الصين أنموذجاً: التنمية الزراعية والاكتفاء الغذائي.. ما أثرهما في عالم الجنوب؟

الزراعة في الصين تؤدّي دوراً رئيسياً في اقتصاد البلاد، وتحتلّ موقعاً متقدّماً كعامل رئيسيٍّ في الاستقرار الاجتماعي، فماذا عن كيفية الاستفادة من التجربة الصينية في بناء قوةٍ اقتصاديّةٍ للدول؟

  • في استراتيجية الصين تحتلّ الزراعة والنهوض الريفيّ موقعاً متقدّماً
    في استراتيجية الصين تحتلّ الزراعة والنهوض الريفيّ موقعاً متقدّماً

أعلنت مجموعة البنك الدولي، التي تُعَدّ أحد المموّلين الرئيسيين للزراعة، أنّ التنمية الزراعية يمكن أن تساهم في إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك وتوفير الغذاء لنحو عشرة مليارات شخص بحلول عام 2050.

وفي الأرقام أيضاً، هناك 75% من فقراء العالم يعيشون في المناطق الريفية، ويعتمد معظمهم على الزراعة لكسب عيشهم. وعليه، يكاد يكون للزراعة الكلمة الفصل في تعزيز الأمن الغذائي في العالم، وهذا ما دفع الصين إلى إيلاء هذا القطاع اهتماماً بالغاً لتحقيق التنمية الشاملة في البلاد، فأصدرت بكين ما سمّتها الوثيقة المركزيّة رقم واحد التي تركّز على موضوع الزراعة والمناطق الريفيّة والمزارعين.

ومن المعلوم أنّ الزراعة في الصين ما زالت تؤدّي دوراً رئيسياً في اقتصاد البلاد. وقد ساهمت استراتيجيّة الحكومة للنهضة الريفيّة وتطوير الزراعة في انتشال ما يُقارب مئة مليون شخصٍ من براثن الفقر في البلاد، والمساهمة في الحدّ الفقر في العالم.

اسم الصين يحضر بقوّةٍ في هذا الملفّ، فهي تُعَدّ من أكبر الدول الزراعية في العالم، إذ يمثّل المزارعون نحو 40% من سكّانها، كما تُعَدّ أكبر منتجٍ زراعيٍّ في العالم، وتُنتج نحو 10% من أراضيها الصالحة للزراعة، ما يكفي خمس سكّان العالم.

تحدّياتٌ عديدة صمدت أمامها التجربة الصينيّة، أوّلها الأزمة الدوليّة الراهنة، هذه الأزمة التي تسبّبت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية الرئيسيّة فضلاً عن التداعيات الاجتماعية والسياسية والتقلّبات المناخيّة الشديدة، والتبعات الاقتصاديّة السلبيّة لكورونا والصراعات المحلّية والإقليميّة. 

في استراتيجية الصين تحتلّ الزراعة والنهوض الريفيّ موقعاً متقدّماً كعاملٍ رئيسيٍّ في الاستقرار الاجتماعي وتحقيق التنمية الشاملة في البلاد. وهذه الاستراتيجيّة تبدو اليوم أكثر إلحاحاً على مستوى العالم من أجل ضمان الأمن الغذائي ومنع انتشار الفقر على نطاق واسع. 

مقوّمات صمود التجربة الصينيّة أنّها أعطت الأولويّة للأمن الغذائي ورسمت خطّاً أحمر على كل القضايا المتعلّقة بالزراعة والمناطق الريفيّة والمزارع حيث لا مجال لخطأ، فماذا عن كيفيّة الاستِفادة من التجربة الصينيّة في بناء قوّةٍ اقتصاديّةٍ للدول، فيما من المؤكَّد أنّ حسابات اللاعبين الكبار لا توفّر استغلال مثل هذه القطاعات لانعكاسها الكبير على الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي للدول؟

لماذا تعتمد الصين على زراعة الريف في نهضتها؟

وتعليقاً على ذلك، قال محلّل الميادين للشؤون السياسية والدولية قاسم عز الدين، إنّ "الصين نشأت على الزراعة"، مشيراً إلى أنّ الهدف الأساسي ليس الزراعة كهدف بحدّ ذاته، بل تحرير 80% من سكان الصين وهم فلّاحون من ربقَين: "ملّاك الأرض، وهذا الموضوع داخلي". 

أمّا "الموضوع الخارجي والأهم، هو أنّ الصين تعرّضت لحروب إجراميّة على مدى منتصف القرن التاسع عشر، مثل حروب الأفيون، بريطانيا وغيرها، والاحتلال الياباني والمجازر التي ارتكبها هذا الاحتلال في الصين"، وفق عز الدين. 

وتابع أنّ "الهدف كان تحرير الفلّاحين، لذلك هي ثورة فلّاحين وليست مسألة زراعة بعيدة عن الناس من خلال تحريرهم من أصحاب ملكيّة الأرض، ومن الاستعمار الغربي".

وأشار عز الدين إلى أنّ ما حققته الصين "أولاً السيادة الغذائية، حيث الفقر والجوع في الصين يُضرَب به المثل، وثانياً السيادة الاقتصادية، فمنذ تلك اللحظة بدأت نهضة الصين، والأهمّ من كل ذلك السيادة السياسية ورفض الوصاية والتبعيّة للدول الغربية".

وتعليقاً على دراسة نشرتها خدمة البحوث الاقتصادية في وزارة الزراعة الأميركية التي تفيد بأنّ الصين ستظل عام 2023 أكبر سوق للصادرات الزراعية الأميركية، أوضح محلّل الميادين لشؤون أميركا والأمم المتّحدة نزار عبّود، أنّ "الأمن الغذائي بالنسبة إلى الصين هو مسألة حيويّة، لذلك هي تُنشد الاكتفاء الذاتي في كلّ شيء خاصّةً وأنّها مهدّدة إلى حدٍّ بعيد بحروب وحصارات".

وأشار عبود إلى أنّ "الولايات المتّحدة تعمل بكل الوسائل من أجل منع الصين من تبوّؤ المركز الأول ومنافستها على كلّ المستويات".

وذكر عبود أنّ أي "تنمية تحصل في القطاع الزراعي الصيني ستؤثّر في صادرات الولايات المتّحدة حتماً"، موضحاً أنّ "الصين دولة تُعَدّ مليار ونصف مليار نسمة وهي من أكبر أسواق الغذاء خاصّةً وأنّ مستوى المعيشة فيها مرتفع". 

وعلى النقيض من النموذج الصيني الذي يركّز على التوازن التنموي بين الريف والمدينة، يقف النموذج الاقتصادي والسياسي الليبرالي الغربي أمام موجة انتقادات حادّة تتخوّف من أن يقود هذا النموذج بالمجتمعات إلى الانهيار والتفكك.

وتعليقاً على ذلك وإمكانية العودة إلى الريف بالنسبة إلى الغرب، قال محلّل الميادين للشؤون الإقليميّة والثقافيّة سليم بوزيدي، إنّ "العودة إلى الريف ليست مجرّد شعار رومنسي أو أدبي، بل هو مبحَث سيسيولوجي وثقافي إعلامي سياسي".

وأكد بوزيدي أنّه "عندما يتمّ الآن تناول التجربة الصينيّة، فإنّ ذلك يتعلّق بالشقّ الاقتصادي لجهة أنّ الصين لديها هذا الأمن الزراعي، والأمن الغذائي، والقوّة الاقتصادية الكبيرة، لكن الأهمّ في هذا المبحَث أنّ ما يتمّ تناوله هو أنّ النظام الاقتصادي القائم على قضيّة الليبراليّة وإطلاق يد القطاع الخاص في المجتمعات الغربية أوصل النظام الاجتماعي الى طريق ليس مسدود ومرعب".

ورأى بوزيدي أنّ "الثورة الصناعية في الغرب خلقت حالة الانفصام بين طبقة أثريّة تتمسّك بالقرار السياسي والاقتصادي، وطبقة وسطى وفقيرة تكاد تكون هي مجرَّد آلة وأرقام يتمّ تحطيمها إنسانيّاً وروحيّاً وقيميّاً".

ولفت إلى أنّ "الأخطر أنّه مع استمرار وتطوّر الطفرة التكنولوجيّة في سوق التكنولوجيّات الكبرى تحوّلت المجتمعات الغربية إلى حالة الخواء الروحي، أحد أشهر الأمراض هو الانعزاليّة، وتهشيم الأسرة".

وبالتالي، فإنّ البناء الاجتماعي الغربي بحسب بوزيدي "يعاني من الشيخوخة، ومن أمراض اجتماعية، بحث إنّ المشكلة تتجاوز فكرة الأزمة الاقتصادية إلى ما هو أخطر وأبعد، وتتعلّق بحالة انهيار نظام القيمي والروحي والأخلاقي".

عالم الجنوب والقطاع الزراعي 

وبشأن التوصيات الزراعية في عالم الجنوب من قبل بعض المنظمات الدولية، ولماذا أدّت الى الجوع، والتبعيّة السياسية والغذائية، والانهيار الاقتصادي، أوضح محلّل الميادين للشؤون السياسية والدولية قاسم عز الدين، أنّ "تلك التوصيات بالتفصيل الهدف منها هو ما أنتجته، من زيادة الفقر وزيادة الجوع".

ولفت عز الدين إلى أنّه على الرغم من أنّ كل الإجراءات وكل التقارير وكل التوصيات وخاصّةً بما يُسمى برنامج الألفيّة تتحدّث عن تخفيف الجوع والقضاء عليه، وتخفيف الفقر، لكن عمليّاً الهدف منها هو جذب أصحاب الرساميل وخاصّةً للشركات الكبرى التي تستثمر في الزراعة في عالم الجنوب، إذ إنّ السوق الزراعية فيه (عالم الجنوب) يُقدَّر بألفي مليار دولار.

كما أكّد عز الدين للميادين أنّ "الأزمات الزراعية بمعظمها في عالم الجنوب هي نتيجة الوصايا والتوصيات، وخاصّةً البنك الدولي وصندوق النقد".

وتحدث عز الدين عن العالم العربي وما يقدمه صنودق النقد والبنك الدولي من توصيات، لا سيما مسألة تصدير الزراعة، بمعنى تحويل الزراعة من السيادة الغذائية والاكتفاء الذاتي إلى سلعة تجارية.

وعملياً، رأى عز الدين، أنّ الأمر غير مربح بسبب فاتورة الاستيراد، لأنّ 90% من الغذاء يعتمد على الاستيراد، ففاتورة الغذاء تكلّف مئة مليار دولار بحسب إحصاءات 2022.

وعلى الرغم من ذلك، فإنّ "التوصيات تزيد أكثر بأنهم لا حاجة حتى للزراعة والاعتماد فقط على التجارة وعلى المعلوماتية، على ما يُسمى سلاسل الإمداد، أمّا الأرض والغذاء يكفي أن نستورد"، وفق عز الدين. 

في المقابل، فإنّ، مئة مليار هو عملياً ما تصدّره هولندا من تصنيع الحليب والزبدة والجبن، وأمامنا وضع مأساوي، بحسب عز الدين، لا سيما وأنّ "80% من البذور والسماد يتم استيرادها، فضلاً عن أنّ الأرض الصالحة للزراعة هي عملياً تتهاوى سنةً بعد سنة، وخلال عشرين سنة زاد الجوع 90%، إذ إنّ سبعين مليون مهدّدون بالجوع". 

وفيما تقول الأمم المتّحدة والخبراء النيوليبراليين إنّ المشكلة هي مشكلة سلاسل الإمداد، إذا تعذّرت سلاسل الإمداد يعني تعذّر التصدير وأنّ الجوع سيدب، أكّد عز الدين أنّ الجوع بدأ فعلاً بمعزل عن مسألة سلاسل الإمداد، فـ"إذا تحدّثنا عن ماذا أنتج خلال عقدين فقط من الألفين حتى اليوم، فقد زاد الجوع بحسب أرقام الأمم المتّحدة من 868 مليون زاد 150 مليون".

 محلّل الميادين لشؤون أميركا والأمم المتّحدة نزار عبّود، تحدث في هذا السياق، عن تمنّع البنك الدولي منح مصر قرضاً لبناء السدّ العالي في خمسينيات القرن الماضي، بينما منح قروضاً كثيرة لعدّة دول، وذلك لإبقاء مصر تحت نير الاستيراد وغيره.

وقال عبود إنّ "الشركات العملاقة الكبرى مثل سانتوس وغيرها تتحكّم حالياً بالبذور حول العالم، فهناك تجارب في الهند وفي أميركا الوسطى، كان المستعمِر يجبر الشعوب أن تُنتج أنواع معيّنة من الزراعات"، وعلى سبيل المثال: "بالنسبة لأميركا الوسطى فقد حوّلها إلى جمهوريات لإنتاج الموز فقط، وكوبا حوّلها إلى دولة لإنتاج السكَّر لأنه احتاج (المستعمِر) السكَّر لمعامل الحلويّات لديه".

وأشار عبّود إلى أنّ "برنامج الغذاء العالمي قال إنّ هناك 80 مليون على حافّة المجاعة حالياً لا سيّما في القرن الأفريقي وأفغانستان.. 6 مليون في أفغانستان، والقرن الأفريقي يعاني من قحطٍ كبير".

وتحدث محلّل الميادين لشؤون أميركا والأمم المتّحدة عن اتّفاق الحبوب الذي تمّ بين روسيا وأوكرانيا عبر الأمم المتّحدة، مشيراً إلى أنه "قد يتوقّف". 

وأوضح أنّ "الحروب على مدى العقدين الأخيرين دمّرت كثير من المساحات الزراعيّة ولغّمت الأراضي الزراعيّة وحرمت المزارعين من كثير من أدوات الإنتاج وأدوات الزراعة، وبالتالي هناك أزمة حقيقية". 

وبما يتعلق بالمنطقة العربية والتجربة الليبرالية الغربية والنموذج الاقتصادي الصيني، عبّر محلّل الميادين للشؤون الإقليميّة والثقافيّة سليم بوزيدي عن أسفه من غياب الرؤية السياسية، والرؤية الأكاديمية، والتي تنطلق من الواقع الاقتصادي والإمكانيّات.

وقسّم بوزيدي الدول إلى ثلاثة أقسام: دول غنيّة وبالتالي هي تمتصّ أزماتها والهزّات بالإمكانيات المالية القادمة أساساً من مداخيل النفط، والدول في المنطقة الوسطى وهي دول تتأرجح ما بين في بعض الأحيان يكون لها نوع من الاستقرار عندما يكون لديها بعض الإمكانيات الماديّة، وأحياناً تدخل في أزمات مؤقّتة، ودول فقيرة تعاني من انسداد تام.

لكن الثابت وفق بوزيدي أنّ كل النماذج الاقتصادية الموجودة في المنطقة العربية هي نماذج فوقيّة ونماذج مقولَبة، وهي بعيدة تماماً عن استثمار نقاط قوّتنا، وبالتالي ما يحدث الآن من نقاش حول النموذج الاقتصادي سواء الصيني أو النموذج الذي تتبعه أغلبيّة الدول العربية أي الليبرالي، هو بعيد تماماً عن القراءة للواقع العربي.

واستذكر بوزيدي تجارب ناجحة في هذا السياق، التجربة المصرية والتجربة الجزائرية: الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، خاض هذه المعركة لجهة تأميم الشركات وأيضاً دعم القطاع الفلاحي، والرئيس الراحل الهواري بومدين قام بمشروع ما يُسمى بألف قرية وقرية، عبر بناء قرى تُسمى القرى الاشتراكيّة، يتمّ توفير متطّلبات الحياة من مدارس وصحة وكهرباء وغاز وأيضاً لتثبيت الفلّاحين في أراضيهم.

وأكد بوزيدي أنّ "الغرض من ذلك كله الإبقاء على القطاع الزراعي والقطاع الفلاحي، كأحد القطاعات الاستراتيجية".

اخترنا لك