دروس عابرة للقضبان
36 عاماً كانت كافية كي يصنع شهيد الفكرة غسان كنفاني المجد الأدبيّ الفلسطينيّ مدافعاً عن وطنه المسلوب بكلّ الأساليب، مّا جعل الآلة الصهيونية الغادرة تسارع باغتياله درءاً للخطر الكبير الذي يشكّله حبره وصوته على الكيان الغاصب.
رياض عمايرة - كاتب صحفي تونسي
36 عاماً من السّجن كافية اليوم ليصنع عميد الأسرى كريم يونس الملحمة الفلسطينية التي عجزت عن محوها كل سياسات الترهيب والتدمير والتضليل التي تمارسها سلطات العدوّ ضدّ شعب الجبّارين.
البطولة تلو البطولة، والصمود تلو الصمود، والدّرس تلو الدّرس. هذا ما قدّمه ويقدّمه الأسرى الفلسطينيّون وأوّلهم كريم يونس للعالم غير آبهين ببرد الزنزانة ووحشتها ولا بالانتهاكات الفظيعة المرتكبة في حقهم من قبل أبشع احتلال شهده التاريخ الكونيّ المعاصر.
هؤلاء الأسرى "الأحرار" منحوا القضيّة ما لا يمنحه أحد غيرهم. إنّهم ببساطة يصرخون بالحقيقة في وجه العالم معبّرين عن تمسّك شعب بأرضه وتحدّيه كلّ الظروف والصّعاب من أجل تحريرها وعدم التنازل عن شبر واحد منها.
العميد الصّامد كريم يونس وشركاء النّهج هم علامات تضيء تاريخ المقاومة ، وهم الشّبح الحيّ الذي يخشاه المحتلّ لأنّهم لم يصالحوا ولم يعترفوا ولم يفاوضوا. بل أكثر من هذا، لم تمنعهم السّجون ولا القيود عن مواصلة المقاومة والذّود عن المبدأ الأساس. والشّواهد في هذا الصدد كثيرة سنكتفي بذكر نموذجين منها.
في تعليقه على عملية اغتيال الشهيد سمير القنطار عام 2015 ، قال الوزير في حكومة نتنياهو وأحد القادة الصهاينة في حرب تموز/ يوليو 2006 يؤاف جلانت؛ "من الرائع عدم وجود أمثال القنطار في العالم ".
سيّء الذكر جلانت الذي شارك أيضاً في حروب شنّها العدو الصهيوني على غزّة يعرف أنّ القنطار عميد الأسرى سابقاً و رفاقه في الخطّ المناهض كليّاً لكيان الاحتلال وحدهم من يجعلون المقاومة لا تهدأ أبدًا ، ووحدهم من يمثّل خطرًا حقيقياً ومستمراً على الدولة المزعومة التي سيزيلها أصحاب هذه العقيدة الصّلبة يومًا ما.
قضّى القنطار 30 عامًا في السّجون الصهيونيّة ، دخلها مقاومًا يافعًا ثمّ غادرها وهو أكثر صلابةً وشراسة في الدفاع عن الحقّ الفلسطيني.
بمشاركته في عمليّة نهاريا التي أدّت به إلى الأسر ترك اللّبناني الفلسطينيّ المدرسة والصفّ ، لكنّه خلال فترة سجنه سجّل في جامعة تل أبيب المفتوحة وحصل منها على البكالوريوس في العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة.
قدّم دروسا في النّضال وفي التعلّق بالحياة والأهم من هذا خلق مفهومًا جديدًا لـ" المقاوم الأسير" . هؤلاء المقاومون ليسوا عدميّين ولا ساخرين من الحياة كما ينظر لهم المتصالحون مع وجود الاحتلال على الأراضي العربيّة ، هم يعشقونها بتطرّف أحيانًا لكنّهم لا ينحنون أبدًا ولا يتنازلون عن الفكرة الأمّ التي ترى الصراع مع العدوّ الصهيوني صراع وجود لا صراع حدود وتؤمن بفلسطينيّة الأرض من الماء إلى الماء.
خدم سمير القنطار المقاومة وهو أسير، نقل أخبارًا من داخل السّجن، حرّض رفاق الزنزانة على مواصلة النّضال، قادهم كي يحقّقوا ظروف أسرٍ أفضل بعد فرض مطالبهم على السّجان، و دلّ العدوّ على هزيمته الكبيرة ما دامت معنويّات أسراه عالية.
في أوّل ظهور شعبيّ له بعد تحريره في 2008 صرخ القنطار عالياً :"صدقوني لم أعد إلى هنا إلّا لأعود إلى فلسطين...عدت لأعود".
في 2017 شارك الأسير المحرر وأحد الأبطال الأحياء بلال كايد في توقيع كتاب "وجع بلا قرار" الأسير كميل أبوحنيش المعتقل منذ 2003 والمحكوم بتسع مؤبّدات.
أسير محرر يقدم رواية أسير آخر. إنّها المعجزة الفلسطينية التي تحدث عنها شاعر المقاومة محمود درويش في رائعته مديح الظل العالي واصفا ملحمة الصمود في وجه الصهاينة أثناء اجتياح 1982.
بروايته التي لاقت إعجاباً كبيرا يفرض أبو حنيش دراسة "أدب الأسرى" على كل باحث في أدب السجون. إذ يحكي القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن أجواء "انتفاضة الحجارة" وعن تطوّر أساليب المقاومة وتنوّعها. فجدران الشوارع والأحياء صارت تساند الثوار وتدعوهم إلى التقدّم بما تحمله من شعارات ثوريّة خطّت عليها.
هذا العمل الإبداعي الذي بدأه الروائي والمثقف الأسير بإهداء عنيف موجّه إلى والدته "إلى أمي وهي تعيش وجع الانتظار" يمزج بين مشاعر وأمور كثيرة. الحب تارة ووجع الفقدان وانتهاكات الأسر تارة أخرى وغير ذلك.
كلّ هذا جعل من الرواية لوحة فلسطينية خالصة ورسالة إلى العالم يؤكّد من خلالها هذا الأسير الاستثنائيّ أنّ السّجن لن يجعل الفلسطينيّ يتوقف عن الحلم لحظة.
أيضاً منذ فترة قصيرة تحدّى كميل أبوحنيش سجّانه الذي يفرض عليه مراقبة شديدة وبعث لمجلة الآداب بدراسة فريدة تنمّ عن معرفته الدقيقة العدوّ و عن إلمامه بكلّ جوانب القوّة و الضعف لدى الكيان الصهيوني.
ختاماً ، إنّ ما فعله الشهيد سمير القنطار وما فعله ويفعله الأسير البطل كميل أبوحنيش ليس إلّا خطابًا موجّها للعالم يقول فيه هؤلاء الأبطال وغيرهم أنّ المقاومة وجدت لتبقى و أنّ النضال لن يهدأ برهة ما دام شبر من فلسطين يرزح تحت نير الاحتلال.