"الميادين نت" في ضيافة فتحي خازم... عندما تصارع الأبوّة أنياب الاحتلال

في مقابلة مع فتحي خازم، والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن، يتحدث الرجل الذي أصبح أيقونة وملهماً للمقاومين، عن ولديه الشهيدين، وعن "أبنائه" المقاومين في كتيبة جنين وباقي الكتائب في الضفة.

  • "الميادين نت" في ضيافة فتحي خازم... عندما يتحدث الفلسطيني عن ابنه الشهيد

أشهر قليلة هي ما احتاجه والد الشهيدين، رعد وعبد الرحمن خازم، ليدخل إلى قلوب الفلسطينيين كافة. لم يظهر هذا الرجل بصفته قائداً عسكرياً أو مقاتلاً ميدانياً، إنما أبٌ، أب فقط، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ. بانَ في اللحظة الأولى مثل جبل شامخ أُلقيت منه صخرة أصابت الأمن الإسرائيلي في مقتل: شاب عشريني أوقف "تل أبيب" على رجل ونصف ليلة كاملة.

كان التماس الأول بين فتحي خازم (57 عاماً) وبين عموم الفلسطينيين عندما أطلّ على الناس من شرفة بيته في جنين. ذلك الصباح، الثامن من نيسان/أبريل الماضي، وقف العقيدُ المتقاعد من جهاز "الأمن الوطني" لا ليبكي ابنه رعد (29 عاماً) أو يستقبل التعازي فيه، بل ليرتجل خطاباً امتد قرابة الساعة وفاجأ به الجميع. لم تختفِ أصوات العصافير في ذلك الصباح وسط الأخبار الممزوجة بالفخر بما فعله رعد وبالحزن على استشهاده.

"والله إنها لقلعة الأبطال، وقلعة النماريد، وقلعة الشجعان"، بهذه الكلمات، علا صوت فتحي خازم وهو يصف جنين وأهلها. كابد ليحبس دموعه فقد كادت نبرة صوته تخونه في بعض الأحيان.

صعوبة كبيرة اكتنفت وصولنا إلى "أبو رعد"، الذي تحوّل إلى المطلوب رقم 1 في ليلة وضحاها. لكنْ قابلها، في الوقت نفسه، ترحيبٌ كبير منه بـ"الميادين" لإجراء حوار جديد معه رغم تغير ظروف حياته. يشتكي الرجل من أن العمر لا يساعده على خوض تجربة المطاردة من جديد، لكن لضرورة مقاومة الاحتلال أحكام. يقول: "رفضت تسليم نفسي بسبب عوامل عدة كان أولها رفض الاحتلال تسليم جثمان ابني (رعد)، ثم قيامهم بعد يومين من طلبهم أن أسلم نفسي بعمل كمين لسيارة كانت تستقلها زوجتي وابني همّام وابني الطفل آدم (7 سنوات) فأطلقوا النار عليهم بكثافة"، مستدركاً: "قدرة الله فقط هي التي حالت دون قتلهم".

يحرص الأب الذي تظهر عليه آثار العمر والتجارب الصعبة على استعمال الفصحى في الحديث إلى الإعلام بالرغم من أنه لم يكن سياسياً قط، علماً أنه كان من قادة الانتفاضة الأولى (1987)، وقد أصيب آنذاك واعتقل قبل أن يصير عقيداً في السلطة الفلسطينية (1994). بعد ذلك، ترقى ليكون نائب قائد منطقة قبل أن يختار التقاعد مبْكراً. هنا، يتحدث عن "تجربته المريرة مع الاحتلال"، موضحاً أنه سُجن 4 مرات كان أولها قبل ما يقرب 40 عاماً، تحديداً سنة 1982، وآخرها عام 1993.

الفيديو أدناه: "من مقابلة سابقة للميادين في 8/4/2022 مع فتحي خازم قبل اشتداد المطاردة"

"عشت خلال هذه الأعوام مطارداً لقوات الاحتلال 3 مرات، وبسبب هذه التجربة القاسية من الأسر والزنازين والتحقيق والتعذيب، بالإضافة إلى الإجرام الذي يمارسه الاحتلال بحق شعبنا، قررت ألا أسلم نفسي، وأن أكمل رسالة ولدي رعد ومسيرته، مع علمي بمرارة وشدة المطاردة التي قد أتعرض خلالها للأسر أو الجرح أو الاستشهاد"، يقول. مع ذلك، ربما لا يبدو أن فتحي خازم هو من اختار أن يعود ملاحقاً بملء إرادته؛ نظرة فاحصة إلى مجمل ما حدث تظهر أن ما زرعه في أولاده وكذلك العائلة أثمر بعد عقود. فرعد هو واحد من 5 أبناء و3 إناث في هذه العائلة. وبسبب مهاراته في الحاسوب، لُقّب "رعد" الشاب المولود عام 1993 بـ"السايبر"، وتربى بين عائلة هي من جهة الأعمام والأخوال عائلة مقاتلة.

من جهة الأم، لديه خالان شهيدان هما محمد وعثمان السعدي. الأول كان أحد قادة "الفهد الأسود" (فتح) واستشهد عام 1992 في اشتباك مسلح في جنين، والثاني، الملقب "أبو العواصف"، ارتقى في لبنان قبله بسنوات، تحديداً في 1986. كما إن الأسير الشيخ بسام السعدي يكون زوج عمته، والأخير قدم شهيدين من أبنائه هما إبراهيم وعبد الكريم. من جهة والده، كان عمه، أمين زيدان، مطارداً وأسيراً، وابنه عمه، نضال، من مقاومي مخيم جنين وكان مطلوباً للاحتلال أيضاً.

هذا كله انعكس على شخصية رعد وتكوينه، إذ لم يرِدْ في روايات الاحتلال الأمنية أنه خاف أو اختبأ، فعندما نفذ عمليته التي أوقعت قتيلين و14 جريحاً، سار من موقع التنفيذ في شارع ديزنغوف في "تل أبيب" حتى ساحة الساعة في يافا، وهناك صادف إسرائيلياً آخر وأطلق عليه النار لكن لم يتمكّن من إصابته، إلى أن وصل عنصران من "الشاباك"، من أصل 1300 رجل أمن وعسكر كانوا يبحثون عنه، فوجداه وطلبا منه التوقّف لكنه أطلق النار عليهما واشتبكا معه ثم استشهد.

جاءت زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى فلسطين المحتلة (14-15/7/2022) لتكون سبباً في تأجيل نسف شقة العائلة وأسر أخرى، فيما كانت الأولوية الوصول إلى الأب وأحد أبنائه المطلوبين. مع ذلك، شهد فجر الثلاثاء 6/9/2022 اقتحاماً فُجّر فيه المنزل، وسط اشتباكات أدت إلى استشهاد الشاب محمد سباعنة وإصابة 16 آخرين. بالتوازي، بات أبو رعد وجهاً بارزاً بين صفوف المقاومين خاصة في "كتيبة جنين"، ليصير متهماً لدى "إسرائيل" بأنه من قادة الكتيبة.

نحاوره: "يرى الإسرائيليون أنك قائد روحي لكتيبة جنين لكنك تصف نفسك بأنك بمكانة الأب للمقاومين ولست قائداً لهم"، فيجيب: "بالرغم من رؤية الإسرائيليين لي (بهذه الطريقة)، فإني رأيت أن رسالتي لن تتجاوز حنجرتي ولا حتى مخيم جنين إذا حصرت نفسي في كتيبة جنين، وهي بالمناسبة تقاتل فيها أطياف المقاومة كلها. هذا الجمع المبارك الذي اكتسب تجربة واسعة أهّلته لخوض المعارك اليومية القاسية بكل احترافية واقتدار من دون قيادة مباشرة مني. لذلك، قررت أن أخاطبهم بأبنائي كما يخاطبونني عندما يرونني بقولهم: جاء أبونا".

يرى كثيرون من الفلسطينيين أن الساحة تحتاج إلى أيقونات ورموز مجمع عليها وطنياً وشعبياً وحتى فصائلياً. وقد جاء اعتقال الشيخ بسام السعدي، الذي كان له دور وحدوي على الساحة، ليترك فراغاً كبيراً ملأه العقيد فتحي باقتدار فاجأ كثيرين، خاصة أن الرموز التي حركت الشارع كانت بغالبيتها من جيل الشباب الأقل من 40 سنة، معززاً بوجوده دور هؤلاء من دون أن يأخذ مساحتهم التي تلهب الشارع.

في مشاهد عدة، يقترن دخول العقيد السابق في السلطة ومقاومو الكتيبة يحيطون به. يتحدث الرجل بخبرته العسكرية عن طرق عدة لقيادة الجيوش والناس، "منها الدكتاتورية والتشاورية، ومنها الأبوية"، والأخيرة "هي الطريقة التي أرى أنها أفضل الطرق لقيادة الناس والجمهور، وأرى اليوم ثمارها من مدى الحب والتقدير الذي أراه ويقدمه إليّ أغلب أبناء شعبي، فالكبير أبي ومن في سني أخي أما الأصغر مني فهو كولدي، في كل فلسطين وليس في مخيم جنين فقط".

استمرت الملاحقة، وصار المطلوب من العائلة كلها تسليم نفسها.  لم يمضِ شهر على تفجير المنزل حتى جاء التحدي الأكبر: صباح الأربعاء 28/9/2022، تسللت قوات خاصة إسرائيلية داخل مخيم جنين، وحاصرت منزلاً لعائلة خازم. وقع اشتباك حامٍ وفُجرت عبوات ناسفة بالآليات الإسرائيلية في مشهد غاب عن الضفة منذ نحو عقدين. تدفقت قوات "الجيش" بالمئات لمساندة القوات الخاصة، قبل أن ينجلي المشهد عن استشهاد الابن الثاني من العائلة، عبد الرحمن، ومعه أحمد علاونة ومحمد ألونة ومحمد أبو ناعسة، فضلاً عن 44 إصابة بالرصاص الحي، بينها الخطرة وبالغة الخطورة.

استشهد عبد الرحمن وعلى مخزن بندقيته صورة لأخيه "الرعد الخاطف". في اليوم التالي (الخميس 29/9/2022)، قال تقرير لقناة "كان" العبرية إن عبد الرحمن كان قد "أوصل شقيقه رعد إلى ثغرة في الجدار نقل من خلالها إلى تل أبيب كما  ساعده على شراء مسدسه الذي نفذ به عملية إطلاق النار في ديزنغوف"، مضيفة أن الأول "شارك في عمليات أخرى ضد الجيش والمستوطنين". وفي الصباح التالي، ظهر الجبل شامخاً مجدداً في جنازة ابنه الثاني محاطاً بالمقاومين والناس.

"تضحياتنا تبقى قليلة مقابل حريتنا"

  • صورة سلاح عبد الرحمن خازم الذي استشهد وهو يحمله وعليه صورة أخيه
    صورة سلاح عبد الرحمن خازم الذي استشهد وهو يحمله وعليه صورة أخيه "الرعد الخاطف"

الملاحظ في حديث الرجل أن كلامه يتحول حتى مع وسائل الإعلام إلى خطاب، لا مجرد تصريح أو سؤال وجواب. إنه يستغل كل منبر من أجل إيصال رسالة، وهذه المرة أيضاً في حديثنا معه، تعلو نبرة صوته وهو يقول: "مهما قدمنا من تضحيات، حتى إن كانت جسيمة ومؤلمة، فإنها قليلة مقابل حريتنا، وتحرير مسجدنا الأقصى، والعيش على أرضنا بكرامة. فلا حرية من دون تضحية وضحايا ودماء غزيرة على مذبح الحرية". أما عن موقفه من بعد استشهاد نجله الثاني بشأن تسليم نفسه، فيصرّ على الرفض، "مع إنني عند كل ظهور علني لي تظهر الطائرات المسيرة في سماء المخيم لملاحقتي... نجوت بفضل الله حتى اليوم 3 مرات".

بعد أسبوع على تلك الحادثة التي وصفها الأب بأنها معركة ولم تكن مجرد اقتحام، جاء موعد الكشف عن حقيقة تأخر إعلانها لأسباب ميدانية وأمنية، كما تفيد مصادر في شمالي الضفة، إذ أعلن الأمين العام لحركة "الجهاد الإسلامي"، زياد النخالة، في كلمة خلال إحياء ذكرى انطلاقة الحركة (6/10/2022) أن الشهيدين رعد وعبد الرحمن خازم هما "من أبطال كتيبة جنين"، موجهاً التحية إلى "والدهم القائد الكبير فتحي خازم الذي أصبح علماً بارزاً من أعلام شعبنا ومقاومته، وملهماً لكل المقاومين".

كذلك، وجّه النخالة التحية إلى "شهداء كتيبة جنين، عبد الله الحصري، ومؤسسها الشهيد جميل العموري، وكتيبة نابلس، وشهيدها البطل إبراهيم النابلسي، وكتيبة طولكرم، وقائدها الشهيد سيف أبو لبدة، وكتيبة طوباس، وكل المجموعات والكتائب المقاتلة من أبناء شعبنا، وعلى رأسهم الشهيد ضياء حمارشة (منذ عملية بني براك)".

بينما كانت الحاجة "أم العبد" (حليمة الكسواني، المولودة عام 1938) تغني "شدوا بعضكم يا أهل فلسطين"، كان فتحي خازم يعانق المطارد الآخر الأب ماهر تركمان (غوادرة) ويشد على يديه بعدما أُعلن استشهاد ابنه محمد (الجمعة 14/10/2022) الذي شارك في تنفيذ عملية الأغوار الشهيرة (4/9/2022). مشهد آخر جمع هذه المرة بين أيقونتين كما وصفهما الفلسطينيون، فيما كان خازم ينعى بين أصوات الرصاص الشهيدين عبد الأحمد ومتين ضبايا في جنين. على الطرف المقابل، يستفز هذا المشهد "إسرائيلَ" التي لا تريد أن تخلق الساحة الفلسطينية قيادات ميدانية-سياسية على خلاف القادة التقليديين.

مشكلة الاحتلال كبيرة مثلاً مع تنظيم مثل "عرين الأسود"، خاصة أنه حالة فريدة في تاريخ النضال الفلسطيني: مجموعة شبابية محلية من مدينة واحدة وفصائل عدة ومشارب مختلفة. بالمثل، لا تريد "إسرائيل" آباء شهداء يحرّضون على العمل المسلح من دون انتماء إلى فصيل محدد أو الحديث بالضرورة باسم فصيل واحد، وأن يتكون تجمع من هؤلاء يقود العمل المحلي. بالتزامن أيضاً، تحضر مشاهد التجمع لأمهات الشهداء في الضفة، اللواتي يحضرن عند أم كل شهيد جديد ويضممنها إليهن.

الجيل الجديد من المقاومين يرى بقاء الاحتلال كارثة يجب التخلص منها

يقول العقيد فتحي عن أولئك الشهداء وهذا الجيل إنهم يستمدون معنوياتهم من "ملحمة نيسان" التي سبقتها الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، ثم انتفاضة الأقصى التي وقعت أثناءها "معركة نيسان". يضيف: "اليوم، جموع المقاتلين هم أبناء مقاتلين قدامى أو أحفادهم، وهؤلاء الأبناء والأحفاد ألهمتهم روح آبائهم المقاتلين وروح الانتفاضة الأولى وقصص تضحياتها، كما ألهمتهم معركة نيسان الخالدة، ثم رفضهم الفطري للاحتلال، ثم تكوينهم المجتمعي العام الذي بات يرى أن الاحتلال وبقاءه كارثة يجب التخلص منها".

يذهب الرجل أبعد من ذلك بتفاؤله حين يقول: "خرج هذا الجيل الذي لم أرَ بشراسته وجرأته لا في الانتفاضة الأولى ولا الثانية. إنهم مختلفون حتى في طريقة قتالهم. إني لم أستطع أن أجد في هذا الجهاد العظيم ولهذه الأحداث الجسيمة اسماً. ربما هي ثورة أو هبة أو موجة أو انتفاضة... قد تكون كل ذلك، لكنها بالتأكيد كرّة لا فرّ بعدها". ويضيف: "أرى أن المقاومة هي السبيل الوحيد لدحر الاحتلال، فلم يعد يجدي إلا المقاومة مع هذا المحتل. فالمستقبل الواعد للمقاومة في فلسطين وخارجها، بتعدد جبهاتها وساحتها. هذا هو الطريق نحو معركة وعد الآخرة، معركة الخلاص والتحرير".

ليلة المقابلة تزايد صوت طيران الاستطلاع. كانت لدينا أسئلة كثيرة عن مراحل عدة من حياة أبي عبد الرحمن ورعد وعائلته، وكذلك عما دار بينه وبين رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، خلال العزاء. لكن جاء من يخبر العقيد خازم بأن نابلس تتعرض لاجتياح كبير. اعتذر الرجل عن إكمال الإجابة عن بقية الأسئلة. غادرنا على عجل، وباتت الأنباء تتوالى عن هجوم شرس على "عرين الأسود". 

طلع الصباح التالي دامياً باستشهاد وديع الحوح و5 مقاومين آخرين. اكتفينا بتسجيل ما كان قد قاله في لقاء عقب استشهاد ابنه عبد الرحمن مشيراً إلى نابلس: "إن أرواح الشهداء تروي حقولاً. كلما اجتثوا سنبلة، نما حقل من السنابل. في كل سنبلة 100 مقاتل".

تحية إلى "الميادين"

منذ اللحظة الأولى لطلب هذه المقابلة، وافق والد الشهيدين خازم على إجرائها بالرغم من صعوبة الوضع الميداني، وذلك "لأنها للميادين". ثم، قبل بداية المقابلة، قال: "تحية لكل مشاهدي قناة الميادين ومستمعيها، ولكل طاقمها والعاملين فيها، على التغطية الواسعة للشأن الفلسطيني ونقل صورة الأحداث التي تعري الاحتلال وتكشف جرائمه بحق شعبنا".

اخترنا لك