه إنه "مقرَّبٌ جداً إلى بكين".
العلاقة بالصين
ما يزيد في أهمية ما يحدث في جزر سليمان، في هذه الفترة تحديداً، أنه ذو تأثيراتٍ وتداعياتٍ خارجيةٍ غير خافية. فهذه الجزر تقع عند أطراف بحر الصين الجنوبي، بكل ما تحويه هذه المنطقة من توترات وتصادمات إقليمية ودولية، واستعدادات دفاعية صينية تحسّباً لأيِّ تدهورٍ في الأوضاع مع الولايات المتحدة، التي لا تتوقف عن إرسال حاملات طائراتها للإبحار على مقربة من الشواطئ الصينية المطلّة على بحرها الجنوبي.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الجزر كانت تربطها علاقاتٌ دبلوماسيةٌ بتايوان، المقاطعة الصينية التي تحاول الحصول على استقلالها بتحريضٍ من الولايات المتحدة ودول الغرب، إلى أن أعلنت الحكومة عام 2019 إقامة علاقاتٍ دبلوماسيةٍ بالصين.
ورفضت المعارضة في جزر سليمان الاتفاق مع الصين، ونظّمت احتجاجات في الشارع، لكنها تصاعدت أخيراً وتطورت الى أعمالِ شغبٍ، تسبّبت بالوصول إلى ما نحن عليه اليوم، بحيث هاجم آلاف الأشخاص الحيَّ الصيني في العاصمة هونيارا، مسلَّحين بفؤوسٍ وسكاكين، الأمر الذي دفع الصين إلى المطالبة بـاتّخاذ كل الإجراءات الضرورية لتأمين الحماية لرعاياها.
وتمَّ هدم مساحة كبيرة من الحيّ الصيني نفسه احتجاجاً على نتائج انتخابات عام 2006، وذلك بعد اتهامات بـ"نشاطات تجارية مرتبطة ببكين قامت بتزوير النتائج"، بحسب المعارضة.
"خطوط التقسيم الجديدة"
ترافق تحرّك الشارع في جزر سليمان مع مجموعة من الأحداث على مستوى العالم، لا وجود أو دور لهذه الجزر المتناثرة في مياه المحيط الواسعة في أيٍّ منها، لكنَّ صراع النفوذ بين الدول الكبرى دفعها إلى قلبها.
وسنشير إلى حدثين وقعا مؤخراً، نذكرهما بحسب تسلسل وقوعهما الزمني:
توقيع معاهدة "أوكوس"
في الـ 15 من أيلول/سبتمبر الماضي، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية تشكيل تحالفٍ أمنيٍّ استراتيجيّ في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ، يضمّها إلى كلٍّ من بريطانيا وأستراليا.
أتى إعلان هذه المعاهدة الأمنية، والتي تمَّ إطلاق اسم "أوكوس" عليها، خلال قمةٍ افتراضيةٍ استضافها الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، وشارك فيها عبر الفيديو كلّ من رئيسَي الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والأسترالي سكوت موريسون. والثمرة الأولى لهذا التحالف ستكون حصول أستراليا من بريطانيا على أسطول من الغواصات التي تعمل بالدفع النووي.
في حينها، أثارت هذه المعاهدة، وتحديداً البند المتعلّق بالغواصات البريطانية، احتجاج فرنسا التي خسرت المليارات، وهي التي كانت اتفقت مع الحكومة الأسترالية على توريد غواصاتٍ تقليديةٍ إليها. لكنَّ الصين هي المستهدَف الأول من توقيع هذه المعاهدة، التي تلتفّ عليها لتطوّقها من جنوبي بحرها الجنوبي، مع دخول أستراليا فيها وحصولها على الغواصات النووية ذات التقنية المتطورة، وهذا ما يجعل الاحتجاجات في الجزر القريبة من أستراليا، وذات النفوذ الصيني القوي والحكومة القريبة من الصين، لا تخرج من إطار ما يسمّيه الروس "خطوط التقسيم الجديدة"، وهم المعنيون بكل ما يعني الصين. وما يجري في دول أوروبا الشرقية ما زال يتطور، ويشهد يوماً بعد يوم مزيداً من محاولات التطويق وحدِّ النفوذ الغربية.
"قمة الديمقراطية" الأميركية
قبل 3 أيامٍ، وجّه الرئيس الأميركي جو بايدن دعوةً إلى 110 دول لحضور "قمة الديمقراطية"، وهو اجتماع جديد يُعقَد في دورته الأولى، بصورة افتراضيّة، يومَي الـ9 والـ10 من كانون الأول/ديسمبر المقبل.
اللافت أنَّ الدعوة استثنت دولاً كبرى في العالم، كروسيا والصين، وأخرى تُصنَّف على أنها "حليفة" للولايات المتحدة، من دول عربية كالسعودية ومصر والإمارات وقطر، وأخرى غير عربية كتركيا. لكن، في المقابل، شملت الدعوة "دولاً" - بحسب التصنيف الأميركي - كتايوان.
وتعليقاً على هذه الخطوة الأميركية، وصفت روسيا هذه القمة بأنها "محاولة أميركية لإنشاء خطوط تقسيم جديدة"، بينما عارضتها الصين بشدّةٍ بسبب دعوة تايوان إلى المشاركة فيها.
وعلّق المتحدث باسم وزارة خارجيتها، تجاو ليجيان، بأنّه "ليس لتايوان مكانة أخرى في القانون الدولي غير مكانتها كجزءٍ لا يتجزّأ من الصين".
ما سبق من توظيف الظروف الداخلية، والخاصة ببلدٍ لم يسمع به كثيرون، وإن فعلوا فهم لا يعرفون موقعه في الخريطة، في حساباتٍ أكبر من حجم البلد ومطالب أهله، مضافاً إليها المعاهدات الجديدة، ومنها قبول إيران عضواً كامل العضوية في "منظمة شنغهاي للتعاون" في أيلول/سبتمبر الماضي، وهي المنظمة التي تتزعمها كلٌّ من الصين وروسيا؛ كل ذلك يُعيد إلى الذاكرة فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، والتي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وانتهت في أواخر عقد الثمانينيات بسقوط الاتحاد السوفياتي، وسيطرة القطب الواحد.
لكن، مع عودة روسيا إلى شيءٍ من قوتها السالفة، وتحقيق انتصارات في مواجهة الغرب سواء في جورجيا سنة 2008، واستعادة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا سنة 2014، ودعم متمردي إقليم دونباس الشرقي، وكذلك مع تعاظم القوة الاقتصادية والتمدد الدولي للصين، يبرز التساؤل عن إمكان دفع الولايات المتحدة العالم إلى حربٍ باردةٍ جديدةٍ، تبدأ باتخاذ الدول الصغيرة وَقوداً لها، ولا تسخن إلاّ بها؟