إعصار دانيال في درنة.. عن مآسٍ لم تسجلها الكاميرات

تقول نورهان "فقدت صديقة الجامعة وابنها وزوجها، فقدت زملائي الاثنين من متطوعي الهلال الأحمر، فقدت زوجة عمي ، ابن عمي، ابنة عمي. كلهم جرفهم السيل، الجيران جميعاً.. لايسعني حصر الأسماء".

  • إعصار دانيال في درنة.. عن مآسٍ لم تسجلها الكاميرات
    مع أكثر من 11 ألف ضحية و 10 آلاف مفقود على الأقل لايزال أهالي درنة الليبية يعيشون آثار الصدمة النفسية، ولاسيما آلام الفقد، ووضع التهجير القسري الجديد.  

بعد مضي أسبوع على إعصار دانيال الذي ضرب شرق ليبيا، بدأ حجم الكارثة الحقيقي يتكشف، متجاوزاً 11 ألف فرد.

الهلال الأحمر الليبي في بياناته أكد "وفاة أو فقد 8% من سكان المدينة، ومسحت ربع أحيائها من الخريطة، في  معدّل غير مسبوق لمدينة عربياً، أو حتّى عالمياً"، واعتبرت الفيضانات "الأسوء في القرن الـ21"، خاصةً بعدما كشفت فرق الغواصين عن سيارات غارقة بعائلاتها.

فاقت أرقام المأساة حجم خسائر فيضانات "باب الوادي" بالجزائر في عام 2001، بل وحتى فيضانات الهند في عام 2013 التي توفي فيها آلاف البشر.

كذلك، فُقِد نحو 10 آلاف آخرين، على أقل تقدير، في مدينة يُقدر عدد سكانها بنحو 120 ألف نسمة، أمّا عدد الذين هُجروا، فقدرته المنظمة الدولية للهجرة بنحو 30 ألفاً. 

  • نورهان الطشاني تتحدث عن مآس رواها الناجون مؤكدة أن كل بيت في درنة فقد عزيزاً

ابنة مدينة درنة والناشطة مع الهلال الأحمر الليبي في لجنة نزع الألغام ومخلفات الحرب، نورهان الطشاني، تتحدث للميادين نت، بصفتها ابنة المدينة، واصفة مشاهد مروعة عاشها أهل درنة، ولازالوا يعيشون آثارها النفسية، ولاسيما آلام الفقد، ووضع التهجير القسري الجديد. 

تقول نورهان، أن لا أحد في درنة كان يتوقع حدوث هذه الكارثة، ولم تكن أحوال الطقس يوماً "بهذا العنف". كان الجميع، "يتوقع عاصفة عادية وفي أسوأ الأحوال ارتفاع لمستوى البحر ليس إلا".

ماذا حصل

تقع مدينة درنة فوق ما يعرف بـ"المروحة الغرينية"، أو "المروحة الطميية" وهي مصطلح يشير إلى المكان الذي يتشكل عند قاع سلاسل الجبال، بواسطة الرواسب التي تجرفها الأنهار أو الفيضانات، عبر وادٍ يبقى جافاً معظم أيام السنة.

ويقول الباحثون إنّ هذه الطبيعة تجعل من مدينة درنة عرضة لخطر الفيضانات بشكل دائم، وهو ما تعرضت له عندما جرفت الفيضانات عام 1941، الجنود الألمان الذين تمركزوا على مشارف درنة مع عرباتهم.

وبالرغم من المخاطر الطبيعية، عانت درنة، من بنية تحتية منهكة، نتيجة المعارك التي شهدت أعنفها، خلال فترة سيطرة "داعش".

  • درنة.. مآسٍ لم تسجلها الكاميرات
    درنة إبان الحرب العالمية الثانية بعد أن كانت مسرحاً لمعارك بين الجيشين البريطاني والألماني (أ ب - أرشيف)

اعتادت المدينة أن تحتمي من المياه المنحدرة بشدة من الجبال، بسدين، أولهما هو سد درنة (سد سيدي أبو منصور) الموجود في وادي الشواعر، والذي يبعد أكثر من 15 كم عن البحر، وعن عمارة برج الشاطئ الكبيرة التي انهارت. 

أما السد الثاني، فهو سد البلاد، وهو الأقرب للمدينة، ويقع بين جبلين، يحتضنان أحياء شيحة وباب طبرق، التي لم تتضرر لارتفاعها. 

في يوم واحد بلغت معدلات هطولات الأمطار ما يعادل عاماً كاملاً، ما شكل ضغطاً هائلاً على البنى التحتية، و أدى إلى انفجار السد الأول، وضاعف الضغط على السد الثاني الذي انهار بدوره سريعاً، وزادت شدة انحدار الوادي من قوة السيل ووزن المياه، فجرفت كل ما لاقته في طريقها، في دائرة شملت 5 إلى 6 أحياء. 

يقدر الخبراء أن 30 مليون متر مكعب من المياه اندفعت عند انهيار السد، ومع هذا الكم الهائل من الماء المنحدر، تنقل الطشاني للميادين نت روايات بعض الناجين ممن تعرفهم، عن شعورهم باهتزاز الأرض تحتهم، قبل وصول السيل، ظانين أن هزة أرضية، رافقت الإعصار. 

كلهم جرفهم السيل

يعاني كل أهالي درنة دون استثناء من صدمة نفسية عنيفة، من جراء فقدان أحبتهم وما شهدوه خلال الإعصار، وأغلبهم يعاني في استيعاب ما حصل وكأنه حلم. 

تؤكد الطشاني للميادين نت بأن كل العائلات دون استثناء "فقدت بعض أو أغلب أفرادها".

وعن تجربتها الشخصية ، تقول بحزن "فقدت أخي رحمه الله. كان يسكن من جهة مدخل درنة باتجاه البحر، وبمسافة كبيرة جداً عن السد، لكنه لقي حتفه نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر".

وتتابع الحديث عن كمية الضحايا الهائلة في قبيلتها، بين أقاربها وعمومتها، مضيفة أن "7 عائلات مع أطفالها لقيت حتفها". 

تتوقف لحظة عن الكلام ثم تكمل: "فقدت اثنتين من صديقاتي في الشارع المجاور، فقدت صديقة الجامعة وابنها وزوجها، فقدت زملائي الاثنين من متطوعي الهلال الأحمر". وتضيف: "قبل أسبوع فقط، كنا نعطي ورشاً تدريبية وأخذنا صورة "سيلفي"، دون أن نتوقع أنها ستكون الأخيرة. 

وتتابع: "زوجة عمي، ابن عمي، ابنة عمي.. كلهم جرفهم السيل، جرف بيت جدي، انهارت العمارة بالكامل. الجيران جميعاً. لايسعني حصر الأسماء".

قصص النجاة

تروي نورهان للميادين نت قصة صديقتيها يتيمتي الأب والأم، مريم وإيمي الغيثي، كيف اضطرتا إلى حمل إخوتهم الصغار والقفز بهم من مكان إلى آخر وسط المياه، ثم النجاة بأعجوبة، بينما يضع "أحدهم أصابعه في أذنيه من شدة الخوف من صوت المياه".

كذلك، تنقل قصة أخوين من أقاربها، حاولوا الهرب مع أطفالهم، وزوجاتهم، فما لبث أن جرف السيل طفلة أحدهم، فحاول والدها إنقاذها، إلا أن الماء كان أقوى منه وجرفه مع ابنته. عندها حاول أخاه إنقاذه، وكاد السيل أن يجرفه أيضاً لولا تمسُّك من بقي من العائله به وإنقاذه. 

عائلة أخرى من الأقرباء، شقت طريقها للنجاة عبر سلم نقلته معها بين السطوح القريبة، مع قفزات ودفعات من الأب، وما رافقها من جروح ورضوض للوصول إلى بر الأمان. 

في مكان آخر من درنة، التي تتشكل بأغلبها من المنازل ذات الطابق الواحد، تسكن خالة نورهان مع أطفالها. تنقل الأم كيف بدأت المياه تتفجر من مصارف منزلهم بشكل عكسي وتفيض عليهم. هرعت الأم وبناتها لتجفيف المياه، بينما كان منسوب الماء في الخارج يرتفع دون علمهم.

لحظات، وانفتح باب الدار بقوة الماء جارفاً إلى داخل المنزل "جثة شخص ابتلعه السيل". هنا أدركت العائلة حجم ما يحصل، وهرعت الأم خارج المنزل مع بناتها، دون أدنى متعلقات شخصية أو ثياب احتياطية أو أوراق ثبوتية. 

لايزال أهل درنة يروون مئات، وربما آلافاً من القصص المؤلمة، التي لم يتخيلوا قبل أسبوع واحد فقط، أنهم سيعيشونها. 

تحديات مستجدة

لم تشهد درنة، على عظم ما حل بها، تضامناً دولياً يوازي حجم الكارثة. ومع قلة أعداد فرق الإنقاذ، تعاني تلك الفرق من نقص واضح في المعدات، وخاصة تلك التي تحمل تقنيات متطورة، علماً أنّ مهمة فرق الإغاثة تنحصر بالكشف عن وجود الجثث، وليس رفعها. 

كذلك، تبرز مشكلة توثيق أعداد الضحايا وبياناتهم. ولاتزال البلاغات تتدفق عن المفقودين إلى ناشطين مجتمعيين من أهالي درنة، بادروا عبر منصاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي لتأدية دور تنسيقي، كون أهالي درنة بمعظمهم يعرفون بعضهم البعض، في ظل غياب غرفة عمليات مركزية، وتعدد الجهات العاملة على الإنقاذ في المدينة. 

معاناة الناس اليوم

تصف نورهان للميادين نت وضع السكن في المناطق المتضررة من الطوفان، بأن "كل البيوت غير صالحة للعيش"، مضيفة أن الأهالي نزحوا إلى مناطق أخرى من المدينة الأكثر ارتفاعاً مثل "الساحل الشرقي وباب طبرق وشيحا".

وتصف وضعهم بالمأساوي كونهم يعانون من شح في مياه الشرب وانقطاع مستمر في الاتصالات، وفقدان للكهرباء، بالإضافة إلى صعوبة إيصال الإغاثة إلى القسم الشرقي، الذي بدأ يعاني بدوره من شح بالمؤن.

تختم نورهان حديثها بأن "القدر شاء لدرنة أن توحد ليبيا بدمائها"، وحتى لو كانت التكلفة كبيرة بهذا القدر.

وتتمنى أن تستمر هذه اللحمة والتنسيق بين كل المؤسسات في شرق وغرب ليبيا، كما يحصل الآن، ويعمل الجميع من أجل مصلحة ليبيا الموحدة التي تضم الجميع، والتي تعب أبناؤها من واقعهم الحالي. 

اقرأ أيضاً: ليبيا: إعلان حالة الطوارئ لمدة عام في المناطق المنكوبة بالفيضانات

اخترنا لك