بعد سنوات من التساهل معها.. "إسرائيل" تغدر بموسكو
رغم كل "التساهل" الذي قدّمته روسيا في سبيل عدم إحراج تل أبيب في سوريا، "إسرائيل" تغدر بروسيا عند أول موقف حقيقي مرتبط بالأزمة في أوكرانيا.
"حان الوقت لأن تتخذ "إسرائيل"خيارها وتدعم أوكرانيا. لقد اتخذت أوكرانيا خيارها قبل 80 عاماً بإنقاذ اليهود. اللامبالاة تقتل. لا نحتاج إلى إقناعكم بأن تاريخ شعبنا مترابط، فكما واجهتم في الماضي، نواجه دماراً كاملاً للشعب والثقافة".
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتحدث عبر تطبيق "زوم" إلى الكنيست الإسرائيلي في الـ 20 من آذار/ مارس 2022.
حاولت "إسرائيل" منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بناء جدار من الحياد وتصنّع وجوده. فـالأزمة الأوكرانية تدور بين مَن تعتبرهما حليفين لها؛ مصالح متداخلة، وعلاقات قائمة على اتفاقات ومعاهدات وجاليات مشتركة.
وكانت المعضلة في كيفية قيام "إسرائيل" باحترام توازن القوى في علاقاتها بين الطرفين المتصارعين، والسير فوق جدار دقيق يفصل ما بين مساندة أحد الطرفين بحذر والحفاظ على مستويات مقبولة من العلاقات، والخطوط المفتوحة مع الطرف الآخر.
في بداية العملية الروسية لم يذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، روسيا بتاتاً، وقال إنه "صلّى من أجل السلام ودعا إلى الحوار". لكنه لم يلمّح إلى مشاركة موسكو، فضلاً عن إدانتها، خصوصاً أن "إسرائيل" في البداية طمعت بلعب دور الوسيط المبادر إلى حل الأزمة، لكن عندما فشلت هذه المساعي بدأت تغيّر سياساتها ولهجة تصريحاتها.
ولكن حتى مع بداية العملية العسكرية الروسية ظهرت أصوات إسرائيلية تقف علناً إلى جانب أوكرانيا، في ما عدّه البعض توزيعاً للأدوار... تُرك الأمر بدايةً لوزير الخارجية، يائير لابيد، لانتقاد موسكو في بيان منفصل. لاحقاً، بدأ الخطاب الإسرائيلي ضدّ روسيا يتكثف شيئاً فشيئاً. في الـ 24 من شباط/فبراير،قال نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير غولان: "لا مفرّ من اتخاذ موقف واضح من روسيا لا لبس فيه"، وأعلن الرئيس الإسرائيلي بوضوح "دعم أوكرانيا وإدانة الهجوم الروسي".
لاحقاً، تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن تدريبات عسكرية إسرائيلية سرّية لمدنيين أوكرانيين، والمؤسّسة الأمنية باركت هذه التدريبات ضمناً. اتُّهمت "إسرائيل" بأنها "ترقص في عُرسين" بعدم اتخاذ موقف واضح ضد روسيا، وبأنها "خائفة" من موسكو، لكنها اتخذت قراراً في النهاية، أو أنها تحاول أن تقوله جهاراً، واصطفّت إلى جانب أوكرانيا.
توالت التصريحات الإسرائيلية التي استهدفت روسيا ووقفت إلى جانب الأوكرانيين، وأتت أخيراً حفلة التصريحات والعقوبات التي شنّتها الدول الغربية ضد موسكو، بعد الاتهامات لها بارتكاب انتهاكات وإعدامات للمدنيين في بوتشا الأوكرانية. وكان آخر التصريحات الإسرائيلية ما نُقل أمس عن وزير الخارجية الإسرائيلي الذي اتهم روسيا "بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا"، وأدانها بشدة.
لم نسمع حتى ساعة كتابة هذه السطور رداً رسمياً روسياً على التصريحات الإسرائيلية، ولكن المنافذ غير الرسمية تناولت الموضوع؛ صحيفة زافترا الروسية عرضت مقالاً تحت عنوان "مهزلة القرن... سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتهم روسيا بارتكاب جرائم حرب"، تحدث فيه الكاتب عن الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وقال: "وزير الخارجية الإسرائيلي يدفعني دفعاً لكي أبحث عن صفحات المجازر الإسرائيلية، والتي اضطر هنا إلى الإشارة إلى أكبرها، لأن القائمة أكبر بكثير من أن نسردها هنا في هذا المقام. وليس ذلك بسبب أنها أقل أهمية أو قيمة، بل لكون الأعداد التي راحت ضحية لها أقل من المذابح التالية، التي أسوقها فقط للتدليل على كلمات وزير الخارجية الإسرائيلي، بأن العالم بالفعل يشهد أوقاتاً صعبة". وعرض بعدها لعشرات المجازر الإسرائيلية وعدد شهداء كل مجزرة.
ليختم مقاله بالقول: "بالفعل، لا تحتاج روسيا لا إلى نصائح الاستراتيجيين الغربيين، تماماً كما لا تحتاج إلى تعليق من وزير خارجية دولة الاحتلال ممن تلطِّخُ دماء الفلسطينيين أيديهم لسبعة عقود وأكثر".
هل غدرت "إسرائيل" بروسيا؟
عام 2019، نشرت مجلة "ذي ناشونال إنترست" الأميركية مقالاً يتساءل عمّا إذا كان من الممكن أن تؤدي الضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا إلى اندلاع حرب بين "إسرائيل" وروسيا. نسب الكاتب "مايكل باك" إلى مسؤول في الجيش الإسرائيلي تصريحه بأن "الإسرائيليين ليسوا مهتمين بروسيا أو بحلفائها"، قائلاً إن "روسيا ليست حليفتنا... الولايات المتحدة هي حليفتنا الوحيدة". وقال: إن الجيش الإسرائيلي لا يتفاخر بقدراته أمام روسيا، غير أن "إسرائيل" تعتبر نفسها قوية، وهو ما يجعل المعركة المحتملة بين "إسرائيل" وروسيا خطِرة للغاية. وتساءل الكاتب عمّا إذا كانت الولايات المتحدة ستضطر إلى التدخل في حال اندلعت حرب بين صديقتها "إسرائيل" وروسيا.
في الـ 30 من أيلول/سبتمبر 2015 أعلنت روسيا عن عملية عسكرية في سوريا. والهدف، كما قال الرئيس فلاديمير بوتين حينذاك، هو محاربة تنظيم "داعش". وأعلن المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، للصحافيين في الـ 5 من تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه أن العمليات الروسية في سوريا تهدف إلى دعم الجيش السوري واستهداف الإرهابيين والمتطرفين هناك. لكن "إسرائيل"، ورغم الحضور الروسي في سوريا، واصلت اعتداءاتها المتكررة على الأراضي السورية، لما تقول إنه أهداف إيرانية أو مرتبطة بحزب الله، من دون أن يتم الإبلاغ عن توتر أو اشتباك مع الروس، أو رسائل روسية للضغط من أجل وقف هذه الاعتداءات.
غالباً ما سالت دماء في كل مرة شنّت فيها "إسرائيل" اعتداءات على سوريا. أُعلن عدة مرات عن استشهاد عناصر من الجيش السوري، وفي بعض الأحيان عناصر من حزب الله أو مستشارين إيرانيين، وغالباً ما كانت تتسبّب الغارات بدمار لِبِنًى تحتية واستهداف مدنيين سوريين.
إسقاط الطائرة الروسية في اللاذقية... وتوتَر مؤقّت مع "إسرائيل"
كل هذه الاعتداءات لم تؤدِّ إلى توتر روسي إسرائيلي حقيقي، إلى أن جاءت ليلة الـ 23 من أيلول/سبتمبر عام 2018 حيث أسقطت الدفاعات الجوية السورية عن طريق الخطأ طائرة عسكرية روسية خلال تصديها لغارات إسرائيلية. وأدى الحادث إلى مقتل 15 جندياً روسياً كانوا على متن الطائرة. حمّلت وزارة الدفاع الروسية القوات الإسرائيلية كامل المسؤولية عن حادثة إسقاط طائرة استطلاع عسكرية روسية من طراز "إيل 20" على الساحل السوري مقابل محافظة اللاذقية غربيّ سوريا.
وقال المتحدث باسم الوزارة، إيغور كوناشينكوف، إن المعلومات التي وصلت من ممثّلة هيئة الأركان العامة للقوات الجوية الإسرائيلية كانت تفيد بأن "إسرائيل" سوف تُغير على مواقع في شمال سوريا بعد دقائق. ولكن بمرور دقيقة واحدة، شنّت أربع مقاتلات إسرائيلية "أف 16" غارات جوية على منشآت صناعية بمحافظة اللاذقية بقنابل "جي بي يو 39" موجّهة. واعتبر أنه بهذا التصرف، فإن الطرف الإسرائيلي قام بإخبار القوات الروسية بتنفيذ عمليته العسكرية ليس بشكل مسبّق، بل تزامناً مع بدء الغارات، ما يمثّل "انتهاكاً مباشراً للاتفاقيات الروسية الإسرائيلية الموقّعة عام 2015 للحؤول دون وقوع حوادث تصادم بين قواتنا المسلّحة في سوريا".
عدا عن هذا التصريح "القاسي" المباشر، لم تعلّق موسكو على الانتهاكات الإسرائيلية في سوريا، بل اكتفت بالتنديد من وقت إلى آخر، والإعلان أن "غارات إسرائيل على سوريا تشكّل خطراً على الطيران الدولي وتزيد الوضع في المنطقة تعقيداً"، أو التعبير عن رفضها "الهجمات غير الشرعية من قبل إسرائيل على سوريا".
في بعض الأحيان كانت موسكو ترفض بشكل قاطع الضربات الإسرائيلية، لكنها تعتبر في الوقت ذاته أن "الرد بقوة سيكون غير بنّاء، لأنه لا أحد يحتاج إلى حرب في أراضي سوريا".
تلقّت روسيا اتهامات عديدة غير رسمية حول تغطيتها أفعال "إسرائيل"، ووُضعت في مواقف محرجة لعدم التصويب على "إسرائيل" على حساب دماء سورية ولبنانية وإيرانية أُريقت بصواريخ إسرائيلية.
طهران أيضاً كانت لها حصة من الخسائر العسكرية والبشرية في سوريا، آخرها في الـ 8 من آذار/ مارس الماضي، أي بعد 13 يوماً على بداية العملية العسكرية في روسيا، حيث استُشهد ضابطان من حرس الثورة بقصف إسرائيلي قرب دمشق، ولم يأتِ التنديد الروسي سريعاً.
مع هذا، ورغم العقوبات المتسارعة على روسيا، زار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان موسكو، مؤكداً أن التعاون مستمر رغم العقوبات الغربية. ودعا الوزير الإيراني إلى "معالجة جذور الأزمة في أوكرانيا بطريقة دبلوماسية"، وأدان في الوقت نفسه العقوبات الغربية ضد روسيا.
غطّت روسيا بطريقة أو بأخرى الممارسات الإسرائيلية في المنطقة، رغم ذلك غدرت بها "إسرائيل" عند أول موقف حقيقي اختبرت فيه موسكو "الدول الصديقة"، فهل تدفع الأزمة الأوكرانية روسيا إلى مراجعة حساباتها، وتعيد تعريف قائمة الأصدقاء؟