تدهور الصناعات العسكرية الأميركية.. مخزون حربي قد لا يصمد لأيام

الولايات المتحدة الأميركية معرّضة لفشل استراتيجي في أي صراع مستقبلي، مع عدم القدرة على الحفاظ على القوة التي تمتلكها، في ظل تراجع الإنتاج الحربي الأميركي.

  • تدهور الصناعات العسكرية الأميركية.. مخزون حربي قد لا يصمد لأيام
    واشنطن باتت تدرك أوجه القصور في الإنتاج الحربي الأميركي

أيقظت المواجهة الأطلسية - الروسية، القيادات العسكرية للولايات المتحدة، على شيء مثير للقلق. فقد أظهر الصراع الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية أن القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، التي صنعت العتاد العسكري والأسلحة التي أنتجت النصر في عام 1945، غير كافية للعالم، بعد ما يقرب من ثمانية عقود.

ليس هذا فحسب، فالحرب الأوكرانية أسقطت أيضاً، نظرية الحروب الصناعية الأميركية – تكون فيها القدرات التصنيعية الشاملة للدول المتحاربة حاسمة - التي قامت قبل 32 عاماً، أي خلال حرب الخليج الثانية، نتيجة تركيز مخطّطي الدفاع الأميركيين، على سيناريوهات الحروب القصيرة والتطور المتناسب للجيش المبني على منصات عالية التقنية، وهو ما سيعرّض الولايات المتحدة لفشل استراتيجي محتمل في أي صراع مستقبلي، مع عدم القدرة على الحفاظ على القوة التي تمتلكها. 

الإنتاج الحربي الأميركي وحروب الاستنزاف الطويلة

في الواقع، برزت هذه المشكلة بشكل حاد في السنوات القليلة الماضية عندما تحوّلت الأزمة الأوكرانية إلى حرب مطوّلة، استنزفت مخزونات الذخيرة الأميركية (في الأشهر الثمانية الأولى للحرب، أحرقت القوات الأوكرانية ما يعادل 13 عاماً من صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات، وخمس سنوات من صواريخ "جافلين"، وفقاً لشركة "رايثيون"، التي تنتج كِلا السلاحين).

ومع تقلّص القاعدة الصناعية الأميركية منذ الحرب الباردة، بدأت واشنطن تدرك فجأة، أوجه القصور في الإنتاج الحربي الأميركي والتي تشمل: مكوّنات محركات الصواريخ الصلبة، وأغلفة القذائف، والأدوات الآلية، والصمامات، والمواد الأولية للوقود والمتفجرات، والتي يتم تصنيع الكثير منها في الصين والهند. علاوة على ذلك، يعاني الإنتاج الحربي، من نقص شديد وحاد في العمالة الماهرة، وضعف في منحنى التعلّم.

كيف كانت أرقام الإنتاج العسكري الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية؟

في الحقيقة، مرّ وقت طويل عندما كانت الولايات المتحدة، قوّة متفوقة وحازمة في صناعة المواد الحربية الحاسمة، وتقوم بمثل هذه الأشياء بسرعة. ففي عام 1939، احتلّ جيش الولايات المتحدة المرتبة التاسعة والثلاثين في العالم، حيث كان يمتلك قوة من سلاح الفرسان قوامها 50 ألفاً، ويستخدم الخيول لسحب المدفعية.

غير أن الأمور ما لبثت أن تطورت لاحقاً بشكل لافت، إذ أدى الإنتاج الحربي إلى تغيير الصناعة الأميركية بشكل عميق. فقد أطلقت واشنطن عدداً من السفن الحربية في عام 1941، أكبر مما فعلت اليابان طوال الحرب بأكملها. ولهذا، تحوّلت أحواض بناء السفن إلى ورش سريعة جداً لدرجة، أنه بحلول خريف عام 1943، تم استبدال جميع سفن الحلفاء الغارقة منذ عام 1939. وبحلول العام 1944 وحده، صنعت الولايات المتحدة أقل من 13000 طائرة، أكثر مما صنعه اليابانيون في الفترة من عام 1939 إلى عام 1945. 

أكثر من ذلك، في السنوات الثلاث التي تلت معركة ميدواي (من أهم المعارك البحرية في الحرب العالمية الثانية بين واشنطن وطوكيو)، قام اليابانيون ببناء 6 حاملات طائرات، في حين صنعت الولايات المتحدة 17 حاملة.

كما قدّمت الصناعة الأميركية ما يقرب من ثلثي جميع المعدات العسكرية للحلفاء التي تم إنتاجها خلال الحرب، وقد تضمّنت: 297 ألف طائرة، و193 ألف قطعة مدفعية، و86 ألف دبابة، ومليوني شاحنة عسكرية.

زد على ذلك، أنه مع بداية آب/أغسطس 1945، أي مع نهايه الحرب، وبعد إنتاج 6 ملايين طن من القنابل، و41 مليار طلقة ذخيرة لـ20 مليون بندقية وأسلحة صغيرة، و100 ألف دبابة ومركبة مدرعة، و1500 سفينة للبحرية و5600 سفينة تجارية، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وكان أكثر من نصف الإنتاج الصناعي في العالم يتم في هذا البلد.

ماذا تقول التقارير الحالية عن تراجع الإنتاج الحربي الأميركي؟ 

عملياً، يبلغ حجم القوة العاملة في مجال الدفاع في الولايات المتحدة حالياً، ثلث ما كان عليه في عام 1985، خلال فترة التزايد في عهد الرئيس رونالد ريغان، عندما كان الإنفاق الدفاعي يبلغ نحو 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي، أما اليوم فهو يقدّر بـ3.1%.

إضافةً إلى ذلك، وفي مرحلة ما، اختفت 1000 وظيفة في مجال الدفاع المدني كل يوم. وفي تسعينيات القرن الماضي، كان لدى الولايات المتحدة 51 مقاولاً رئيسياً في مجال الطيران والدفاع. فيما اليوم لديه خمسة. كما انخفض عدد الشركات المصنعة للطائرات من 8 إلى 3. وفي الوقت نفسه، فإن 90% من الصواريخ، تأتي الآن من 3 مصادر.

وفي السياق ذاته، يتحدث تقرير جديد أصدرته "الرابطة الوطنية للصناعات الدفاعية" الأميركية، في 8 شباط/فبراير 2023، عن تضاءل عدد الأشخاص الذين يعملون في الصناعات الدفاعية، من 3 ملايين شخص، في عام 1985، إلى نحو 1.1 مليون فقط هذا العام.

وإذ يكشف التقرير أيضاً، عن خسارة "النظام البيئي الدفاعي" في السنوات الخمس الماضية صافي 17.045 شركة، (إما خرجوا من العمل والقطاع برمته، أو جرى استيعابهم في شركات أخرى)، تقدّر وزارة الدفاع الأميركية، أن عدد الشركات الصغيرة التي تعمل لصالح البنتاغون انخفض بنسبة 40% في السنوات الـ 10 الماضية، على الرغم من مجموعة متزايدة من البرامج المصمّمة خصوصاً لجذبها والاحتفاظ بها. فالشركات التجارية، تشعر بالقلق من تشابك القواعد والقيود في البنتاغون.

وبالمثل تظهر الأبحاث التي أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أن الإنتاج الحالي للمصانع الأميركية قد يكون غير كافٍ لمنع استنفاد مخزونات المواد الرئيسية التي توفّرها الولايات المتحدة لأوكرانيا. وحتى بمعدلات الإنتاج المتسارعة، من المرجح أن يستغرق الأمر 5 سنوات على الأقل، لاستعادة مخزون صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات، وصواريخ ستينغر أرض-جو" وغيرها من العناصر المطلوبة. فضلاً عن ذلك يخطط الجيش الأميركي لزيادة إنتاجه للقذائف من طراز 155 ملم، من نحو 14 ألفاً شهرياً الآن، إلى 30 ألفاً الربيع المقبل، وفي النهاية إلى 90 ألفاً.

بالمقابل، تتطرّق دراسة، سابقة أجراها مركز أبحاث في واشنطن، إلى مشكلة أكثر انتشاراً وهي: أنّ بطء وتيرة الإنتاج الأميركي، يعني أن الأمر سيستغرق ما يصل إلى 15 عاماً، عند مستويات الإنتاج في وقت السلم. وأكثر من 8 سنوات بوتيرة الحرب، لاستبدال مخزونات أنظمة الأسلحة الرئيسية، مثل الصواريخ الموجّهة والطائرات الحربية والمسيّرة، إذا تم تدميرها في المعركة أو التبرع بها للحلفاء.

واستناداً لمارك كانسيان، ضابط مشاة البحرية المتقاعد وخبير الدفاع في "CSIS"، فإن وتيرة الإنتاج في المصانع الأميركية، تُفسّر أن استبدال الأسطول الأميركي من طائرات الهليكوبتر "UH-60 Black Hawk"، سيستغرق أكثر من 10 سنوات، ونحو 20 عاماً لتحديث مخزون "صواريخ جو-جو" متوسطة المدى متطورة. وما لا يقل عن 44 عاماً، قبل أن يتمكن البنتاغون من استبدال أسطوله من حاملات الطائرات.

علاوة على ذلك، وفيما تمتلك بكين ما يصل إلى 50% من صناعة بناء السفن العالمية، لدى الولايات المتحدة أقل من 1% فقط. وبموجب قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2018، طلب الكونغرس من البحرية زيادة عدد سفنها القتالية إلى 355 (هي أقل من 300 قطعة) في أقرب وقت ممكن عملياً.

كذلك، تقوم الولايات المتحدة حالياً ببناء 1.2 غواصة فقط سنوياً (على الرغم من توصية الكونغرس باثنتين سنوياً)، إضافة إلى أنّ ميزانية بايدن المالية لعام 2024 تتضمن بناء 9 سفن قتالية جديدة.

وفي هذا السياق، يوضح خبراء أميركيون، أنه بالرغم من وضع وزارة الدفاع الأميركية خططاً لبناء قطع بحرية إضافية، لموازنة الصين، لكن ذلك لن يكون ممكناً لعقود من الزمن، وربما حتى خمسينيات القرن الحالي.

أما السبب، فيعود لعدم قدرة واشنطن على زيادة الإنتاج الدفاعي، بحسب كريستيان بروس، المستشار السياسي الكبير السابق للسيناتور جون ماكين الذي نقل عن الأخير قوله: "يمكننا الآن إنفاق تريليون دولار سنوياً على ميزانية الدفاع، ولن نحصل على زيادة ذات معنى في القدرات العسكرية التقليدية في السنوات الخمس المقبلة". الجدير بالذكر أن ميزانية الدفاع المالية للعام 2024، تبلغ نحو 842 مليار دولار.

تأثير انخفاض الصناعات الدفاعية على الحروب الأميركية

خلال السنوات القليلة الماضية، أجرى الأميركيون عدة اختبارات محاكاة لحرب مع الصين، وكان آخرها في نيسان/أبريل الماضي من قبل اللجنة المختارة في مجلس النواب المعنية بالمنافسة مع بكين. وفي كل مناورة، تستخدم الولايات المتحدة جميع صواريخها جو-أرض بعيدة المدى في غضون أيام قليلة، مع تدمير جزء كبير من طائراتها على الأرض.

وتعقيباً على ذلك، أشارت صحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أنه في حالة الحرب مع روسيا أو الصين، "يمكن استخدام مخزون الأسلحة الدقيقة في غضون ساعات أو أيام".

وانطلاقاً مما تقدّم، ووفقاً للعديد من خبراء الدفاع الأميركيين، إن الفشل في ردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والضغط الذي فرضه ذلك على القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، يدقان ناقوس الخطر بشأن الموقف العسكري الأميركي تجاه تايوان. 

في المحصّلة، يلخّص بعض الخبراء العسكريين التداعيات الخطيرة على أميركا لقضية ضعف الصناعات الدفاعية، باستعارة مقولة الجنرال الأميركي المعروف دوغلاس ماك آرثر، الذي قال يوماً: "كلّ الكوارث العسكرية يمكن تفسيرها بكلمتين: فات الأوان؛ فات الأوان لتمييز الخطر، وفات الأوان للردّ".

اخترنا لك