"اقتلعنا إسرائيل".. جنوبيون يستذكرون التحرير كأنه بشارة اليوم
على الرغم من مرور أكثر من عقدين على تحرير لبنان في أيار/مايو 2000، إلا أنّ هذا اليوم ما زال له وقعٌ خاص في ذاكرة وقلوب الجنوبيين، وتحديداً في وجدان أبناء القرى التي تقع على الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة.
ببسمةٍ دافئة ووجهٍ مشرق، تستقبلنا الحاجة أم علي فوعاني في حديقة منزلها القائم في قرية العديسة الحدودية جنوب لبنان. على مهلٍ، تُناولنا قهوةً تفوح منها رائحة الهيل العطِرة، تصاحبها كعكةٌ باليانسون أعدّتها صباحاً. تقترب بهدوءٍ من أزهارها البيضاء التي تزيّن الجزء الشمالي من الحديقة، وتقطف واحدة. "قطفتُ العشرات من هذا الجوري الأبيض وجمعتهم لأرشّهم يوم التحرير"، تتذكر أم علي والبهجة تعلو وجهها السّمِح.
على الرغم من مرور أكثر من عقدين على تحرير لبنان في 25 أيار/ مايو 2000، إلا أنّ هذا اليوم ما زال له وقعٌ خاص في ذاكرة وقلوب الجنوبيين. أبناء القرى التي تقع على الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة على وجه الخصوص عاشوا حدثاً غيّر تاريخهم، فتقهقُر جيش الاحتلال وانسحابه الذليل من أرضهم أبعدَ عن ذاكرتهم سنوات بطشه واستبداده، من قتلٍ وتشريد واعتقال وتعذيب وإيقافٍ عند الحواجز.
من عايش تلك المرحلة، يدرك جيداً قيمة النصر الذي تحقق. أولئك الجنوبيون الذين عاصروا هذا النصر، تشخص عيونهم إلى هناك، إلى أرض طهّرت دماء أبنائها من دنس المعتدين، ومَن هم من أجيال التحرير، يُحكمون القبضة على وطنٍ صار لهم كاملاً مذ ذاك التاريخ.
"ملأتُ كيساً بالورود، حتى أرميها على الشباب حين يصلون إلى هنا"، تخبرنا أم علي. الحاجة الثمانينية كانت تترقب عودة أبنائها الشباب الذين أبعدهم الاحتلال إلى العاصمة بيروت. ابنها الأكبر علي، سجنه جنود الاحتلال في معتقل الخيام الشهير في جنوب لبنان لعدة سنوات، ثم طردوه إلى بيروت. حينها، كان شباب القرى الحدودية يُجبرون بعد إطلاق سراحهم من المعتقل إما على التعاون مع قوات الاحتلال والعمل معهم كمخبرين وعملاء، أو يُمنعون من العودة إلى قراهم فيتمّ إبعادهم إلى بيروت.
علي لم يكن الوحيد الذي أُسِر في المعتقل، فله أخان عاشا الظلم نفسه. "أُصبت بالضغط والسكري بسبب ما حلّ بي بعد غياب أولادي عني"، تقول أم علي. حين انتشر خبر التحرير في العديسة، ذهبت أم علي مع ابنتيها إلى ساحة العين في القرية، للقاء المقاومين والشباب المُبعدين الذين بدأوا بالعودة إلى قراهم. "وصل رفاق ابني جميعهم إلى القرية، بدأ القلق يتملكني وعيناي تبحثان بينهم عن وجه ابني علي"، تروي الحاجة، وتكمل قائلةً: "في لحظة يأس، اعتقدت أنه استشهد أو أصيب، وقلت لأبيه خلص يا بو علي، الصبي راح".
في خضمّ حالة الترقّب التي عايشتها، توقفت سيارة فجأةً أمامها. "خرج شاب من السيارة وصرخ يا أمي، اعترتني صدمةٌ وبدأت بالتكبير"، تقول الحاجة. نجود، ابنتها، كانت حاضرة أيضاً حينها: "لم نرَ أخي علي لما يقارب العشرين عاماً"، تتوقف قليلاً وتتنهد، تحاول لجم دموعها، ولكن فيض المشاعر يغلبها. "كان المشهد خيالياً. أمي صرخت الله أكبر وارتمت بين أحضان أخي، أختي سامية سارعت أيضاً نحوه وحضنته"، تروي نجود والدموع ترطّب خدّيها السمرواين. تتابع: "من كان حاضراً وقتها بكى حين شهد لحظة اللقاء، كان مشهداً لا يمكن وصفه، هي لحظات لا تتكرر ولا يمكن نسيانها".
"كان يوماً كالحلم"
لا يزال نصر أيار/مايو طريّاً غضاً، باهراً وحابساً للأنفاس بعد 22 عاماً، كما لو أنه كان بالأمس. صالحة ذيب، ابنة قرية العديسة أيضاً، تستذكر بهجة الناس في ذلك النهار: "الفرحة كانت كبيرة بعودة الأقارب إلى الجنوب، علَت أصوات زمامير السيارات وارتفعت رايات النصر، لا سيما أعلام حزب الله والعلم اللبناني. كنا نرى وجوهاً غابت عنّا لسنوات، أولاد غادروا وعادوا شباباً".
تستفيض الامرأة الخمسينية في وصف تلك المشاهد: "الزحمة كانت كثيفةً على الطرقات، رأينا الفرحة في عيون من كان محروماً من الدخول إلى المنطقة، وفي من عمّت السعادة في قلبه حينما رأى أهله. اللقاء والسلام والأحضان كانت سيدة المشهد، الناس توافدوا إلى هنا من طريق مركبا والطيبة والقرى المجاورة، بعدما علموا أنّ الطرقات باتت مفتوحة".
"قد ما أوصفلك ما بتصدقي، العالم كانت مدهوشة وعم تقول معقول هيدا اللي صار برا؟ كان يوم متل الحلم"، تُكمل صالحة بعينين حالمتين. أخوها قاسم الذي كان مُبعداً أيضاً إلى بيروت، يستحضر صدمته حين تلقى أنباء التحرير: "تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد أقربائي يخبرني أنه وصل إلى الجنوب، ظننت أنه يمازحني ولم أصدّق ما قال، فذلك لم يكن ممكناً، حينها فتح قريبي سماعة الهاتف وأسمعني أصوات الزغاريد والتهليلات التي تصدح من حوله، حينها أدركت أنّ الحلم تحوّل إلى حقيقة. تركت عملي وانطلقت مسرعاً إلى القرية للقاء أهلي".
"لم ننَم ليلتها من الفرح"
في تاريخنا الكثير لنرويه. هو تاريخٌ حافلٌ بالنصر. قصص الـ25 من أيار/مايو بالذات، كثيرةٌ، وآسرة. الحاجة أم داوود ترمس، كان تجلس في منزلها في بلدة الطيبة حين وصلها خبر من أهالي القرية بأنّ الجنوب تحرر، وأنّ جنود العدو المحتل قد اندحروا عن أرضهم. بالرغم من تقدّمها في العمر وضعف ذاكرتها، إلا أنّ بهجة هذا اليوم تتردّدُ في كلّ زاوية من زوايا وجدانها.
"قطفتُ الورود والنعنع وبعض الأعشاب العطرية من الحديقة ورميتها على شباب المقاومة"، تقول أم داوود. مشَت الحاجة الثمانينية مع مسيرات النصر التي اجتاحت القرى الحدودية احتفالاً بالتحرير، ووزعت الحلوى وراحة الحلقوم ابتهاجاً بالانتصار. "ذاعوا في جامع الضيعة خبر النصر: اللي مش عارف يعرف، قلّعنا إسرائيل من هون"، تضحك أم داوود وهي تستذكر ذاك الإعلان، ثم ما تلبث وأن تكمل: "ردّدنا أغاني الفرح برحيل عدوّنا وهتافات الموت لإسرائيل، زغردت مع النسوة في الشارع، وتجمعنا طويلاً في الساحات. لم ننم ليلتها من الفرح".
التحرير كفكرةٍ سوريالية
ذكريات هذا اليوم المجيد ليست حكراً على المسنّين فقط. فهناك جيلٌ شاب عرف أيضاً معنى الحق باكراً، وأدرك معنى العزّ في أولى محطات حياته. الشاب حسن شحادي، عايش تلك الأيام وهو لم يكد يبلغ الـ14 من عمره. يستذكر حسن الأيام التي سبقت يوم التحرير: "بعد الـ20 من أيار، كانت أخبار العمليات في الجنوب تتزايد وأخبار فرار العملاء تزيد أيضاً، كنت أشعر بالحماسة لفكرة التحرير لكنها كانت سوريالية، أو شبه مستحيلة في ذهننا".
في تلك الفترة، كان حسن لا يزال طالباً في المدرسة. كانت قرى الجنوب بدأت تتحرر توالياً، وبدأ رفاقه من القرى المحتلة بمغادرة المدرسة في بيروت للعودة إلى قراهم. "كان من الواضح أنّ حدثاً استثنائياً يجري، وكنت بانتظار أن يصل الدور إلى قرية والدتي مركبا كي نزورها"، يوضح حسن. لم يطل الأمر حتى وصله النبأ، وتحررت مركبا المجاورة للعديسة والطيبة.
في طريقه إلى الجنوب، مرّ سريعاً في ذهنه ما حلّ على أهل تلك البلدات من ويلات. "لدى مروري في الطرقات نفسها التي كنت أمرّ فيها حينما كانت القرى محتلة، وعلى المعابر التي كان جنود الاحتلال يجبروننا على التوقف عندها لاستجوابنا، والتي لم تعد موجودة، تسارعت هذه المشاهد في ذهني، وكنت أستحضرها بمرارة خلال رحلتنا". يوضح حسن تبدّل المشهد: " السيارات التي كنا نتكدس فيها سابقاً خائفين، كباراً وصغاراً، بات يعلو منها هتافات التكبير ورايات النصر".
يسرد الشاب الجنوبي لحظات اقترابهم من الشريط الحدودي المحاذي لفلسطين: "لدى وصولنا إلى بوابة فاطمة (معبر حدودي سابق)، سأل عمي: وين صرنا، هيدي الحدود؟، فأجبته نعم، هنا فلسطين". توقف حسن قليلاً وابتسم: "لا يمكنني نسيان هذا المشهد، ترك عمي مقود السيارة، وبدأ بالتكبير والبكاء والتصفيق، وعلت صيحاته. هي من اللحظات التي أعجز عن وصفها".
اختلف المشهد كثيراً قبل الـ25 من أيار وبعده في ذاكرة حسن، وسائر الجنوبيين. كانت الأرض محرّمةً على أصحابها، ينظرون إليها بحسرةٍ وشوق، ويلقون عليها التحية من بعيد. إلا أنّ بطولات المقاومين ودماء الشهداء حوّلوا وجود الاحتلال على تراب الجنوب جحيماً لا فكاك منه، حتى عادت الأرض إلى أهلها، يدخلونها بسلامٍ آمنين.