التهجير القسري لسكان غزة... من يحاسب "إسرائيل"؟
أضاف جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى سجله الدموي المزيد من جرائم الحرب والإبادة الجماعية من خلال استهداف المدنيين لقتلهم ودفع من تبقى إلى الرحيل.
منذ اللحظة الأولى لشروع جيش الاحتلال الإسرائيلي بإشعال المحرقة القائمة حالياً في غزة، والتي تلتهم نيرانها مئات الفلسطينيين العزّل يومياً، بدا أن الهدف الحقيقي ليس اجتثاث حركات المقاومة فحسب، خصوصاً حماس، إنما التخلص من هذه البقعة الجغرافية الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم أيضاً، وتهجير سكانها قسراً إما نحو سيناء وإما الأردن، بحسب استجابة الحكام هناك، وبالتالي تحويلها إلى أرض محروقة يتعذر العيش فيها لاحقاً، تنفيذاً لمخططات سياسة أمنية، وربما اقتصادية، ستغير إن نجحت الجغرافيا السياسية للمنطقة.
من هنا، أضاف جيش الاحتلال إلى سجله الدموي المزيد من جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي حددتها قواعد القانون الإنساني الدولي، ومعاهدات القانون الجنائي الدولي، وكذلك القانون العرفي الدولي، وذلك عبر تطبيق سياسة الأرض المحروقة من خلال القصف العشوائي المنهجي والمركز ليلاً نهاراً ومن دون توقف، مستهدفاً المدنيين الأبرياء، والأطفال خصوصاً، من أجل قتلهم ودفع من تبقى إلى الرحيل، والأهم أنه اتبع ذلك بخطوة لافتة في توقيتها وأبعادها، عندما أصدر في وقت متأخر من مساء يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر تحذيراً لسكان غزة بضرورة الإخلاء إلى الجنوب تحسباً لعمليات واسعة النطاق.
وتبعاً لذلك، ألقى الاحتلال منشورات جاء في إحداها حرفياً: "يدعو الجيش الإسرائيلي إلى إخلاء جميع المدنيين في مدينة غزة من منازلهم باتجاه الجنوب حفاظاً على سلامتهم وحمايتهم والانتقال إلى المنطقة الواقعة جنوب وادي غزة"، وأضاف: "إن هذا الإخلاء من أجل سلامتك. لن تتمكن من العودة إلى مدينة غزة إلا عندما يتم إصدار إعلان آخر يسمح بذلك. لا تقتربوا من منطقة السياج الأمني مع دولة إسرائيل"، بحسب تعبير المناشير.
وبعد ذلك، أعلن الاحتلال في 14 تشرين الأول/أكتوبر عن مهلة مدتها 6 ساعات يمتنع خلالها عن شن ضربات على طول طريقين لتسهيل حركة السكان إلى الجنوب.
كيف تعاطت المنظمات الحقوقية مع اجراءات التهجير؟
أثارت التحذيرات الإسرائيلية عاصفة من الإدانات (الخالية من أي فعل جديّ حتى الآن) على مستوى المنظمات الدولية والإنسانية والحقوقية. وتبعاً لذلك، طالب مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان للنازحين داخلياً بإلغاء "الأمر"، ووصف الإجراء الإسرائيلي بأنه "جريمة ضد الإنسانية وانتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي".
وقالت منظمة العفو الدولية إن "الأمر الذي أصدره الجيش الإسرائيلي للناس في شمال غزة ومدينة غزة بالإخلاء إلى جنوب قطاع غزة، لا يمكن اعتباره تحذيراً فعالاً. وقد يصل إلى حد التهجير القسري للسكان المدنيين، وهو انتهاك للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني".
أما الأكثر أهمية من كل ذلك، فهو أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر شككت في شرعية الإجراء الإسرائيلي، وبخلاف ممارستها العامة المتمثلة في الانخراط في اتصالات سرية بحتة، أصدرت اللجنة بياناً علنياً نادراً للغاية في 13 من الشهر الجاري، أوضحت فيه أن "الهجمات على إسرائيل لا يمكن بدورها أن تبرر الدمار غير المحدود لغزة".
ولفتت اللجنة إلى أن "التعليمات التي أصدرتها السلطات الإسرائيلية لسكان مدينة غزة بمغادرة منازلهم فوراً، إضافة إلى الحصار الكامل الذي يحرمهم صراحةً من الغذاء والماء والكهرباء، لا تتوافق مع القانون الإنساني الدولي".
وخلص البيان إلى أن "غزة منطقة مغلقة ذات حجم وموارد محدودة. ليس لدى الناس مكان آمن يذهبون إليه، ولن يتمكن الكثيرون، بمن فيهم المعوقون وكبار السن والمرضى، من مغادرة منازلهم، فالقانون الإنساني الدولي يحمي جميع المدنيين، بمن فيهم أولئك الذين يبقون. واليوم، من المستحيل على سكان غزة معرفة المناطق التي ستواجه الهجوم التالي.
القانون الدولي والتهجير القسري لسكان غزة
تحكم معاهدات قانون النزاعات المسلحة والقانون الدولي العرفي الحرب الدائرة على غزة، إذ يتضمن القانون الدولي العرفي قواعد تقبلها الدول باعتبارها التزامات دولية ملزمة لم يتم تدوينها في معاهدة بين الأطراف.
وتشدد نصوص اتفاقيات جنيف لعام 1949 على ضرورة تمتع جميع المدنيين بالحماية من أن يصبحوا هدفاً للهجوم، وتعتبر أنه لا توجد فئات فرعية من المدنيين. على سبيل المثال، لا توجد فئة "للمدنيين الأبرياء" يختلفون عن غيرهم من المدنيين، ولا يُسمح أيضاً بمهاجمة المدنيين الذين يدعمون سياسياً جماعة مسلحة منظمة أو دولة. كلهم يحسبون مثل أي مدني آخر.
زد على ذلك، يصنف التهجير القسري للسكان المدنيين أو إبعادهم دون مبرر أمراً غير قانوني وجريمة ضد الإنسانية وفقاً لنصوص ومعاهدة المحكمة الجنائية الدولية (المادة 7، الفقرة د.)، والنظام الأساسي للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة المادة (2)، وقواعد كل من الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
أكثر من ذلك، تؤكد نصوص القانون الدولي الإنساني والعرفي (استناداً إلى الأمم المتحدة) أن قيام "دولة" احتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها أو ترحيل أو نقل كل أو أجزاء من سكان الأراضي المحتلة داخل هذه الأراضي أو خارجها، يعتبر جرائم حرب واضحة لا لبس فيها.
وتأكيداً على النية العقابية للاحتلال، أوضحت السوابق القضائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا إقامة صلة واضحة بين أعمال التهجير القسري والاضطهاد باعتبارها جريمة ضد الإنسانية. وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، ربما يكون من الجدير بالملاحظة أن المتحدث العسكري الرئيسي لجيش الاحتلال دانييل هاغاري قال في تشرين الأول الجاري إن "مئات الأطنان من القنابل أسقطت على غزة، والتركيز ينصب على الضرر، وليس على الدقة".
وفي 13 تشرين الأول/أكتوبر، ردد وزير الدفاع يوأف غالانت: "غزة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل. سوف نقضي على كل شيء". وكانت مثل هذه التصريحات مصحوبة باستخدام لغة مهينة من جانب كبار المسؤولين العسكريين ومساواة المدنيين في غزة بـ"الحيوانات" أو "الوحوش".
وفي سياق الجريمة المماثلة ضد الإنسانية، المتمثلة في التهجير القسري، فسّرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (الفقرة 526) التدمير المتعمد لمنازل المدنيين بأنه مؤشر على نية تهجير المدنيين بشكل دائم.
إضافة إلى النيات العقابية المحتملة، هناك سيناريو آخر ينذر بالتهجير القسري، وهو أن تسعى "إسرائيل" إلى إنشاء منطقة عسكرية عازلة في شمال غزة، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى تدمير واسع النطاق، بما في ذلك البنية التحتية المدنية.
ماذا عن عدالة المحكمة الجنائية الدولية؟
في الأيام التي تلت عملية "طوفان الأقصى"، صرح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، في مقابلة، أن اختصاص المحكمة يصل إلى سلوك حماس داخل "إسرائيل"، والمخزي أنه لم يتطرّق إلى جرائم "إسرائيل"، واكتفى فقط بالإشارة إلى أن المحكمة بإمكانها النظر في الجرائم التي يرتكبها مواطنو الدول الأطراف وفقاً للمادة 12 الفقرة (2) الفرع (ب).
في المقابل، أقرّ المدعي العام السابق للمحكمة مورينو أوكامبو في حوار مع "واشنطن بوست" مؤخراً، وطبعاً بعدما جرّم حماس، بأن الحصار المفروض على غزة -هذا فقط- يمكن أن يكون إبادة جماعية، وأضاف هناك تهجيراً قسرياً أيضاً، وهي مشكلة أخرى.
ولفت إلى أنه لا يمكن لـ"إسرائيل" أن تتظاهر بأنها تدمر حماس فحسب، لأنها في الوقت نفسه تقتل أعداداً كبيرة من المدنيين، وهذه جرائم حرب، وربما جريمة ضد الإنسانية، ثم هناك المجاعة في غزة، وربما الإبادة الجماعية أيضاً.
في المحصلة، إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية عاجزة عن مقاضاة "إسرائيل"وإدانتها لأسباب سياسية أو لأنها ليست طرفاً في المعاهدة، فيمكن اللجوء المحاكم في البلدان الأجنبية القادرة على إجراء محاكمات على جرائم الحرب المرتكبة خارج أراضيها، حتى لو لم يكن الجاني (إسرائيل) والضحية (الفلسطينيون) من مواطني الدولة التي تجري فيها المحاكمة.