فلسطين ستبقى القضية المركزية
تعيش تونس منذ سنوات على جدل ما يُسمّى بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني خاصة بعد ظهور مؤشّرات كثيرة حول تورّط عديد الأطراف الرسمية و غير الرسمية في علاقات مع دولة الاحتلال، هذه المؤشّرات دفعت بعددٍ كبير من نواب المجلس إلى اقتراح مشروع قانون يتعلّق بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني ، لكن هذا المشروع واجه رفضاً مُعلَناً و غير مُعلَن من عددٍ من النواب بتعلّة خطورته على العلاقات الإقتصادية بين تونس و دول لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل مثل دول الاتحاد الأوروبي .
لكن في المقابل تتجاوز قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني البُعد غير الرسمي لتشمل البُعد الرسمي ، إذ تكشف بيانات منظّمة التجارة الدوليّة أنّ قيمة الصادرات التونسيّة إلى الكيان الصهيوني تجاوزت 5.5 مليون دولار سنة 2017. رقم يُعرّي التوجّه الرسميّ للدولة التّي مضت أشواطاً في فتح قنوات الاتصال مع الكيان الصهيونيّ منذ خمسينات القرن الماضي.
لعلّ البيانات و التصريحات التي قام بها نواب مجلس الشعب إبان إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة للكيان المحتل لم تكن سوى استعراضات بعد الفشل إلى اليوم في تبنّي مشروع القانون الذي يُجرِّم التطبيع المهمَل في الرفوف منذ 2015. لعلّ أكبر المعارضين لهذا المشروع هم نواب حركة النهضة الذين فسّروا هذا الرفض بأن المشروع سوف ينسف العديد من الاتفاقيات التجارية مع دول أخرى لها علاقة بالكيان الصهيوني من جهة ، ولها علاقات جيّدة مع تونس من جهةٍ أخرى. لكن أحد أهم حركة النهضة الأحزاب التونسية والماسِك بزمام السلطة منذ انتخابات 2011، و منذ 2011 كان لها زلاّت كثيرة في علاقة بالتطبيع، فإلى جانب زيارة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لمعهد واشنطن والذي يُعتَبر أحد أهم الأذرع البحثية للمنظمة الصهيونية أيباك، صرَّح رئيس حركة النهضة للمعهد أن النهضة لن تقبل بأيّ قانون ينصّ على التطبيع، لأن ذلك لن يحل المشكلة حسب رأيه. كما نقل موقع ويليك ستاندرز عن صحيفة هايوم الإسرائيلية في مقالٍ نُشِرَ في ديسمبر 2011 بأن الدولة الوحيدة التي يجب وضع إسمها في الدستور التونسي هي تونس، وأنه لا يظن بأنه سيتم إدراج بند يتضمّن تجريم التطبيع في الدستور التونسي، ما يثبت بشكلٍ واضحٍ عدم تبنّي حركة النهضة لمشروع القانون منذ البداية.
كما سبق وأن تواجد القيادي في حركة النهضة رفيق عبدالسلام في مؤتمر التطبيع الاقتصادي في الدوحة ، جنباً إلى جنب مع نائب صهيوني ، و قبل ذلك حضور النائب عن الحركة إيمان بن محمّد في الجمعية البرلمانية المتوسطية و التي حضرها إسرائيليون.
ثقافياً يمكن القول إن تصريحات المغنّي التونسي محسن الشريف والذي كانت له سابقة في إحياء بعض الحفلات في الكيان المحتل في فترة النظام السابق ، و التي هتف في إحداها بحياة رئيس وزارء الكيان المحتل الحالي نتنياهو، يمكن القول إنها خير دليل على الفجوة الموجودة في جدار المقاطعة التونسية . الشريف قال في تصريحه لإذاعة خاصة إن الكثير من الفنانين قد اتصلوا به من أجل تسهيل إجراءات الذهاب إلى دولة الاحتلال ، و إحياء حفلات هناك كما أكّد أن الكثير من الفنانين التونسيين قد أحيوا حفلات هناك في كنف السرية.
رسمياً تكشف بيانات منظّمة التجارة الدوليّة والأمم المتحّدة أنّ العلاقة بين تونس والكيان الصهيوني تتجاوز “البروتوكولات الدبلوماسية" . فمكاتب “رعاية المصالح” التّي تمّ افتتاحها في تونس وتلّ أبيب تباعاً في أفريل وماي 1996، تحوّلت إلى جسرٍ لتنسيق تعاون أوثق تجلّى في علاقات تجاريّة مُتكامِلة فَتحت أسواق تونس أمام السلع الإسرائيلية، تحت إشراف ومباركة النظام الحاكِم آنذاك وكلّ الحكومات التّي تلته حتّى هذه اللحظة. لكن الرابِح الأكبر من هذه المبادلات هو الكيان الصهيوني ، حيث ظلّت الصادرات التونسيّة “مُحتشمة” وثابتة تقريباً عند معدّل نصف مليون دولار سنوياً مقابل تنامي الواردات الإسرائيليّة إلى الأسواق التونسيّة لتناهز 2.2 مليون دولار سنة 2007، وضعيّة تغيّرت بشكل جذريّ منذ سنة 2009 لتأخذ منحى مُتذبذباً إلى حدود سنة 2012 ، أين ارتفعت الصادرات الإسرائيليّة إلى مستوى قياسيّ بلغ 15 مليون دولار قبل أن تتراجع بحدّة طيلة السنوات اللاحقة مقابل تصاعد مطّرد للصادرات التونسيّة نحو إسرائيل بلغ ذروته سنة 2017 بقيمة 5.5 مليون دولار. وتتلخّص المواد المتبادلة بين الطرفين كالآتي:
من تونس إلى الكيان الصهيوني : 85 بالمائة مواد فلاحية و 15 بالمائة نسيج ومواد تحويلية. من الكيان الصهيوني إلى تونس : 71 بالمائة أسمدة ، مواد كيميائة و معدّات فلاحية و 29 بالمائة معدّات صيدلية و طبية.
بعد الثورة ورغم الجهود المتواصلة لعددٍ من الجمعيات و الأحزاب السياسية و القومية للدفع نحو مناهضة التطبيع من خلال قانون للفصل 27 في دستور جانفي 2014، انتهت إلى مشروع قانون مؤَجّل ومنسيّ في رفوف مجلس نوّاب الشعب بعد تعطيل مناقشته في ثلاث مناسبات سنة 2012 وسنة 2015 وأخيراً في جانفي 2018 ليبقى التطبيع أفضل وسيلة لإرضاء الأميركيين مقابل المساعدات ، يظهر ذلك جلياً في وثيقة توصيات أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي خلال زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد في جويلية 2017.
لكن في المقابل فشعبياً يقترب الوضع من كلمات رئيس وزارء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو عندما قال "ليست لدينا مشكلة مع الحكومات لدينا مشكلة مع الشعوب"، فإن إحياء تظاهرة يوم القدس تؤكّد بشكلٍ كبير على تواصل الرفض الشعبي لهذا الكيان الغاصِب، و لعلّ كلام رئيس الرابطة التونسية للتسامُح صلاح الدين المصري بمناسبة يوم القدس في مدينة بنزرت يُلخّص الشعور التونسي تجاه صفقة القرن والقضية المركزية "السعودية والاميركان والصهاينة بعد هزيمتهم المرة والشديدة في سوريا يحاولون الالتفاف واستعادة المبادرة عبر صفقة القرن وعبر مؤتمر البحرين في 25 حزيران الجاري، اليوم الشعب التونسي ويوماً بعد يوم شعوب العالم كلها ستقول نعم لتحرير القدس نعم للقدس عاصمة أبدية لفلسطين"، كما أن اختيار شعار "نحن القدس " يُعبرّ عن عُمق الانتماء الذي يشعر به الشعب التونسي تجاه فلسطين.