سباق جديد في الفضاء.. "حلم الأغنياء" يقود العالم
تغيرت الكثير من معارفنا حول الفضاء منذ تخطي يوري أليكسيفيتش غاغارين خط كارمان لأول مرة في التاريخ، بينها أهداف اكتشاف الفضاء.. من الحرب الباردة إلى سباق البارونات هذه هي قصة استعمار الفضاء.
"اخترنا الذهاب إلى القمر" قال الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي عام 1962، في خطاب شاعري معبّر عن حقبة من الصراع المحموم لاكتشاف الفضاء. تحدث كنيدي يومذاك بلسان المؤسسات الأميركية كافة عن بلوغ القمر "لا لأن ذلك سهل بل لأنه صعب؛ فهذا الهدف سيعمل على تنظيم أفضل طاقاتنا ومهاراتنا"، وفق تعبيره، وهو الأمر الذي سيعزز نقاط القوة الأميركية في المواجهة الشاملة مع قوى المعسكر الشرقي.
أشياء كثير تغيرت منذ زمن كنيدي، بينها تراجع المؤسسات الحكومية (بما في ذلك وكالة الفضاء الأميركية) وتقدّم الشركات الخاصة ورجال الأعمال، إلى حدّ بلوغ صافي ثروة 3 أثرياء أميركيين هم: جيف بيزوس، وإيلون ماسك، وريتشارد برانسون، نحو 400 مليار دولار أي ما يعادل تقريباً حجم الناتج المحلي الإجمالي لإيرلندا.
لكن الأهم من حجم الثروة هو دخول هؤلاء الثلاثة إلى جانب آخرين في صناعات كانت، حتى الأمس القريب، تعد حكومية أو عسكرية، واستخدام أموالهم الطائلة في التخطيط لمستقبل البشرية، والركض خلف أحلام شخصية تقترب من أدب الخيال العلمي، وتتمثل باستعمار المريخ أو بناء فنادق فضائية أو الاستثمار في السياحة بالعالم الخارجي، خالقين بذلك سباقاً حديثاً يقوم فيه الرجال الأثرياء - وليس البلدان - بالتقاط النجوم.
من حلم الدولة إلى حلم الطفل: "لماذا لا يذهبون إلى هناك؟"
1- الإنسان في الفضاء
12 نيسان/أبريل 1961، في الساعة 9 و7 دقائق صباحاً، بتوقيت موسكو. تم إطلاق صاروخ "فوستوك 1" من محطة "بايكونور" الفضائية، والحامل مركبةً فضائية سوفيتية وعلى متنها رجل واحد إلى مدار أرضي منخفض.
كان الرجل هو يوري أليكسيفيتش غاغارين الفتى الذي أدهشه الهبوط الشاق لطائرة "ياك" السوفياتيه أثناء الغزو الألماني لبلاده، والذي كبر ليقضي 108 دقيقة في مدار الأرض، في دورة كاملة حولها، ليصير بذلك أول إنسان يصعد إلى الفضاء.
نُظر للرحلة بأنها أكثر من مجرد تجربة لطيار عسكري في الجيش الأحمر وإنما انتصار كبير للسوفييت في سباقهم البارد مع الولايات المتحدة نحو الفضاء، والذي انتهى بتقدّم الأخيرة بعد نجاح نيل آرمسترونغ بالنزول لأول مرة على سطح القمر، في 21 تموز/يوليو 1969، عبر المكوك "أبولو 11".
"إنها خطوة إنسان صغيرة، ولكنها قفزة عملاقة للبشرية"، هذا ما قاله آرمسترونغ عند هبوطه على القمر، فاتحاً بذلك عصر "الإنسان الجبار" القادر على الوصول إلى كواكب وأجرام سماوية غير الأرض، وملهماً برحلته المشتركة مع باز ألدرين ومايكل كولينز الكثير من كتّاب روايات الخيال العلمي ومؤلفي الأغاني وصنّاع الأفلام ليحكوا عن العالم الجديد الذي ينتظر البشر في رحلاتهم الجديدة.
بدأ السباق بين القوتين العظيمتين آنذاك على الصعود إلى الفضاء عبر رحلات مدارية وإطلاق الأقمار الصناعية، لكنها تطورت ليصبح الهدف منها إرسال رحلات مأهولة، ما فرض استحداث صناعات متعلقة بصناعة الصواريخ والكبسولات وأنظمة الاتصال عبر الفضاء، وإنشاء برامج ووكالات فضائية كبرى مثل "برنامج الفضاء السوفييتي" ووكالة "ناسا".
ضمت برامج الفضاء للسوفيات والأميركيين عشرات آلاف المهندسين والمختصين، بما في ذلك بعض العلماء والمهندسين الألمان الفارين بعض هزيمة النازية، وتضاعفت كلفتها مع احتدام المنافسة، فارتفعت ميزانية "ناسا" من 744 مليون دولار عام 1961 (ما يعادل اليوم 5.9 مليار دولار)، إلى 4.17 مليار (حوالي 32 مليار دولار حاليا)، عام 1964.
2- الأغنياء في الفضاء
نحو 10 أيام تفصل بين رحلتي ريتشارد برانسون وجيف بيزوس إلى الفضاء. ستتيح هذه الأيام لوكالات الأخبار ووسائل الإعلام تغطية أفضل للرحلات التي يقودها مليارديريان، والتي ستكون بدايةً لمشاريع سياحية ذات وجهة جديدة: الفضاء الخارجي.
عاد الملياردير برانسون البالغ 70 عاماً، يوم الأحد، إلى الأرض بعد رحلته إلى الفضاء التي اختبر خلالها انعدام الجاذبية لدقائق قليلة في مركبة من صنع شركته "فيرجن غالاكتيك" التي أسسها قبل 17 سنة. أقلعت طائرته من قاعدة "سبايسبورت" في ولاية نيو مكسيكو، وحلقت نحو 50 دقيقة قبل أن تطلق المركبة المعلقة أسفلها والتي شغلت محركها الخاص حتى بلغت الفضاء، لتعود إلى الأرض بعد بضع دقائق دون مشاكل.
"أردت الذهاب إلى الفضاء منذ كنت طفلاً، وآمل أن أمكّن مئات الآلاف من الوصول إلى الفضاء خلال المئة عام المقبلة"، قال برانسون الذي يتربّع فوق نحو 5 مليارات دولار.
وأضاف متسائلاً: "لماذا لا يذهبون إلى هناك؟ الفضاء شيء غير عادي، والكون رائع. أريد أن ينظر الناس إلى أرضنا الجميلة من الأعلى، ويعملوا بجهد من أجل جعلها ساحرة والاعتناء بها".
يطمح برانسون عبر شركته "فيرجن غالاكتيك" لإطلاق قطاع السياحة الفضائية اعتباراً من العام 2022، بمعدل 400 رحلة في العام، من قاعدة "سبايسبورت".
برانسون لم يكن أوّل من يسافر إلى الفضاء من أصحاب المليارات، فقد سبقهما الأميركي من أصل مجري تشارلز سيموني ومن ثم مؤسس سيرك دو سوليي الكندي غي لاليبرتيه اللذان أمضيا أياماً عدة في محطة الفضاء الدولية في 2007 و2009 على التوالي بعدما انطلقا بواسطة صاروخ "سويوز" روسي، وهو لن يكون الأخير، فقد دفع نحو 600 شخص حتى الآن ثمن بطاقة السفر إلى الفضاء بسعر يراوح بين 200 و250 ألف دولار.
أما بيزوس فسينطلق بعد 15 يوماً فقط من استقالته من منصب الرئيس التنفيذي في شركته "أمازون" إلى الفضاء عبر مركبة "نيو شيبرد" الفضائية التي صنعتها شركته "بلو أوريجين"، في رحلة ستستمر 11 دقيقة.
أسس بيزوس "بلو أوريجين" عام 2000 أي بعد 6 سنوات من تأسيسه "أمازون"، لكن الشركة حافظت على تقدم بطيء في بداية الألفية، متخذة السلحفاة كـ"تميمة" بحسب بيزوس، ورافعةً شعاراً لاتينياً ينبئ بالطريق الطويل والمليء بالعثرات الذي ينتظر الرحلات المأهولة: "gradatim ferociter" أي "خظوة بخطوة، بشراسة".
سيُقلع صاروخ "نيو شيبرد" عمودياً من صحراء في غرب تكساس، يوم الثلاثاء المقبل، لتنفصل عنه الكبسولة على علو حوالى 75 كيلومتراً، وتواصل صعودها لتتجاوز خط كارمان الواقع على ارتفاع 100 كيلومتر والذي يمثّل الحدود بين الغلاف الجوي الأرضي والفضاء.
وسيتمكن الركاب الأربعة، وهم شقيق بيزوس ورائدة طيران عمرها 82 عاماً ويافع مهتم بعلم الفضاء عمره 18 عاماً، من السباحة في ظل انعدام الجاذبية 3 دقائق ومراقبة انحناء كوكب الأرض. وفي غضون ذلك، يعود الصاروخ نزولاً ويهبط عمودياً أيضاً برفق على مدرج، فيما تبدأ الكبسولة عملية سقوط حر للعودة إلى الأرض، على أن تبطئ سرعتها 3 مظلات كبيرة وصواريخ كابحة قبل أن تهبط في الصحراء.
عندما كان بيزوس في سنّ المراهقة قال إنه يحلم ببناء فنادق فضائية ومستعمرات تتسع لملايين الأشخاص، وهو حلم يبدو أنه راود كثيرين تحت تأثير أفلام "غزو الفضاء" وقصص الخيال العلمي التي أعجب بيزوس مثلاً بكاتبها نيل ستيفنسون. لكن مثل هذه الأحلام لا تبتعد عن حسابات الأرقام، وبيزوس الذي عمّل محللاً مالياً في بداية مسيرته المهنية ثم صار متربعاً على ثروة صافية تبلغ 187 مليار دولار يفقه الكثير بالاستثمار وتحويل الخيال إلى مشروع تجاري.
استطاع بيزوس تمويل شركته بمليارات الدولارات عبر أسهم "أمازون"، وعبر عقود خاصة مع القوات الجوية للجيش الأميركي ووكالة "ناسا"، أي أن الشركة الناشئة لم تضف إلى ثروة بيزوس شيئاً إلى الآن، لكن ذلك قد يتغير في حال نجح الملياردير الأميركي في جعل السياحة في الفضاء ممكنة أو نقل الصناعات الثقيلة إلى خارج الأرض، كما يخطط، أو بناء مركبات "بلو موون" بالتعاون مع "ناسا" والتي ستحط على سطح القمر بحلول 2024.
يصف إيلون ماسك نفسه بأنه "كائن فضائي". صاحب شركة "تسلا" لصناعة السيارات الكهربائية ومؤسس شركة "سبيس إكس" التي نجحت في صناعة صواريخ وكبسولات فضائية قابلة للاستخدام عدة مرات، هو واحد من أبرز الأثرياء الذين ينافحون عن فكرة استعمار الفضاء وبناء مستعمرات بشرية على سطح المريخ.
أسس ماسك "سبيس إكس" عام 2002، قبل سنوات من أن يصبح الرئيس التنفيذي لشركة "تسلا"، والتي نشأت من فكرة إرسال مركبة فضائية تسمى "واحة المريخ" إلى الكوكب الأحمر، لتوفير مساحة خضراء تجريبية والتقاط صور للكوكب وإرسالها إلى الأرض.
ونفذت الشركة منذ تأسيسها العديد من عمليات الإطلاق لأهداف تجارية وحكومية، وفي عام 2012 أصبحت أول شركة خاصة ترسل مركبة فضائية إلى محطة الفضاء الدولية. وفي عام 2020، أصبحت أول من يرسل رواد فضاء إلى محطة الفضاء الدولية.
ويدعي ماسك أن شركته يمكنها الهبوط على القمر فى غضون السنوات الـ3 المقبلة، حيث اختارت وكالة "ناسا" الشركة للمشاركة في بناء مركبة الهبوط على سطح القمر ضمن برنامج "أرتميس" الذي تشارك فيه "بلو أوريجين" أيضاً التابعة لبيزوس.
ستعتمد "ناسا" مركبة "ستارشيب" الخاص بالشركة لنقل رواد فضاء إلى سطح القمر، حيث يتوقع أن يجري إطلاق النسخة التجريبية الأولى للسفينة خلال العام الجاري.
تعد شركة ماسك رائدة في صناعة الصواريخ، فقد نجحت ببناء صواريخ قابلة للاستخدام مرات عدّة ما يقلل من تكاليف الرحلات الفضائية، كما وتتمتع "سبيس إكس" بتاريخ طويل وناجح في إطلاق حمولات تتجاوز 100 كيلومتر (خط كارمان).
واحدة من هذه الحمولات كانت سيارة ماسك نفسه، التي أطلقتها "سبيس إكس" إلى الفضاء، عام 2018، عبر صاروخ ثقيل من نوع فالكون (Falcon-Heavy)، والتي حلقت على بعد 7 ملايين كيلومتر من المريخ.
وأعلنت شركة "سبيس إكس" أنها ستطلق مهمة مدنية بالكامل في المدار بحلول نهاية العام، حيث يدور الركاب حول الكوكب لمدة تصل إلى 4 أيام قبل العودة إلى الأرض، لكن ماسك لم يعلن أنه سيشارك في مثل هذه الرحلات بعد وإنما حجز تذكرة ضمن رحلات برانسون المقبلة.
الجوع يحصد الملايين.. "ابقوا في الفضاء"
تلقى الأثرياء الثلاثة انتقادات عدة نتيجة تكريس أموالهم الطائلة لتحقيق أحلامهم الشخصية ومآربهم التجارية، في وقت يواجه العالم أزمات عدة بينها الاحتباس الحراري وتفاقم التداعيات المأساوية لوباء فيروس كورونا.
أكثر من 12 ألف شخص وقّعوا مؤخراً على عريضة تطالب برفض عودة جيف بيزوس من رحلته الفضائية إلى الأرض، لأنه "في الواقع ليكس لوثر (عدو سوبرمان الهادف لإفناء البشرية)، متنكراً في زي المالك المفترض لمتجر بيع بالتجزئة ناجح للغاية".
وتابعت العريضة: "إنه في الواقع زعيم شرير شديد الهيمنة على العالم… لقد عرفنا ذلك منذ سنوات".
Is anyone else alarmed that billionaires are having their own private space race while record-breaking heatwaves are sparking a 'fire-breathing dragon of clouds' and cooking sea creatures to death in their shells?
— Robert Reich (@RBReich) July 8, 2021
وطالب آخرون بتخصيص 6 مليارات دولار من أموال هؤلاء الأثرياء لحفظ حياة 41 مليون شخص سيموتون من الجوع في 43 دولة حول العالم، حسب برنامج الغذاء العالمي، وذلك قبل التخطيط لبناء مستعمرات خارج الأرض لن تتمكن إلا أقلية صغيرة من الأغنياء شراء تذكرة الوصول إليها بعد استهلاك ثروات الأرض وتركها منكوبة.
Hey, @RichadBranson, @elonmusk and @JeffBezos, so excited to see you compete on who gets to space first! BUT, I would love to see you TEAM up together to save the 41 million people who are about to starve this year on Earth! It only takes $6 Billion. We can solve this quickly! https://t.co/y5YeJwoWao
— David Beasley (@WFPChief) June 26, 2021