أسرى الاحتلال لدى المقاومة الفلسطينية.. من صفقات التبادل إلى الردع

المقاومة الفلسطينية تكرّس معادلة ردع جديدة في إدارتها لملف الأسرى، عبر الحرب النفسية التي تمارسها والخطوط الحمراء التي تضعها، وصولاً إلى الشروط التي تفرضها في أيّ صفقة تفاوض جديدة.

  • أسرى الاحتلال لدى المقاومة الفلسطينية.. من صفقات التبادل إلى الردع
    أسرى الاحتلال لدى المقاومة الفلسطينية.. من صفقات التبادل إلى الردع

في وقت يوصف بالحسّاس جداً بالنسبة إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي، نظراً للأزمات الداخلية المتصاعدة التي يعاني منها، اختارت كتائب القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، كعادتها التوقيت الدقيق، لإرسال رسالة مدوّية إلى حكومة الاحتلال، لا تقلّ مفاعيلها وآثارها عن ضرباتها الصاروخية.

ففيما يغادر رئيس الأركان أفيف كوخافي منصبه، بعد وعود سابقة قطعها بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الأربعة، عرضت كتائب القسّام، رسالة مصورة للجندي الإسرائيلي الأسير لديها أفرها منغستو، مسلّطةً بذلك الضوء، على كذب كوخافي على شعبه وحكومته، بإنجازات مدعاة وموهومة. وأرفقت الفيديو بعبارة ساخرة تقول: "أنا آسف جداً أني لم أتمكن من إنجاز ملف الجنود في فترتي".

وهنا، لا بدّ من الإشارة، إلى أنّ  الاحتلال لطالما زعم أنّ الجندي "منغستو" مريض عقلياً، لكنّه في فيديو القسّام يتحدّث بكامل قواه العقليّة، وهو ما يدحض ادعاءات قيادة الاحتلال ويكشف عدم تعاملها بجدّية مع ملف الجنود الأسرى لدى المقاومة.

لم تتوقف رسالة القسّام عند هذا الحد، بل دعت خلفه رئيس الأركان الجديد هرتسي هليفي إلى أن يعدّ نفسه لحمل أعباء هذا الفشل وتوابعه. وهو ما يبرز موقف المقاومة القوي في التعامل مع ملف الأسرى، وفرض معادلة جديدة على "جيش" الاحتلال في إدارة هذا الملف، بدءاً من النقطة الأولى والمتمثلة بعملية الأسر، وصولاً إلى التكتيك المتّبع في إدارة المفاوضات، وتحقيق النصر.

عمليات نوعية في أسر جنود إسرائيليين

لا يمكن الحديث عن الأسرى الإسرائيليين الأربعة الموجودين لدى المقاومة الفلسطينية اليوم، من دون التطرق إلى عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، والتي نفذت خلف "خطوط العدو"، وهي واحدة من أعظم عمليات الأسر التي نجحت فيها المقاومة الفلسطينية في 25 حزيران/ يونيو 2006، في عملية نوعية من داخل دبابته في موقع إسناد صوفا شرق رفح جنوب قطاع غزة، والتي توّجت لاحقاً بإنجاز صفقة "وفاء الأحرار"، وتحرير 1027 أسيراً عام 2011، بعد أن تمكّنت المقاومة من الاحتفاظ به في أصعب الظروف الأمنية لمدّة 5 سنوات، وصولاً إلى إرغام الاحتلال القبول بشروطها.

وتحتفظ حركة "حماس" بـ4 أسرى إسرائيليين، بينهم جنديان أُسرا خلال الحرب على قطاع غزة صيف عام 2014، وهما شاؤول آرون (20 تموز/ يوليو 2014)، وهدار غولدن (آب/أغسطس 2014).

 أمّا الآخران أباراهام منغستو (7 أيلول/سبتمبر 2014) وهشام السيد (في نيسان/أبريل 2015) فقد دخلا القطاع في ظروف غير واضحة. وترفض الحركة الكشف عن أيّ تفاصيل تتعلق بهما من دون دفع الاحتلال الثمن.

  • من الأسر إلى فن التفاوض..
    "القسّام" تنشر صورة يظهر فيها الجنود الإسرائيليون الأسرى في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2018

وفي قراءة سريعة للعملية التي تمّ خلالها أسر شاؤول آرون، فقد كانت عملية عسكرية نفذتها القسّام، استدرجت فيها قوّة صهيونية خاصة حاولت التقدم شرق حي التفاح شرق غزة، ونجح الاستدراج ووقعت القوة في حقل الألغام المعدّ مسبقاً، وأدت  إلى مقتل 14 جندياً إسرائيلياً من مسافة صفر، وأسر الجندي آرون من داخل آليته.

ولم تتوقف العملية على أسر الجندي آرون، فخلال معركة "العصف المأكول"، تمكّنت كتائب القسّام من أسر جندي آخر هو هدار غولدن، بعد اشتباك مسلّح في رفح في الأول من آب/ أغسطس عام 2014، خاضته الكتائب مع قوّة من لواء جفعاتي بعد تقدّمها شرق المدينة. وهو ما يثبت القوّة النوعية التي باتت تمتلكها المقاومة في إدارة المعارك، والاستدراج، وإعداد الأفخاخ والكمائن للإيقاع بأكبر عدد من الأسرى الإسرائيليين.

القسّام توقع الاحتلال في فخّ ضغوط جمهوره

"أمي، لماذا يقولون عني ميت؟"، رسالة وجهتها كتائب القسّام عام 2017، إلى أهالي الأسرى الإسرائيليين، وذلك ببثّ أغنية على لسان الجنديين شاؤول آرون وهدار غولدن، كانت كفيلة بهز الكيان الإسرائيلي، نتيجة الضغوط المتزايدة على حكومة الاحتلال، التي لطالما ادّعت أن الأسيرين قد قتلا خلال الحرب على القطاع عام 2014.

وتتزايد الضغوط من الأهالي على حكومة الاحتلال من أجل معرفة مصير أبنائهم، وإجراء صفقة تبادلية مع فصائل المقاومة، ويتّهمون الحكومة الإسرائيلية بالتقصير في هذا الملف. ورغم تنظيمهم لعدد من المسيرات والوقفات الاحتجاجية، في محاولة للضغط على حكومة الاحتلال، وتجنيد الرأي العام الإسرائيلي، لكنها لم تثمر عن أيّ نتيجة.

وتشكّل مثل هذه الانتقادات الإسرائيلية الموجّهة إلى دوائر صنع القرار، بعدم إبرام صفقة تبادل أسرى مع حماس، استمراراً لاتهامات متلاحقة للحكومة و"الجيش" والمخابرات بإهمال الأسرى وعائلاتهم، وترك الأخيرة وحيدة في مسيرتها لاستعادة أبنائها، ما يعني الإضرار بعقيدة "جيش" الاحتلال الإسرائيلي والتي تسعى لاستعادة جنوده من ساحة المعركة، وتجد العائلة نفسها وحيدة ومهمّشة في مواجهة حماس التي تخوض ضدّها حرباً نفسية تقوّض أركان الكيان الإسرائيلي.

أكثر من ذلك، فإنّ هناك شعوراً بالخيانة تجاه عائلات الأسرى الإسرائيليين من قبل الاحتلال، حيث تمارس الحكومة ووزراؤها حالة من التجاهل والتغاضي عن مطالبها، من خلال تخويفها بأنّ إطلاق سراح أسرى فلسطينيين جدد يخدم استراتيجية حماس على "اختطاف" مزيد من الأسرى الإسرائيليين، وصولاً إلى هدفها بعيد المدى بـ"تبييض سجون الاحتلال".

وفي تصريح لافت، يبرز حجم استياء أهالي الأسرى من أداء حكومة الاحتلال في إدارة هذا الملف، إذ قال تسور غولدن شقيق الأسير  هدار غولدن، "إنّ الدولة لم تترك لنا مجالاً لنعرف من هو العدو، نحن أم حماس التي تأسر هدار". وذلك بعد عرض كتائب القسّام في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2022، خلال مهرجان الانطلاقة الـ35، بندقية غولدن التي تحمل الرقم (42852351) والتي اغتنمها مجاهدو القسّام. فيما قال والد الأسير الإسرائيلي إنّ "تلويح حماس بسلاح ابنه يفقد الجيش قيمه".

  • القسام
    القسّام تعرض بندقية الأسير الإسرائيلي هدار غولدن 14 كانون الأول/ ديسمبر 2022

وأثار هذا الملف خلافات إسرائيلية داخلية، واتّهامات موجّهة إلى الأوساط السياسية و"الجيش" بإهماله، وصدرت جملة تقارير تكشف جوانب عديدة من هذا الإخفاق. وآخرها، ما أعلنه تقرير مراقب "الدولة" ماتنياهو إنغلمان الذي "اتّهم المنسق المسؤول عن ملف الأسرى والمفقودين بالحصول على راتب كبير من دون جدوى، كما أنّ لقاءاته مع عائلات الأسرى الإسرائيليين أتت خالية من المضمون".

ويؤكد تقرير مراقب "الدولة" في ضوء ما كشفه أنّ "المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين، لم يكن لديهما استراتيجية في ما يتعلق بأسراهم في غزة، بل إنّهما فوّتا الكثير من الفرص لطي صفحة هذا الملف، ربما لأنهما يخشيان التدخل والانخراط بجرأة في هذه القضية خوفاً من النقد العام والتكلفة السياسية".

ملف الأسرى: فن التكتيك والردع

التطور النوعي في إدارة ملف الأسرى، وتوقيت استخدام أوراق الضغط، وآليات الكشف عنها بسياسة "التنقيط" وفق الظرفية السياسية والعسكرية الميدانية، كلّها مخرجات كشفت عنها استراتيجية تعامل المقاومة الفلسطينية مع هذا الملف خلال السنوات الأخيرة.

فالحروب التي شهدتها غزة، كشفت النقاب عن القدرات الحقيقية للمقاومة، والتي لم تقتصر على الجانب العسكري والقتالي فقط، بل أضيف إلى ذلك القدرة الهائلة على فرض معادلة الردع، والخروج بأكبر قدر من المكاسب في ماراثونات الصفقات طويلة النفس.

وبدأت المقاومة في خوض معركة أقسى من المعركة العسكرية، متمثلة في الحرب النفسية، وما فيها من رسائل قوّة تكفي لإرباك الساحة السياسية الإسرائيلية. فعند بث أي شريط للأسرى الإسرائيليين، يسارع الاحتلال وأجهزته الأمنية والاستخبارية إلى تحليل مضمونه وفك ألغازه من دون أيّ جدوى.

وبعد أن كان العدو يرفض الدخول في أيّ مفاوضات للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ويعوّل على الخيار العسكري الذي أثبتت التجارب فشله، نجده اليوم يتراجع تدريجياً مع التطوّر النوعي في سلاح المقاومة، ونجاح الأخيرة في فرض معادلات جديدة على الأرض.

فالمقاومة الفلسطينية وعلى الرغم من الحصار وتهديدات العدو المستمرة، والحروب المتتالية التي شنّت على قطاع غزة، تصرّ على موقفها بأنّ أي معلومات في ملف الجنود الأسرى لن تكون من دون ثمن، وتؤكّد باستمرار أنّها لن تتردد في أسر مزيد من الجنود في أيّ مواجهة مقبلة، وأنّ ما لديها من أسرى لن يذوقوا طعم الحرية ما لم يذقه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، وصولاً إلى التهديد بإغلاق ملف مفاوضات تبادل الأسرى بشكل نهائي ردّاً على مماطلة "إسرائيل" المستمرّة، والتلويح باللجوء إلى طرق أخرى لتحرير الأسرى.

كما نجحت المقاومة في جعل كيان الاحتلال يدفع الثمن في كلّ مرّة، وأن يخصص موارد وأن يدير حملات عسكرية ودبلوماسية هائلة للضغط من أجل استعادة جنوده أو مواطنيه.

وواجهت المقاومة الفلسطينية كل المراوغات ومحاولات الابتزاز الإسرائيلية برفع سقف المطالب، حيث اشترطت أن تشمل الصفقة القادمة أسرى من قيادات الفصائل الفلسطينية وأسرى من ذوي المحكوميات العالية. ومؤخراً،أدخلت معادلة جديدة تمثّلت في أنّ "أيّ صفقة تبادل قادمة لن تتم إلّا بتحرير أبطال نفق الحرية"، وفي ذلك تحدّ جديد لحكومة الاحتلال التي ترفض الإفراج عن الأسرى المحكومين بالمؤبد أو مدى الحياة، أو الذين حاولوا الفرار. 

وما يكرره رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في مرات عديدة أنّ "الحركة لن تصبر طويلاً على بقاء الأسرى في سجون الاحتلال، وأنّه إذا لم يقتنع الاحتلال بالتوصّل إلى صفقة، فإنّ حماس ستجبره عليها، وتزيد الغلة عبر أذرعها الممتدة في كل مكان"، يؤكّد أنّ لدى المقاومة أوراق مساومة قوية لم تكشف بعد، وأنّ ملف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال سيكون الصاعق والمفجر للمفاجآت المقبلة مع العدو، وفق ما توعّد نائب قائد الأركان لكتائب القسّام مروان عيسى، في وقت سابق.

كل هذا يشي بأنّ مسألة الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، تجاوزت بكونها صفقة تبادل مع الاحتلال الإسرائيلي، لتدخل خلال السنوات الأخيرة، ضمن معادلات الردع التي تؤثر ليس فقط في الداخل الإسرائيلي المأزوم أصلاً، بل في مسار المعركة أيضاً. 

اقرأ أيضاً: الميادين في نافذة على "الجيش" الإسرائيلي.. كيف تحوّل إلى "جيش نصف الشعب"؟

اخترنا لك