هجمات سريلانكا الدامية: فشل استخباري أم تمهيد لحروب طائفية في آسيا؟
لا يمكن الركون إلى تصريحات المسؤولين في سريلانكا حول سلسلة التفجيرات المنظمّة التي استهدفت كنائس وأماكن سياحية في أحداث غير مسبوقة في الدولة الفقيرة التي تشهد هدوءاً نسبياً منذ انتهاء الحرب الأهلية فيها في العام 2009، مع حسم الجيش للمعارك مع "نمور التاميل".
المؤكد حتى الساعة أن الأجهزة الأمنية لم تشارك مذكرة واضحة بشأن احتمال شن هجمات على كنائس ودور عبارة، وتم تداولها في الحادي عشر من شهر نيسان/ إبريل الجاري لدى جهاز حماية الشخصيات والرئاسة السيرلنكية فقط، ولم يُبلغ بها رئيس الوزراء حتى!
وبالتالي فإن كل التصريحات الرسمية لا تخلو حالياً من محاولة تبرئة أو إلقاء تهمة على آخر، في مشهد يرقى إلى "الفضيحة" التي تحاول السلطات المسؤولة التستر أيضاً بإدراج الهجمات كرد فعل على هجوم "نيوزيلندا". في شهر شباط/ فبراير الماضي، تحدث مسؤول أمني سيرلنكي عن مخاوف من صعود "التطرف الإسلامي" في بلاده في لقاء مع باحثين غربيين كانوا يشاركون في مؤتمر أممي في "كولومبو". نقل هؤلاء الباحثون تناقضات شهدوها في تقدير حجم المخاطر الامنية القادمة بين المسؤولين السيرلنكيين أنفسهم.
وفي الرواية الرسمية السيرلنكية، أن "جماعة التوحيد الوطني" هي المسؤولة عن التفجيرات. هذه الجماعة الحديثة العهد؛ والتي يعود ظهورها إلى بضع سنوات خلت، تبرز عادة في أعمال صغيرة كرد فعل على ممارسات الأغلبية البوذية في البلاد بحق الأقلية المسلمة. ولا تتخذ أعمالها طابعاً جماعياً ولا منظماً، بل غالباً ما تكون نشاطاتها العنفية فردية ومحدودة، بل إن أوسع عملية دهم جرت يوماً لأكبر مقراتها كشفت عن بندقية واحدة ومسدسات خفيفة ومتفجرات بكميات صغيرة داخل مزرعة لجوز الهند!
بل إن زعيم الجماعة "محمد زهران" كان محل مراقبة دقيقة قبل أيام من التفجيرات، إلى حد أن تقارير للشرطة تصف تحركاته ولقاءاته العائلية على مدار الساعة في الأسابيع الأخيرة، لا للاشتباه بتحضيره لتفجيرات، بل ضمن السياق الروتيني للرقابة التي يخضع لها المعارضون في أي نظام.
ولم تكن قد مضت ساعات قليلة على التفجيرات، حتى وجّه وزير في الحكومة أصابع الاتهام لجماعة "التوحيد الوطني"، واضعاً الهجوم في سياق "رد الفعل" على هجوم المسجد الأخير في "نيوزيلندا". وهي تهمة غير منطقية، إذ أنها تعني أن جماعة معروفة بحجمها الصغير وقدراتها غير المذكورة نجحت في التخطيط لتنفيذ هجمات متزامنة بهذه الضخامة في أسابيع قليلة بعد هجوم فردي في "نيوزيلندا"!.
علماً أن الجماعة، المعروفة بعدائها للأغلبية البوذية، تنتشر في أرياف شرق سريلانكا، حيث الأغلبية الهندوسية، وليس لديها أيّ وجود في المدن الرئيسية أو العاصمة أو غرب البلاد حيث وقعت الهجمات. كما أن التصريحات الرسمية الهندية والنيوزيلندية لا تتوافق و الرواية السيرلنكية، وتصب جميعها في خانة الإشارة إلى عمل منظّم من قبل جهة تمتلك خبرات دولية.
وبعد الاطلاع على كافة التقارير المحلية المرتبطة بالحدث، والتواصل مع صحفيين محليين في نيوزيلندا والهند، يمكن تسجيل المعطيات والملاحظات التالية:
- ما هي مصلحة أي جماعة إسلامية محلية في سريلانكا بشن هجمات على أقلية أخرى؛ هي المسيحية التي لا يزيد نسبة معتنقيها عن 7 في المئة؟ في حين أن معظم الصراعات التي تتخذ بعداً طائفياً في هذا البلد يكون البوذيون الذين يشكلون أكثر من 70 في المئة أحد أطرافها.
- تعيش شبه الجزيرة السيلانية منذ عشرة أعوام حالة استقرار مشهودة، حتى باتت مقصداً سياحياً لملايين السياح سنوياً، وبالرغم من التوترات "الطائفية" فيها إلا أن هذه التوترات تعكس بوضوح مساع سياسية لدى بعض الأقليات في الحصول على حقوق أفضل من دون أن ترقى إلى حجم اشتباكات عسكرية أو أعمال عنف منظمة.
- هل يمكن لجماعة صغيرة وبإمكانات متواضعة شن هجمات متزامنة بهذه الدقة في التنفيذ وهذا الحجم؟ لقد أثبتت التجارب السابقة أنه حتى في حالة الهجمات التي تبناها داعش بشكل واضح وخلصت فيها التحقيقات الغربية إلى مسؤولية التنظيم عنها، كان هناك دوماً هامشاً واسعاً من الخطأ في التنفيذ، عند التحضير لهجمات متزامنة. لكن هجمات سريلانكا كانت شديدة التنظيم إلى حد الاستغراب.
- لقد وضعت السلطات السيرلنكية عدداً من منفذي الهجمات تحت المراقبة منذ الرابع من الشهر الجاري، بعدما وصلتها معلومات رسمية من الهند تحوي أرقام هواتف وعناوين وأسماء لعناصر متطرفة بدعوى تحضيرهم لهجمات على كنائس والسفارة الهندية في سريلانكا واغتيال مسؤولين هنود. فكيف استطاع هؤلاء المنفذون المضي قدماً في عملياتهم على الرغم من أنهم تحت المراقبة اللصيقة؟!
- لماذا لم تشارك الرئاسة السيرلنكية وبعض الأجهزة الأمنية المعلومات حول الخطر الأمني بحصول هجمات في البلاد مع الشرطة ومع بقية الأجهزة الحكومية؟ إن هذا المعطى فضلاً عن المعطى السابق يرجح فرضية من إثنتين: أن السلطات السيرلنكية لا تأخذ الجماعة المسلمة على محمل الجد لناحية القدرة على تنفيذ هكذا هجمات أو أن الفشل الاستخباري هو جزء من مشهد أكبر لا يمكن فهم أهدافه على الفور. بل اللافت أن الشرطة سرعان ما ألقت القبض على 40 مشتبها به بعد ساعات قليلة فقط من وقوع الهجمات، ما يعني أنها اعتمدت على معطيات سابقة بغض النظر عن صحتها.
- إن بيان "داعش" بتبني العملية لا يقدّم أي دليل يؤكد صحته. فهو يتحدث عن عدد غير دقيق بالنسبة للمنفذين ولا يحوي أي تفاصيل يُعتدّ بها. هذا لا ينفي أبداً احتمال مسؤولية عناصر من التنظيم عن الهجمات، لكن إدارة هكذا عمليات تتطلب قدرات أكبر بكثير من أن تقدر مجموعة تنشغل قيادتها بالاختباء عند الحدود العراقية السورية على التفرغ لها.
- لا تمتلك السلطات السيرلنكية إحصاءاً دقيقاً لمقاتليها الذين انضموا إلى داعش في العراق وسوريا، لكن تصريحاً لأحد وزرائها يتحدث عن 32 مقاتلاً، في حين تقدّر تقارير أميركية العدد بالعشرات. ولا يوجد معلومات رسمية عن مصيرهم منذ العام 2016. ولكن بكل الأحوال، فإنه عند التخطيط لعمل خارجي، تنحو الجماعات المتطرفة إلى دراسة واقع الأجهزة الأمنية في بلد الهجوم. وفي ظل الانقسام السياسي داخل الحكومة السيرلنكية نفسها، فإن سريلانكا تشكّل هدفاً نموذجياً لجهات بمستوى "القاعدة" لا "داعش" حتى التي تفتقر إلى هيكلية تنظيمية جماعية محلية في دول العالم بعد تشتت ذئابها المنفردة. هذه الهجمات، التي اتهمت التطرف الإسلامي قبل جلاء التحقيقات، ستدفع سريلانكا ودول أخرى مجاورة إلى التشدد أمنياً ومشاركة المعلومات مع جهات دولية أكثر فعالية وقدرة ومعرفة. وفي منطقة كجنوب آسيا وجنوب شرقها، فإن مشاركة المعلومات لا تقتصر على ملف أو مجال محدد بذاته، بل سيمتد بالتأكيد، تحت هذا العنوان، ليشمل كل المرافق الاقتصادية والسياسية والعسكرية ويغيّر من شكل التحالفات والتفاهمات في هذه المنطقة من العالم تحت غطاء تشريع قوانين لمكافحة الإرهاب، ويؤمن بالتالي بنية معلوماتية هائلة للدول الشريكة فيه في مقابل دول المنطقة.