الدفاع الجوي السوري، وتحدّي الذخائر الجوّالة

أعادت الغارة التي شنّها سلاح الجو الإسرائيلي على الجنوب السوري هذا الشهر، تسليط الضوء على تكتيك هجومي استخدمه الجيش الإسرائيلي منذ سبعينات القرن الماضي وحتى الآن، لتحجيم ومواجهة وسائط الدفاع الجوي العربية بشكل عام، والسورية بشكل خاص. السلاح الأساسي في هذا التكتيك الهجومي، يتكوّن من تشكيلة من الطائرات من دون طيّار سواء الهدفية منها أو التي تعمل كذخائر جوّالة.

تاريخياً، شهدت حرب تشرين/ أكتوبر 1973 الاستخدام الأول من جانب سلاح الجو الإسرائيلي، للطائرات الهدفية من دون طيّار، لتنفيذ نوعين من أنواع المهمّات، الأول هو مهام الاستطلاع والرصد، والثاني هو مُشاغلة وسائط الدفاع الجوي السورية والمصرية، وإجبار أطقم الرادارات على تشغيلها وتتبّع هذه الأهداف، ما يسمح باستخدام سلاح الجو الإسرائيلي، والوحدات الأرضية الإسرائيلية، للصواريخ الأميركية المضادّة للرادار "شرايك" لاستهداف هوائيات الرادار، والتسبّب في الشلل التام لكتائب الدفاع الجوي، خاصة في الجبهة المصرية. وقد استخدم سلاح الجو الإسرائيلي لهذا الغرض طائرات هدفية أميركية الصنع من أنواع "BQM 34A FIRE BEE" و"Mabat 1242" و"BQM-74 CHUKAR".

نفس التكتيك استخدمه سلاح الجو الإسرائيلي في غاراته على كتائب الدفاع الجوي السورية في سهل البقاع اللبناني عام 1982، وحينها استخدم عدّة أنواع من الطائرات من دون طيّار المُصنّعة محلياً، مثل الطائرتين "Scout" و"Mastiff"، بجانب المقذوف الخداعي أميركي الصنع "Samson"، بهدف إيهام الكتائب السورية بحدوث هجوم جوي واسع النطاق، ودفعها تشغيل راداراتها من أجل توجيه صواريخ الدفاع الجوي السوفياتية الصنع من نوع "سام 6"، وبالتالي تتوفّر للمقاتلات الإسرائيلية فرصة استهداف هذه الكتائب بصواريخ "شرايك" المضادّة للرادار.

شهدت فترة ثمانينات القرن الماضي، عمليات تطوير كبيرة في ما يتوفّر لسلاح الجو الإسرائيلي من ذخائر، مستفيدة من دروس المواجهات الحربية في فترة السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي. هذا التطوير تم بهدف أساسي وهو اختصار عمليات إخماد الدفاع الجوي المُعادي من مرحلتين "مُشاغلة / استهداف" إلى مرحلة واحدة يتم فيها الرصد والاستهداف معاً. قامت الصناعات الحربية الإسرائيلية خلال هذه الفترة بتطوير نوعين من أنواع الصواريخ الموجّهة، الأول هو الصاروخ "بوباي"، وهو صاروخ جو - أرض من إنتاج شركة رافائيل الإسرائيلية للأنظمة الدفاعية المتقدّمة، وقد أنتجته هذه الشركة منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي بنسختين بحرية وجوية، ويبلغ مدى النسخة الجوية منه 78 كيلومتراً، وتمّ تزويدها بمحرّك صاروخي يعمل بالوقود الصلب، ورأس متفجّر تبلغ زنته 340 كيلو غراماً، ويوجّه هذا الصاروخ بالتوجيه الداخلي مُضافاً إليه توجيه بالأشعة تحت الحمراء أو التوجيه التلفزيوني. وقد تمّ استخدام هذا الصاروخ بشكل رئيسي في كافة الغارات الجوية التي نفّذها سلاح الجو الإسرائيلي في العقدين الماضيين. النوع الثاني هو صواريخ "سبايك نلوس" المُضادّة للدروع، والتي تُطلَق من منصّات أرضية ويصل مداها إلى 25 كيلو متراً، ويتمّ توجيهها كهروبصرياً أو تلفزيونياً أو بالأشعة تحت الحمراء، وقد تمّ تطويرها أوائل ثمانينات القرن الماضي، وتمّ استخدامها منذ ذلك الحين في كافة الضربات الإسرائيلية على المواقع السورية القريبة من الجولان المحتل.

في تسعينات القرن الماضي، بدأت الصناعات الحربية الإسرائيلية بالتوسّع في عمليات تطوير الذخائر والطائرات من دون طيّار المُخصّصة لعمليات إخماد الدفاعات الجوية، وأنتجت خلال هذه الفترة ثلاثة أنواع رئيسية، النوع الأول هو المقذوفات الجوية الخداعية "ADM-141 TALD"، وهو تطوير للمقذوف الإميركي "Samson"، وقد بدأت إسرائيل الإنتاج الكمّي لهذا المقذوف في عام 1993 بترخيص من الولايات المتحدة، وتميّز عن المقذوف الأميركي بإمكانية البرمَجة المُسبقة لمسار طيرانه بحيث يتم تحديد خط الطيران وارتفاعاته والمناورات الجوية التي ينفّذها أثناء التحليق، ويختصّ بتضليل الرادارات المُعادية من أجل تشتيت مجهود الدفاع الجوي، وتم إنتاج عدّة نسخ منه، منها نسخة تُستخدَم للتشويش الإيجابي أو السلبي على الرادارات المُعادية، ونسخة أخرى تحمل حاويات لنفث شعلات التضليل الحرارية. يبلغ مدى هذا المقذوف ما بين 26 إلى 126 كيلو متراً حسب ارتفاع التحليق، كما توجد نسخة مطوّرة من هذا المقذوف تحت إسم "I Tald" مزوّدة بمحرّك نفّاث، ويصل مداها إلى 300 كيلو متر، بسرعة قصوى تبلغ 460 كيلو متراً في الساعة.

النوع الثاني الذي تمّ تطويره خلال هذه الفترة، هو صاروخ الذخيرة الجوّالة "Dalilah"، الذي دخل الخدمة في القوات الجوية الإسرائيلية منتصف تسعينات القرن الماضي، وهو تطوير إسرائيلي للطائرة الهدفية أميركية الصنع "BQM-74 CHUKAR"، وقد كان هذا التطوير في البداية مرتكزاً على أن يكون في نفس اتجاه الطائرات الهدفية، لكن تمّ تعديل هذا التطوير ليتحوّل إلى صاروخ جوّال يبلغ مداه الأقصى 250 كيلو متراَ، ويوجّه أما بالتوجيه الداخلي أو عن طريق الجي بي أس، ويتميّز بهامش خطأ ضئيل يبلغ متراً واحداً فقط، ورأس حربي يبلغ وزنه 30 كيلو غراماً. تمّ استخدامه للمرة الأولى في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، كذلك تمّ استخدامه في الغارات الإسرائيلية على سوريا خاصة غارة أيار/مايو 2018 والغارة الأخيرة هذا الشهر.

النوع الثالث هو الذخيرة الجوّالة "Harpy"، وقد تمّ تصميمها بصفة أساسية لمُشاغلة ومهاجمة رادارات الدفاع الجوي، ويبلغ مداها الأقصى 500 كيلو متر، وسرعتها القصوى 185 كيلو متراً في الساعة، وزِنة رأسها الحربية تبلغ 32 كيلو غراماً. يتمّ إطلاق هذه الذخائر من شاحنة تحمل ثمانية عشر منصّة إطلاق، ويتمّ إدخال بيانات مسار التحليق والأهداف إليها قبل الانطلاق، ومن ثم تبحث عن أهداف لتدميرها او يتمّ تدميرها ذاتياً إن لم تعثر على أهدافها، وقد صدّرتها إسرائيل إلى عدّة دول من بينها الهند والصين وكوريا الجنوبية وتشيلي وتركيا.

في الفترة التي تلت العام 2000، قامت الصناعات الحربية الإسرائيلية بإنتاج الذخيرة الجوّالة "Harop"، والتي تعدّ تطويراً للذخيرة الجوّالة "Harpy"، لكنها تتميّز بمقاومتها للرّصد الراداري ولعمليات التشويش، وإمكانية إعادتها مرة أخرى إلى موقع الإطلاق في حال عدم استهدافها لأية أهداف. يتمّ توجيهها عن طريق التحكّم عن بُعد أو بتتبّع الأشعة المُنبعثة من محطّات الرادار المُعادية، ويبلغ مداها الأقصى 1000 كيلومتر، ويمكن إطلاقها من كافة الوسائط البحرية أو البرية او الجوية. كان ظهورها العملياتي الأول هو في معارك ناغورنو كارباخ بين قوات أذربيجان وأرمينيا، واستخدمتها القوات الجوية الإسرائيلية في عدّة غارات على سوريا من بينها غارة أيار/مايو 2018 والغارة الأخيرة هذا الشهر. وتمتلك هذه الذخيرة كل من تركيا والهند وألمانيا وأذربيجان.

أيضاً أجرت شركة رافايل الإسرائيلية عام 2003 تطويراً مستوحى من صاروخ "بوباي" لحزمة توجيه تسمح بتحويل القنابل الجوية التقليدية حرّة التوجيه إلى قنابل موجّهة، وأطلقت على هذه الحزمة "Spice" وأنتجت منها عدّة نسخ من أهمّها النسخة "Spice-1000"، التي فيها تمّ تحويل القنبلة غير الموجّهة "Mark-83" إلى قنبلة يمكن توجيهها بالجي بي أس أو بالأشعة تحت الحمراء. ويبلغ وزن الرأس الحربية في هذه القنبلة 450 كيلو غراماً، ويصل مداها بعد تركيب هذه الحزمة عليها إلى مائة كيلو متر بهامش خطأ لا يتجاوز ثلاثة أمتار. وقد تمّ استخدام هذه القنبلة في عدّة غارات على سوريا من بينها الغارة الأخيرة هذا الشهر.

كذلك أنتجت الصناعات الحربية الإسرائيلية عدّة أنواع من الذخائر الجوّالة، التي تتميّز بصغر حجمها وملائمتها لضرب الأهداف المُقتربة أو الطارئة، منها الذخيرة الجوّالة "Rotem-l" التي يبلغ مداها الأقصى عشرة كيلو مترات وتحمل رأساً متفجرة زنتها 1 كيلو غرام، وتستطيع التحليق المتواصل لمدة 45 دقيقة وتتميّز بخفّة وزنها الذي يبلغ أربعة كيلو غرامات، وسهولة استخدامها ميدانياً، وإمكانية إلغاء عملية الهجوم بعد انطلاقها وإعادتها مرة أخرى إلى القاعدة. في عام 2016 أعلنت شركة "ألبيت" الإسرائيلية عن ذخيرتها الجوّالة "Sky Striker"، والتي يبلغ مدى تحليقها ما بين ساعة إلى ساعتين، وزِنة الرأس الحربية المزوّدة بها ما بين خمسة إلى عشرة كيلو غرامات، ويتمّ توجيهها كهروبصرياً إلى هدفها، وتتميّز بسرعة هجوم كبيرة تبلغ خمسمائة كيلو متر في الساعة. أحدث ما تمّ إنتاجه من الذخائر الجوالة الإسرائيلية كان عام 2017 وهو الذخيرة الجوالة "Green Dragon"، التي يبلغ مداها الأقصى 40 كيلو متراً ومزوّدة برأس حربية تبلغ زنتها ثلاثة كيلو غرامات، ويصل مدى تحليقها إلى نحو ساعة ونصف الساعة، ويتمّ إطلاقها من منصّات أرضية.

بالعودة إلى الغارة الإسرائيلية الأخيرة على الجنوب السوري، سنجد أن الغارة تمّ تنفيذها بنسق مشابه للنسق الذي تمّت به غارة أيار/مايو الماضي، لكن مع بعض الاختلافات أهمها الغزارة الكبيرة للذخائر التي تمّ استخدامها في هذه الغارة، وتعدّد الاتجاهات التي أتت منها هذه الذخائر. استخدم سلاح الجو الإسرائيلي في الموجات الثلاث الأولى من القصف عشرات من الذخائر الجوالة من نوعي "Sky Striker" و"Harop" والمقذوفات الجوية الخداعية "ADM-141 TALD" لمشاغلة الدفاعات الجوية السورية واستنزافها، ومن ثم في الموجة الرابعة والأخيرة استخدم كل من صواريخ الذخيرة الجوالة "Dalilah" والقنابل الموجهة Spice-1000 لاستهداف وتدمير عدّة مواقع ومقار سورية. على مستوى اتجاهات الهجوم كانت الهجمات تتمّ من الأجواء اللبنانية وأجواء الجولان المحتل في نفس التوقيت، واستهدفت مناطق تمتد من منطقة المزّة شمالي دمشق مروراً بالعاصمة ومناطق جمرايا والكسوة والحارة وأزرع ووصولاً إلى مناطق جنوبي شرق مدينة السويداء ومنها مطار الثعلة العسكري. وعلى الرغم من إصابة منظومات الدفاع الجوي السورية بأضرار من بينها إصابة عربتين من منظومات الدفاع الجوي "بانتسير" ورادارات، إلا أنها تمكّنت من إسقاط أعداد كبيرة من الصواريخ والذخائر الجوّالة، خاصة القنابل الموجّهة Spice-1000  والمقذوفات الجوية الخداعية "ADM-141 TALD".

كان لافتاً أنه وللمرة الأولى أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية صراحة عن تنفيذها لهذه الغارات، ليس هذا فحسب بل أن هذا الإعلان تمّ أثناء حدوث الغارات. وهنا لا بدّ من النظر إلى الدوافع الإسرائيلية لتنفيذ هذه الغارات، وإذا وضعنا جانباً الرواية الإسرائيلية حول استهداف القوات الإيرانية أو الأسلحة المُرسلة من طهران إلى دمشق، سنجد أن إسرائيل تحاول بهذه الغارات توجيه رسائل للداخل السوري والإسرائيلي، مرتبطة في الأولى بقرب اكتمال تدريب الأطقم السورية على تشغيل منظومات الأس 300 أواخر العام الجاري، وهو ما يعني عملياً تحسين القدرات السورية على التصدّي لكافة التهديدات الجوية، ويرتبط في الثانية بحسابات انتخابية تتعلّق بوضع سياسي مُتأزّم تعاني منه حكومة نتنياهو. لكن الأكيد أن هذه الغارات أظهرت عدداً من التحديات التي ستواجه الدفاع الجوي العربي بشكل عام في أية مواجهة مقبلة مع إسرائيل، وأظهرت أيضاً ضرورة استكمال تحديث الدفاع الجوي السوري، وضرورة فتح ملف تزوّد لبنان بمنظومات للدفاع الجوي لمكافحة النشاط الجوي الإسرائيلي المستمر في أجوائه، خاصة أن هذا الملف كان قد تمّ فتحه سابقاً عدّة مرات من جانب روسيا ومصر.

اخترنا لك