لماذا لم تنهار الملكية البريطانية كنظيرتها الفرنسية؟
في اللحظة التي تُوُفِّيت الملكة، انتقل العرش على الفور إلى وريثها تشارلز ، وظهر الحديث، مرةً جديدة، عن كيفية قدرة النظام الملكي البريطاني على الاستمرار، في عصر انتهت فيه المَلَكية.
متانة الملكية الإنكليزية هي واحدة من أكثر خصائصها، التي لوحظت على نطاق واسع. ومن بين جميع الملكيات الإمبراطورية في أوروبا، قبل عام 1914، ظلّت بريطانيا محافظة ولو شكلياً على هذا النمط.
على مر السنين، أظهر النظام الملكي البريطاني قدرةً ملحوظة على الاستجابة للتحديات الداخلية، وتقديم التنازلات في اللحظة المناسبة، ومن ذلك التكيف مع مطالبات النقابات القوية في أوروبا، والاستفادة من مردود الاستعمار لتحسين الظروف المعيشة الداخلية.
قبل فترة طويلة من عام 1832، أُعيد تشكيل النظام الملكي كنظام دستوري. وقبل القرن الـ 18، كانت سلطاته محدودة بموجب القانون. من نواحٍ كثيرة، كانت الفترة الرئيسة لتحديد المسار المستقبلي للملكية البريطانية - كما كان من المقرر أن تصبح - هي أواخر العصور الوسطى. ففي الفترة الممتدة من عام 1215 إلى عام 1500 ، تم وضع أسس نظام حكم تعاون فيه الملك واللوردات وعموم الناس جميعاً من أجل الصالح العام. وساهمت الروابط، التي أقيمت آنذاك بين "الرأس" و "الأعضاء" في الجسم السياسي، في الاستقرار في المدى الطويل.
كيف غيرت "ماغنا كارتا" النظام الملكي؟
كان الحدث، ذو الأهمية الكبرى لثروات النظام الملكي، هو قبول الملك جون (1117-1216)، "ماغنا كارتا" في عام 1215. "ماغنا كارتا" وثيقة من القرن الثالث عشر تكرّس حقوق رجال الدين والنبلاء وامتيازاتهم وحرياتهم، وتضع قيوداً على قوة التاج. تتعامل معظم البنود الـ 63 مع إدارة العدالة، وتفاصيل الحقوق والعادات الإقطاعية.
وكان خضوع جون للبارونات يدلّ على استعداد النظام الملكي لقبول تقييد القانون. وحتى عهده كانت سلطة التاج لا تعرف القيود. وضع الملك القانون ونفّذه وأنشأ حكومة، لكن كان في إمكانه أيضاً تجاوزه، عندما يلائمه ذلك. "ماغنا كارتا" غيرت ذلك إلى الأبد.
لكن، مع ابنه هنري الثالث تغير الوضع. ما فعلته الحكومة وقتها، بقيادة ويليام مارشال، هو الاستيلاء على الميثاق، وتجريده من بنوده الأكثر إثارة للجدل، وإعادة إصداره تحت سلطة الملك الجديد. وبهذه الطريقة، أصبح، كما يوصف في كثير من الأحيان، أول قانون إنكليزي.
كان أثرُه وضع النظام الملكي تحت القانون المكتوب. وكما كان يقول المفوض، المعروف باسم "براكتون"، في عام 1230، فإن "الملك أقل من الله وتحت القانون". أمّا في أماكن أخرى من أوروبا، فلم يكن يوجد موازاة دقيقة لهذه العلاقة بين الملك والهيكل القانوني. والجدير بالذكر، أنه لم يكن هناك ما يعادل "ماغنا كارتا" في فرنسا، أو بالأحرى كان النظام الملكي هناك أكثر عناداً في تقديم التنازلات للاحتجاجات التي لم يكن يدرك أنها لن تتوقف.
وفي أواخر القرن الثالث عشر، ومع الملك إدوارد الأول، كانت العلامات تشير إلى أن الملكية الإنكليزية هي التي ستطور خصائص الاستبداد. لكن بعد مئة عام، انعكست الأدوار. كانت الملكية الفرنسية هي التي ترتدي زخارف الحكم المطلق، بينما كانت نظيرتها الإنكليزية تكتسب عادة التفاوض مع رعاياها، وهو ما أدى إلى التغيير في الطريقة التي تفاعلت بها الحرب مع النظامين السياسيين الوطنيين في كِلا البلدين.
خلقت حروب أواخر العصور الوسطى، ولاسيما الصراع الذي عُرِف لاحقاً باسم حرب الأعوام المئة، مَطالبَ غير مسبوقة للحصول على القوى العاملة والمال. وبحلول أوائل القرن الرابع عشر، لم يعد من الممكن لملك، مثل إدوارد الأول أو إدوارد الثاني، أن يتحمل تكلفة الحرب فقط من إيراداته العادية: الحوادث الإقطاعية والدخل من الأراضي الملكية. وهو ما أدّى إلى وضع نظام للمالية العامة. في كل من بريطانيا وفرنسا، كانت مؤسسات الإدارة المالية موجودة بالفعل، ولكل منهما خزانة مركزية يمكن دفع الضرائب إليها، وخزانة تكفل مساءلة المسؤولين عن أموالهم. ما كان مطلوباً، لتكملة هذه القوانين، هو مجموعة من الأفكار لتبرير قيام الحاكم بمطالب مالية على رعاياه.
ما هو "مجتمع الناس"؟
في بريطانيا، تطوّرت هذه الهيئة. وفي مفهوم "مجتمع الناس"، وجد المفكرون وسيلة للجمع بين الحاكم والمحكومين في التزام متبادل. كان يتوجب على الملك توفير الربح المشترك، في حين أن رعاياه كانوا ملزمين، بالمثل، بمساعدته في هذا الواجب. وفي حالة وجود تهديد للربح المشترك - الذي يتم تحديده بصورة متزايدة في الحرب - يمكن للملك أن يطلب المساعدة المالية من رعاياه. وبما أن الخطر يمس العالم بأكمله، فإن موافقة "الجمعية التمثيلية"، أي البرلمان، باتت مطلوبة.
تم منح الضرائب في إطار مبدأ الضرورة في القانون الروماني، وهذا يعني أنه بمجرد الاعتراف بالضرورة - التي تشكل تهديداً للمملكة - لا يمكن قبول الرفض الكامل للضرائب، بل يمكن المساومة بشأن حجم المنحة فقط. وفي الوقت الذي كان التاج رمزاً للمملكة، كان البرلمان هو الذي ظهر كتعبير مؤسسي عن المملكة، بحيث فصَّل مطالب الحاكم التي تأخذ حيز المصلحة العامة. ومن خلال تطوير مبدأ التمثيل الوطني بالتوازي، مُنح المنتخبون لعضوية مجلس النواب في البرلمان سلطة التحدث باسم من يمثلونهم. كان الناخبون والمنتخبون مترابطين معاً.
أما في فرنسا، لم تكن مطالب تمويل الحرب أقل انتظاماً أو كثافة، ولم تكن أفكار المنظّرين أقل تطوراً. ومع ذلك، كانت الوسائل المؤسسية لتأمين الموافقة على الضرائب العامة أقل تعقيداً بكثير. لم تكن هناك "جمعية وطنية" ذات اختصاص كلي، على غرار البرلمان الإنكليزي.
وبحلول القرن الخامس عشر، تبيّن أن الهيكل المتداعي غيرُ قادر على الاستجابة لاحتياجات اللحظة. مع تهديد المملكة بالغزو من جانب الإنكليز، بدأ ملك فرنسا تشارلز السابع (1422-1461) بجمع الضرائب من دون موافقة أحد. واستشهد بالخطر المشترك كمبرر له، وقدّم نفسه على أنه تجسيد للهوية الفرنسية. لم تقدَّم إليه ممتلكات المملكة، ولم تسانده جمعياتها في المقاومة.
وبحلول أواخر القرنين الـ15 والـ16، كان الملك الفرنسي يحكم من دون موافقة شعبية. وفي المدى القصير، يمكن القول إن هذا ما جعل النظام الملكي أقوى. لكن في المدى الطويل، ساهم في ضعفها، وفي نهاية المطاف أدى إلى زوالها.
الملكيات وعبء الضرائب
إن التاريخ المالي المتباين كثيراً للملكيتين الإنكليزية والفرنسية له أيضاً صلة مهمة جداً. في فرنسا، كان معدل فرض الضرائب الملكية المباشرة أضيق كثيراً مما كان عليه في بريطانيا. وكان أحد أكثر الامتيازات للنبلاء الفرنسيين، أي الفرسان، هو الإعفاء من الضرائب. كما لم تدفع الطبقات العليا ضريبة الأرض أو ضريبة الملح أو ضرائب أخرى. ونتيجةً لذلك، فإن النصيب الأكبر من عبء الضرائب كان يقع على عاتق الفقراء.
وفي الوقت نفسه، وجدت الملكية الفرنسية صعوبة متزايدة في تغطية نفقاتها من الضرائب، إذ كانت تكلفة الحرب تتزايد بسرعة. وفي عهد لويس الرابع عشر، ارتفعت الميزانية العسكرية من 54 مليون ليفر في عام 1687 إلى 103 ملايين ليفر بعد عامين، و138 مليوناً في عام 1692. وعليه، بات الخراب المالي سبباً رئيسياً عجّل في اندلاع الثورة في عام 1789.
أمّا في بريطانيا، فتمّ، على النقيض من ذلك، تضمين النبلاء دائماً في شبكة الضرائب. وكان من علامات قوة الملكية الإنكليزية أنها كانت قادرة على وضع ضرائب عالية. ونتيجة إعفاء النبلاء الفرنسيين من الضرائب، لم يعد هناك أي مصلحة لهم في مقاومة المطالب الملكية، بل دعموها لأنهم على علم بأن الطبقات الدنيا هي التي ستدفع. وبحلول القرن الـ 16، كانت الحكومة الملكية الفرنسية مفترسة بصورة متزايدة في طابعها، وأثقلت كاهل الطبقات الدنيا برسوم أكبر من أي وقت مضى. ونتيجةً لذلك، أصبحت الرتب الدنيا مستاءة، وكان المجتمع الفرنسي منقسماً بين أغلبية فقيرة وأرستقراطية متميزة، مرتبطة بتحالف وثيق مع النظام الملكي.
نبلاء المغامرون
تأسس المجتمع في فرنسا الحديثة على الرتبة والامتياز إلى حد أكبر مما كان عليه في بريطانيا. وكانت الرتبة في باريس يُعتز بها، وأولئك الذين لديهم هذه الصفة يتجنبون القيام بأي شيء قد يؤدي إلى ابتعادهم عن فكرة "النبلاء"، وكان لذلك أثر في تثبيط مشاريع التجارة أو الصناعة.
أما في بريطانيا، كان مفهوم النبلاء مغايراً كثيراً، حتى لو كان نمط الحياة متشابهاً، إذ وعلى النقيض من ذلك، لم يكن النبلاء مقيَّدين بمثل هذه القيود. لقد أظهروا أنفسهم قادرين ومستعدين للانخراط في المشاريع. وهكذا كان الهيكل الاجتماعي، الأكثر انفتاحاً ومرونةً في بريطانيا، عاملاً رئيساً في خلق مجتمع متماسك ومستقر سياسياً.
في المجتمع الإنكليزي تم ربط "الرأس" و"الأعضاء" في علاقة الاعتماد المتبادل. وبات فرض الضرائب، المتجذر في الموافقة المشتركة، يعترف بالتزامات الملك والشعب، أحدهما تجاه الآخر.
قوة بريطانيا الملكية
تدين القوة الحالية للنظام الملكي بالكثير بسبب إنجازات الملوك في القرن الماضي. نجح الملك جورج السادس في استعادة هيبة النظام الملكي بعد أزمة التنازل عن العرش في عام 1936. أمّا الملكة إليزابيث الثانية فقامت بتتبع أقرانها، في عهدها الطويل. وإذا كانت بريطانيا مثالاً بارزاً على نظام ملكي دستوري ناجح اليوم، فذلك يرجع إلى حد كبير إلى الأنماط الاجتماعية التي تأسست قبل نصف ألف عام.
إليزابيث الثانية شاركت في السياسة، وقامت بوضع أسس عميقة لدولة عملت على أن تظل هي ملكتها. لكن، مع مرور الوقت، تراجعت شيئاً فشيئاً عن دورها الفاعل، من أجل المحافظة على مكانتها، وتخلت عنه لمصلحة الدورة الحديثة لديمقراطية الشعوب الحالية.
يرفض الكثيرون النظام الملكي باعتباره أثراً إقطاعياً، لكن بعض الديمقراطيات الأكثر تقدماً في العالم هي أيضاً لا تزال تحت هذا النظام. كما أنه تقليدٌ لا يزال قوياً حول الحافة الغربية لأوروبا، ومن ضمنها الدنمارك، النرويج، السويد، بلجيكا، لوكسمبورغ، هولندا، إسبانيا، وأخيراً المملكة المتحدة. ورغم أن أغلبية الملكيات الأوروبية الأخرى اختفت عند نهاية الحربين العالميتين الأولى أو الثانية، إلّا أنَّ الملكيات المتبقية نجت من خلال السماح لسلطتها السياسية بالتقلص إلى قرابة الصفر سياسياً، ومن خلال الاستجابة الشديدة للرأي العام.
وعلى الرغم من أن النظام الملكي وراثي، فإنه يخضع للمساءلة، تماماً مثل أي مؤسسة عامة أخرى. كما يخضع جزء من ملكياته للتمويل العام، والذي يمكن أن ينخفض أو يرتفع. كما تُكلَّف وسائل الإعلام إِجراءَ استطلاعات رأي منتظمة، وتبين أن التأييد لا يزال مرتفعاً في جميع البلدان، بحيث تُظهر الدراسات الاستقصائية أن بين 60 و80% من الناس يرغبون في الاحتفاظ بالنظام الملكي.
سوف تسلط وفاة الملكة الضوء على أمرين: أولاً، قوتها كرمز للشعب البريطاني. ثانياً، أن عجلات الدولة ستستمر في الدوران من دونها. يرث تشارلز الآن لقباً وأراضيَ. وسيمنح إجازته لتشكيل حكومات جديدة بعد الانتخابات المقبلة. لكنه يقوم بذلك، في ظل إليزابيث التي تحظى بشعبية بين البريطانيين. وعلى الرغم من أنه كان أفضل حالاً مما كان عليه في الماضي، فإنه لم يكن يتمتع بشعبية كبيرة مثل والدته الراحلة، التي احتفلت بيوبيلها البلاتيني وأصبحت الملكة البريطانية الأطول خدمة.