التغطية الإعلامية في الخليج والحرب في مكان آخر
في وقت ينشغل العالم بأسره بتداعيات إسقاط طائرة من دون طيار أميركية في الخليج، تؤكد تصريحات ترامب الأخيرة ومواقفه الساعية وراء المزيد من أموال الحلفاء أن الحرب الحقيقية بالنسبة للولايات المتحدة في مكان آخر، وأدواتها أهم وأخطر بكثير من الرصاص والصواريخ.
لا شرعة موحدة تعرّف خطاب الكراهية عالميا. كما أنه لا قانون متفق عليه يحفظ بيانات شعوب العالم حقيقة.
وفي وقت ينشغل العالم بأسره بتداعيات إسقاط طائرة من دون طيار أميركية في الخليج، تؤكد تصريحات ترامب الأخيرة ومواقفه الساعية وراء المزيد من أموال الحلفاء أن الحرب الحقيقية بالنسبة للولايات المتحدة في مكان آخر، وأدواتها أهم وأخطر بكثير من الرصاص والصواريخ.
بعد سنوات من استخراج ومراكمة مخزون النفط التكنولوجي الجديد؛ أي "البيانات"، برزت الحاجة لإيجاد آليات وقوانين تضبط الفضاء الافتراضي وتردع الأضرار الاجتماعية الناجمة عن احتكار البيانات لدى جهة واحدة. لكن محاولات الحكومات لفرض الرقابة المباشرة اصطدمت بمعارضة الجماعات المدافعة عن الحريات، ما اضطر معظم الدول إلى الالتفاف والتلويح بالعقوبات على الشبكات الاجتماعية والتطبيقات نفسها كي تحثهم على التعاون وابتكار آليات لمكافحة ما لا يتناسب ومصالح الأنظمة. لا مكان للخصوصية الفردية في هذا المشهد.
الخطير في المسألة يكمن في أنّ الحكومات باتت شريكة دائمة في بيانات المستخدمين تحت عناوين الأمن القومي. ولا ينطبق هذا الحال على الإجراءات الوقائية فقط، فخدمة "فايسبوك" المرتقبة في إطلاق عملتها المشفرة على سبيل المثال ستنقل عملياً السلطة على أموال المستخدمين من المصارف المركزية إلى الشركات الخاصة العابرة للحدود. وهذه الشركات بمعظمها أميركية وتخضع للقوانين الأميركية بشكل كامل.
ولا تقف حدود هذه المسألة عند تغيير شكل الاقتصاد عالمياً وحسب، بل إن إطلاق عملة رقمية تستند إلى قوة الدولار ستعني حكماً التحكم باقتصاديات الدول النامية والفقيرة التي تعاني عادة تذبذباً في قيمة عملاتها المحلية. ما يعني أن تأثير "فايسبوك" سيطال السياسة حكماً بشكل مباشر أكثر.
ما تخطط له "فايسبوك"، وسيتبعها به آجلا أم عاجلًا "غوغل" و"أبل"، سيؤدي إلى ربط كافة سلوك المستخدمين بنظام مغلق تتحكم بها شركة واحدة يديرها شاب واحد على علاقة جيدة جداً مع الحكومة الأميركية، بالرغم من كل جلسات الإستماع التي خضع لها قبل أشهر. ولا تقف خطورة اقتحام "فايسبوك" للاقتصاد العالمي عند حدود ملياري مستخدم يمتلكون حسابات عليها، بل الأمر يتجاوز ذلك بكثير، إذ سيكون بمقدور أي انسان على الكرة الأرضية استخدام العملة الرقمية الجديدة، خاصة إذا كان لا يمتلك حساباً مالياً أو لا يحتمل دفع مصاريف زهيدة لدى المصارف لفتح حساب، بواسطة هاتفه الجوال وتطبيقات "مسنجر" و"واتسآب" (حتى وإن كان لا يمتلك حساباً على "فايسبوك")، على أن يزيد رصيده المالي الرقمي من خلال خطوات صغيرة وبسيطة كالإعجاب أو التفاعل مع منشورات وإعلانات والشراء من متاجر وخدمات محددة والتعليق على العروض التجارية.
كل هذه العملية ستعني أن المستخدم لن يضطر أساساً إلى مغادرة الشبكة الزرقاء، إلا لقضاء حاجاته الطبيعية! فهو يقرأ أخباره على "فايسبوك"، ويشتري حاجياته من "فايسبوك" بكلفة أقل من التجارة الإلكترونية وبسرعة أكبر، و يواعد الجنس الآخر عبر "فايسبوك" (مع انطلاق خدمة المواعدة قريباً)، ويستعرض الجانب المزيف والوهمي من حياته المثالية عبر "فايسبوك".
بكلمات أخرى، هو يتبع لدولة "فايسبوك" ويعمل لتطوير اقتصادها الذي يسير بوقود بياناته نفسها.
تخيلوا الآن القدرة الهائلة التي تجمعها شركة واحدة، من بين عشرات الشركات الأخرى المنافسة (والأميركية أيضاً)، في وقت قياسي.
وما يؤكد أن المستهدف الأول من إطلاق عملة "فايسبوك" هو بناء اقتصاد دولي جديد تتحكم به، عن قصد أم غير قصد، الولايات المتحدة، هو قرار الشركة بالتركيز في البداية على دول أفريقيا بالرغم من افتقار معظم البنى التحتية في هذه القارة لمتطلبات التكنولوجيا المتقدمة. وستكون هذه المرحلة بمثابة فترة تحضير ممتازة لـ"فايسبوك" لبناء كامل العملية وآلياتها في أصعب الظروف، ما يتيح لها لاحقاً العمل بسرعة في كافة أنحاء العالم.
هذا التحول العالمي الذي يشبه إلى حدٍ كبير لحظة فرض الدولار الأميركي سطوته، سيعني أيضًا المزيد من التشجيع للمشاريع الفردانية، مع تسهيل كافة متطلبات إنشاء التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت.
وإلى الأثر الاقتصادي والمالي والسياسي، فإن القدرة الأمنية الأميركية ستشهد تضخماً غير مسبوق، خاصة و أن "فايسبوك" تجمع في الأصل معلومات عن كافة المستخدمين، حتى إذا كانوا لا يلجؤون إلى شبكتها، فما بالكم الآن وذريعة الحفاظ على أموال المستخدمين وضمان قانونية الأنشطة المالية في صلب شروط وزارة الخزانة الأميركية خلال اجتماعاتها مع "فايسبوك"، قبل موافقتها على المشروع.
واللافت أنّ الإجراءات التي تشكو منها مجموعات تشكيل الرأي عبر شبكات التواصل لناحية حذف المحتوى هي نفسها تخضع لها أطراف معادية لها، فترى "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" وغيرهم يحذفون المحتوى الإسرائيلي كما المحتوى الفلسطيني، ذلك أنّ عملية الحذف عادة تخضع لخوارزميات وأتمتة لا يتدخل فيها العامل البشري مباشرة إلا في حالات محددة. وقد قامت فايسبوك مؤخراً بحذف عشرات الصفحات الإسرائيلية التي كانت تنشر أخباراً مضللة في دول أفريقيا وأميركا اللاتينية. لكن "حرية التعبير" هي في أقل المخاطر أهمية إذا ما قيست بما تحضّر له "فايسبوك".
حتى الساعة، تتبّع روسيا والصين وإيران إجراءات الحظر باعتبارها الأسهل لمنع مواطنيهم من استخدام التقنية الأميركية عند الحاجة. وبالرغم من عدم جدوى الحظر في ظل الكم الهائل والمخيف من الأدوات التقنية القادرة على اختراق أي جدار إلكتروني، فإن الحرب الحقيقية أبعد من ذلك بكثير، وهي تشبه إلى حد بعيد ما قاله أحد الدبلوماسيين السوفيات عند افتتاح أول فرع لمطعم أميركي للوجبات السريعة في موسكو: الآن سقط الاتحاد السوفياتي!
فهل تمتلك الدول التي تسعى لتشكيل عالم متعدد الأقطاب أدوات المواجهة في هذه الحرب؟ سؤال يحتاج إلى تمحيص كبير.