انتشار الجيش الأميركي: هل واشنطن صادقة بشأن الدول التي تقاتل فيها؟
الجيش الأميركي ينتشر في أكثر من 50 دولة من أميركا الجنوبية، وصولاً إلى أفريقيا وشرق المتوسط. كلها دول يصل إليها الجنود بأهداف وذرائع مختلفة، وفي أحيانٍ كثيرة دون علم الكونغرس وجزء من القيادة الأميركية.
قبل أسبوعين، أرسل الرئيس الأميركي جو بايدن رسالةً إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ، تضمن تقرير وصفته الإدارة بأنه "يتوافق مع قرار سلطات الحرب"، ويهدف إلى "إبقاء الكونغرس على علمٍ بنشر القوات المسلحة الأميركية المجهزة للقتال".
يفوض قرار "سلطات الحرب" الرئيس بإبلاغ الكونغرس بأي قوات مسلحة أميركية متورطة في الأعمال العدائية في غضون 48 ساعة، كما يوجب عليه إرسال تقارير دورية إلى الكونغرس عن حالة الوضع أثناء بقاء القوات المسلحة في مهامها.
الوثيقة في حدّ ذاتها تؤكد وجود قوات أميركية في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن والصومال وكوسوفو ونيجريا وأماكن أخرى في العالم، مع تبرير العديد من العمليات العسكرية على أنها تدعم جهود الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب.
لكن خبراً خلال الأسبوع الماضي، كان بمثابة تذكير بأن هذه التقارير الروتينية في كثيرٍ من الأحيان، لا تروي القصة الكاملة للانخراط العسكري الأميركي في الخارج. مَثُل مواطن موريتاني متهم بلعب دور في هجمات إرهابية متعددة في مالي عام 2015 أمام محكمة اتحادية في بروكلين يوم السبت، وشملت التهم ضلوعاً له في هجوم وقع في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 على فندق "راديسون بلو" في باماكو قتل فيه مواطن أميركي.
وقد حكم على الإرهابي المشتبه به، فواز ولد أحمد ولد أحمد، من دون أن تتضح الظروف المحيطة بتسليمه إلى الولايات المتحدة. لكن وفقاً لتقرير صادر عن صحيفة "آرمي تايمز" في عام 2019، ونقلاً عن مسؤولي البنتاغون، فإنه "بعد وقوع الحادث، لم يشارك الأفراد العسكريين الأميركيين بشكل مباشر في العملية، وتركوا تطهير الفندق للقوات المالية"، لكن المفاجئة كانت أن "عميل خاص" في الجيش تلقى وسام "الخدمة المتميزة" وأقيم له تكريم لدوره في عملية طوارئ في الخارج تزامنت مع تاريخ الهجوم في باماكو.
بريان فينوكين، كبير مستشاري البرنامج الأميركي في مجموعة الأزمات الدولية قال في تغريدةٍ على تويتر "إن مشاركة القوات المسلحة الأميركية في هذه المهمة لم يتم إبلاغ الكونغرس به". وهو ما أظهرته قاعدة بيانات جمعها مشروع "الإبلاغ عن قرار سلطات الحرب في مركز ريس للقانون والأمن"، والتابع لكلية الحقوق بجامعة نيويورك. كما أظهر أن مالي لم يتم ذكرها مطلقاً في أي من التقارير غير السرية التي قدمت إلى الكونغس في غضون الـ48 ساعة.
الهجوم الذي حصل عام 2015 في مالي، كان واحداً من ثمانية حوادث حصل فيها تدخل أميركي في السنوات السبع الماضية، أي عبر ثلاث إدارات رئاسية، ضمن خمس دول أفريقية. وفيها كلها، فشلت السلطة التنفيذية عبر وزارة الدفاع في إبلاغ الكونغرس، كما يجب، خلال فترة الـ 48 ساعة المطلوبة، بحسب تقرير صدر مؤخراً عن مجموعة الأزمات الدولية.
من جهةٍ أخرى، تبين أن الجيش الأميركي، وفقاً لتقرير صدر أوائل هذا الشهر من قبل مركز "برينان" للعدالة التابع لكلية الحقوق بجامعة نيويورك، يعمل في بلدان أكثر مما تعتقد جزء من القيادة، وعموم المواطنين الأميركيين. وتبين أن وزارة الدفاع تستخدم ذريعة برامج "التعاون الأمني" في "الحروب السرية"، الذي يوصي الكونغرس بكبح جماحها.
"أفغانستان والعراق وربما ليبيا"، هذه هي البلدان التي سيعدها المواطن الأميركي العادي، إذا سألته أين كانت الولايات المتحدة في حالة حرب في العقدين الماضيين، وفقاً لتقرير بعنوان "الحرب السرية: كيف تستخدم الولايات المتحدة الشراكات والقوات بالوكالة لشن حرب تحت الرادار". لكن هذه القائمة صغيرة جداً، إذ انخرطت الولايات المتحدة في نزاع مسلح في ما لا يقل عن 17 دولة من خلال القوات البرية أو القوات بالوكالة أو الضربات الجوية، وفق التقرير نفسه.
لا علم للكونغرس بعمليات البنتاغون العسكرية
يذكر التقرير أن "هذا الانتشار للحرب السرية هو ظاهرة حديثة نسبياً، وهي خطيرة" كما إن سير "الأعمال العدائية غير المعلنة في البلدان غير المبلغ عنها" يتعارض مع تصميم واشنطن الدستوري. ويضيف أن هذا يدعو إلى تصعيدٍ عسكري لا يمكن التنبؤ به للجمهور والكونغرس وحتى للدبلوماسيين المكلفين بإدارة العلاقات الخارجية للولايات المتحدة.
ويركز التقرير المكون من 39 صفحة على ما يسمى ببرامج "التعاون الأمني" التي أذن بها الكونغرس بموجب تفويض وضع عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية. أحد هذه البرامج، المعروف باسم القسم "127 هـ" أذن لوزارة الدفاع "بتقديم الدعم للقوات الأجنبية أو القوات غير النظامية أو الجماعات أو الأفراد المشاركين في دعم أو تسهيل العمليات العسكرية الجارية المصرح بها من قبل قوات العمليات الخاصة الأمريكية لمكافحة الإرهاب".
ووفقاً للتقرير، فإن هذا "الدعم" قد تم تفسيره على نطاق واسع جداً من قبل البنتاغون. في الممارسة العملية، مكّن هذا التفسير، الجيش الأميركي من "تطوير والسيطرة على قوات محلية بالوكالة، لتقاتل نيابةً عن القوات الأميركية الأصلية وأحياناً إلى جانبها"، واستخدام القوّة المسلحة للدفاع عن شركائه المحليين ضد الخصوم (فيما يسميه البنتاغون "الدفاع الذاتي الجماعي")، بغض النظر عما إذا كان هؤلاء الخصوم يشكلون أي تهديد لأراضي الولايات المتحدة أو أشخاصها.
على سبيل المثال، لجأت القوات الأميركية في الصومال عام 2016، إلى "الدفاع الذاتي الجماعي"، لشن ضربة ضد ميليشيا منافسة لقوة أمن "بونتلاند"، وهي لواء نخبة تم تجنيده وتدريبه وتجهيزه في الأصل من قبل وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وصار تحت سيطرة البنتاغون لاحقاً في عام 2011.
كذلك، نشر البنتاغون قوات الأمن الخاصة التي كانت مستقلة إلى حدٍ كبير عن الحكومة الصومالية، لمحاربة حركة الشباب وما أسموه وقتها "دولة الصومال الإسلامية". ووصل الأمر بالبنتاغون إلى نشره إلى جانب القوات الأميركية، لعدة سنوات قبل أن تحدد السلطة التنفيذية في واشنطن "حركة الشباب" كأهدافٍ مشروعة!
وبالمثل، في الكاميرون، انتهى الأمر بالقوات الأميركية التي ترافق قوة شريكة في مهمة "تقديم المشورة والمساعدة" بإطلاق النار على جماعة "بوكو حرام" وقتلهم. وقد استخدم البنتاغون برنامج المادة "127" هناك لملاحقة قادة الجماعة دون أن "يتم تحديدها علناً كقوة مرتبطة بتنظيم القاعدة، وبالتالي هدف قانوني، بموجب تفويض عام 2001"، وفقاً للتقرير.
نادراً ما يتلقى الكونغرس تقارير عن هذه الحوادث لأنه، وفقاً لتقرير "الحرب السرية"، تصر وزارة الدفاع على أنها أحداث صغيرة جداً أو "عرضية" بحيث لا ترقى إلى مستوى "الأعمال العدائية" التي من شأنها أن تؤدي إلى متطلبات الإبلاغ بموجب قرار سلطات الحرب لعام 1973.
الحادثة المفاجئة جاءت في تشرين الأول/أكتوبر 2017 عندما تم نشر أربعة جنود أميركيين في النيجر، بموجب برنامج "التعاون الأمني" المعروف باسم القسم "333"، والذي يأذن للبنتاغون "بتدريب وتجهيز" القوات الأجنبية في أي مكان في العالم. وقد تم التصريح بوجودهم في الميدان بموجب أمر تنفيذي دائم، يسمح للقوات الأميركية بالمشاركة في القتال في ظل ظروف معينة، وهو ما لم يتم إبلاغ "الكونغرس" به من قبل.
هذا الحادث تسبب بصدمةٍ للمشرعين في واشنطن لعدم علمهم بأن القوات الأميركية تعمل هناك. وعندما سئل العميد المتقاعد دونالد بولدوك الذي قاد القوات الخاصة الأميركية في إفريقيا حتى عام 2017 عن الموضوع، ردَّ متفاخراً: "لدي رجال في كينيا وتشاد والكاميرون والنيجر وتونس، ويعملون كما تعمل القوات العكسرية في الصومال، ويعرضون أنفسهم لنفس النوع من الخطر".
الإنتشار في أكثر من 50 دولة
يحدد التقرير، الذي يعتمد على أعمال منشورة من قبل مراسلين استقصائيين، ومقابلات مع مسؤولين مطلعين وموظفي الكونغرس، ووثائق وسجلات رسمية، فضلاً عن التحليل القانوني للمؤلف، 13 دولة لديها برامج القسم 127 هـ، بالإضافة إلى الصومال والكاميرون. لكن التقرير شدّد على أن القائمة ليست شاملة بشكل شبه مؤكد.
ووفقاً للتقرير، فإن أيضاً، 50 دولة، من المكسيك إلى بيرو في الغرب وصولاً إلى إندونيسيا والفلبين، و22 دولة في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى ناهيك عن أوكرانيا لديها برامج القسم 333 المعمول بها اعتباراً من منتصف عام 2018.
ولعل الأخطر من برامج مكافحة الإرهاب بموجب "المادة 127 هـ"، وفقا للتقرير، هي برامج "التعاون الأمني" التي يتم تنفيذها وفقاً للمادة 1202 من قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2018. ويسمح هذا الحكم بـ "دعم" القوات الشريكة "المشاركة في دعم أو تسهيل عمليات الحرب غير النظامية من قبل قوات العمليات الخاصة الأميركي".
تعرّف وزارة الدفاع "الحرب غير النظامية" بأنها "المنافسة ... أقل من الصراع المسلح التقليدي أو الحرب الشاملة"، ويرجح المسؤولون هناك على أنه "من المرجح أن يتم الاعتماد على هذا النوع من الحروب بشكل متزايد" مع بدء الوزارة في "إعطاء الأولوية لمنافسة القوى العظمى".
ووفقاً للتقرير "تثير المادة 1202 نفس خطورة المادة 127 هـ للأعمال العدائية التي لم يأذن بها الكونغرس، ولكن مع عواقب أكثر خطورة، لأن العدو يمكن أن يكون دولةً قويةً مسلحة نووياً"، مثل إيران أو الصين أو كوريا الشمالية.
غالباً، ما لا يتلقى الكونغرس الصورة الكاملة عن أسباب قيام الحروب والمشاركة فيها، إذ تقدم وزارة الدفاع إفصاحات وتحديثات بتكليف من الكونغرس لعددٍ صغير فقط من المكاتب التشريعية. وفي بعض الأحيان، لا تمتثل الوزارة لمتطلبات الإبلاغ، ما يترك أعضاء الكونغرس غير مطلعين على متى وأين وضد من يستخدم الجيش القوة.
وبدون الوصول إلى هذه المعلومات الأساسية، مثلما حصل في النيجر مثلاً، لن يتمكن الكونغرس من القيام بالرقابة اللازمة.
هكذا تسير الأعمال العدائية غير المعلنة لشن الحرب سراً. أعضاء ومشرعي الكونغرس ليسوا وحدهم خارج الحلقة، بل يكافح أيضاً النظراء الدبلوماسيون لوزارة الدفاع في وزارة الخارجية، لفهم واكتساب مدى وقدرة ومساحة الأعمال العدائية الأميركية. وحيثما تتعثر رقابة الكونغرس، تتعثر الرقابة داخل السلطة التنفيذية أيضاً، سياسياً ودبلوماسياً!