عملية "سيناء 2018"..رسالة للإقليم وإفراغ لمضمون الملحق الأمني مع إسرائيل

زيادات ملحوظة في مختلف القوات العسكرية المصرية في سيناء على خلفية مواجهة المجموعات المسلّحة في المنطقة، وإشارات ترسلها بذلك إلى كل من تل أبيب وأنقرة.

عام 2011 شهد تدشيناً فعلياً لسلسلة من عمليات زيادة القوات المصرية في المنطقتين "ب - ج" في سيناء

عقب توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، دخلت سيناء في وضع عسكري معيّن فرضه الملحق العسكري لهذه الاتفاقية، والذي قسّمها إلى ثلاثة أقسام، الأوّل هو القسم "أ" الذي يمتدّ من ضفّة قناة السويس إلى نحو ثلث مساحتها، وحسب ما ينص عليه الملحق فإنه لا يسمح للجيش المصري في هذه المنطقة سوى بنشر فرقة مشاة ميكانيكية واحدة تضم ضمن تشكيلاتها لواءً مدرّعاً وثلاثة ألوية مشاة ميكانيكية، بالإضافة إلى أربع عشرة كتيبة مدفعية ميدان ومضادة للطائرات بحد أقصى.

القسم "ب" يشمل معظم مناطق وسط سيناء بما فيها منطقة الممرّات ومدينة العريش. ولا يسمح في هذا النطاق سوى بنشر أربع كتائب حرس حدود معزّزة بناقلات مدولبة.

القسم "ج" يشمل القسم المتبقّي من شرق سيناء وصولاً إلى خط الحدود مع فلسطين المحتلة، ويضم مدينة رفح المصرية ومدينتي شرم الشيخ وطابا. وهذه المنطقة حسب الملحق لا يُسمح بأي تواجد مسلّح فيها سوى لقوات الشرطة المدنية المصرية.

هذا الواقع الذي فرضته المعاهدة ظلّ على حاله على مدار السنوات التي تلت توقيعها، برغم تحديات أمنية ظهرت وتصاعدت خلالها. إلا أن القيادة العسكرية المصرية بدأت تصل إلى قناعة منذ مطلع عام 2004 إلى حتمية زيادة القوات في سيناء كمّاً ونوعاً، لمواجهة المخاطر الميدانية المتصاعدة، حتى ولو كان هذا معاكساً لمحاذير يفرضها الواقع السياسي الداخلي والإقليمي آنذاك، ولذلك بدأت مصر في إرسال طلبات متكرّرة إلى الحكومة الإسرائيلية لتعديل الملحق العسكري لاتفاقية السلام لزيادة قوات الجيش والشرطة المتواجدة في سيناء عموماً، وشمال سيناء خاصة.

تقدّمت مصر بطلبات في هذا الصدد أعوام 2005 و2007 و2008 إلى الحكومة الإسرائيلية، تم رفضها جميعاً. واقتصر رد الفعل الإسرائيلي في هذا الصدد على الموافقة على تعزيز عديد قوات الشرطة المصرية المتواجدة على خط الحدود مع غزة بنحو 750 عنصراً من قوات حرس الحدود عقب فكّ الارتباط ما بين إسرائيل وقطاع غزة وانسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من القطاع عام 2005.

كان عام 2011 هو بداية التصاعد في التوتر بين الجانبين، والتدشين الفعلي لسلسلة من عمليات زيادة القوات المصرية في المنطقتين ب و ج. حيث دفعت قوات الجيش بصورة مفاجأة ومن دون إخطار مسبق بداية من شهر شباط/ فبراير وحتى شهر آب/ أغسطس 2011 إلى المنطقتين ب وج ما مجموعه خمس كتائب مشاة تابعة للجيش الثاني الميداني، مدعومة بمروحيات النقل وناقلات جند مدرعة وبعض الدبابات، بجانب عناصر من قوات الصاعقة، وأعدّت هذه القوات مراكز قيادة وسيطرة لها في معسكرين رئيسيين هما معسكر الكتيبة 101 شرق مدينة العريش والثاني معسكر الزهور بمدينة الشيخ زويد. ردُّ الفعل الإسرائيلي على هذه التعزيزات كان واضحاً بالرفض القاطع، وانبرت حينها الصحافة الإسرائيلية في حملة كبيرة ضد هذه الإجراءات من جانب الجيش المصري، إلا أن الحكومة الإسرائيلية في نهاية آب/ أغسطس من العام نفسه أعلنت قبولها "بأثر رجعي" للتعزيزات المصرية على أن تكون تعزيزات "مؤقتة" وليست "دائمة".

التوتر تصاعد أكثر فأكثر في العام التالي 2012، فعقب الهجوم الإرهابي المعروف بـ "مذبحة رفح الأولى" في شهر آب/ أغسطس، أرسل الجيش المصري موجة كبيرة من التعزيزات العسكرية النوعية، في هذه المرة أخطرت مصر الحكومة الإسرائيلية "ببعض" هذه التعزيزات إلا أن إسرائيل فوجئت للمرة الثانية بحجم القوات التي تم الدفع بها، وكذلك نوعية الأسلحة الثقيلة التي وصلت معها، وشكّل مشهد وصول الدبابات المصرية إلى العريش شرارة غضب إسرائيلي رسمي كبير، خاصة بعد أن كشفت الحكومة الإسرائيلية أن بعض الوحدات العسكرية التي وصلت إلى سيناء لم يتم ذكرها في الإخطار المصري، وأن التعزيزات التي وصلت إلى سيناء في العام السابق لم يتم سحبها أيضاً. لذلك طلب بعض أعضاء الكنيست آنذاك عقد جلسة طارئة لبحث الموضوع، وركّزت الإذاعة والصحف في إسرائيل تغطياتها للتأكيد على وجوب سحب مصر للأسلحة الثقيلة التي وصلت إلى شرق سيناء. لكن إزاء التجاهل المصري لهذه المطالبات وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها مضطرة للقبول مرّة ثانية "بأثر رجعي" التعزيزات المصرية إلى سيناء، وبدأ الجيش الإسرائيلي منذ هذا التوقيت في الاستعداد لحرب محتملة مع مصر، وكان الدليل الأكثر وضوحاً على هذا الخطة العسكرية "عوز" التي أعدّها الجيش الإسرائيلي لتطبيقها في حالة بدء مواجهة مع الجيش المصري.

بداية من عام 2013، لوحظ تغيّرٌ بالتكتيك الإسرائيلي في التعامل مع التعزيزات العسكرية المصرية إلى سيناء، بعد أن وجدت الحكومة الإسرائيلية أنه لا فائدة من الرفض القاطع والمعلن لهذه التعزيزات، طالما ظلّ الجيش المصري متجاهلاً لهذا الرفض، ومستمراً في نفس الوقت بالتعزيز. لذلك بدأت في محاولة الإيحاء أن مصر تنسّق معها بشكل كامل في أي تطور ميداني على الأرض في سيناء، مع أن الواقع يقول إن هذا التنسيق حدث منذ ذلك التوقيت في مرات نادرة منها عملية تحرير الجنود المصريين المختطفين في أيار/ مايو 2013.

وظلّ الوضع على ما هو عليه خلال أعوام 2015 و2015 و2016. وهي أعوام شهدت تعزيزات عسكرية مصرية إلى سيناء، لكنّها لم تكن بوتيرة أو بحجم كبير.

إلى أن جاء عام 2017، الذي شهد في شهر شباط/ فبراير تصريحاً غاية في الأهمية للرئيس المصري حول وجود 41 كتيبة مصرية تقاتل في سيناء، وهو تصريح تلقّته الأوساط العسكرية والصحفية الإسرائيلية بقلق كبير، لأنه يدلل على فارق عدد كبير بين ما تنصّ عليه معاهدة السلام، والتقديرات الإسرائيلية حينها، وبين الواقع الذي تحدث عنه الرئيس. الردود الإسرائيلية خلال هذا العام كانت دليلاً على حجم الصدمة، حيث حاول مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية في حديث لوكالة "أسوشيتد برس" في أوائل العام الإيحاء بأن كل التعزيزات السابقة كانت بعلم وموافقة الحكومة الإسرائيلية، وتبع ذلك تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ادّعى فيه "دخول قوات خاصة إسرائيلية إلى سيناء". وتكلّل هذا بتحليل نشرته مجلة الجيش الإسرائيلي أواخر العام الماضي حول تقديراتها لأعداد القوات العسكرية في سيناء، بأنه يتراوح بين 20 إلى 25 ألف جندي، وهو عدد إذا ما تمّت إضافته لأعداد قوات الشرطة والأمن المركزي في سيناء، سنصل إلى حصيلة تُعتبر أضعاف العدد الأقصى الذي ينص عليه الملحق العسكري لاتفاقية السلام.

كل ما سبق نستطيع أن نضعه في خانة واحدة، وكل ما حدث في سيناء منذ أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي نضعه في خانة أخرى. حيث تدفقت التعزيزات العسكرية المصرية كمّاً ونوعاً على سيناء، لدرجة باتت شبه الجزيرة فيه مسرحاً لعمل أنواع مختلفة من الأسلحة، ومشاركة ميدانية من كافة أفرع القوات المسلحة خاصة القوات البحرية والجوية، وهي الفروع التي كانت خدمتها العملياتية في سيناء محدودة جداً خلال السنوات الماضية.

 

آليات عسكرية جديدة تدخل أرض وسماء سيناء

فعلى مستوى القوات البرية، دخلت إلى مسرح العمليات المزيد من وحدات الصاعقة، ولأوّل مرة تتدخل في سيناء وحدات المظلّات، لتصبحان معاً بالإضافة إلى الوحدات الخاصة البحرية، القوة الضاربة الأساسية على الأرض، بالإضافة إلى وحدات المشاة والمشاة الميكانيكية التي تم تدعيمها بتشكيلة واسعة من ناقلات الجند والعربات المضادّة للألغام، مثل كايمان وأر جي 33 وتمساح2 وبانثيرا وشيربا، وهي أنواع كانت غائبة خلال السنوات الماضية عن سيناء، التي اقتصرت تحرّكات الأفراد فيها على ناقلات الجند خفيفة التدريع "فهد-280". كذلك تم الدفع بمزيد من الدبابات وعربات القتال ومدفعية الميدان، وهذه الأخيرة بشكل خاص كانت غائبة عن مسرح عمليات سيناء ما قبل عام 2013، وقد تم تعزيز وحدات المدفعية بأعداد من المدفعية ذاتية الحركة من عيار 122 ملم، ومدفعية الميدان من عيار 130 مللم.

القوات الجوية والبحرية كانت السمة الأبرز في التعزيزات العسكرية النوعية للجيش المصري إلى سيناء منذ مطلع هذا العام، ازداد النشاط الجوي بشكل عام للقوات الجوية في أجواء سيناء كافة باستخدام مقاتلات أف 16 ومروحيات الأباتشي والطائرات من دون طيار الاستطلاعية والقتالية، كذلك شهد مطارا بير جفجافة والعريش عمليات تحديث وتطوير مستمرّة لمواكبة تمركز دائم للطائرات المقاتلة والطائرات من دون طيار العاملة في الأجواء. وكان لافتاً التحليق المتكرر لطائرة الاستطلاع والرصد من نوع بيتش كرافت 2500 التابعة للقوّات الجوية المصرية في أجواء رفح المصرية، بل وتعدّيها خط الحدود مع فلسطين المحتلّة وتحليقها فوق مناطق جنوب غرب قطاع غزة، يُضاف إلى ذلك نشاط مماثل غرب سيناء لطائرة الإنذار المبكر أي تو سي هوك أي. وهذه كلّها أنشطة لم يسبق حدوثها في سيناء وأجوائها.

بحرياً، تكثّف خلال الأسابيع الماضية النشاط البحري المصري قبالة ساحل شمال سيناء وخاصة المنطقة ما بين مدينتي رفح والعريش. فلم يعد التواجد مقتصراً على زوارق الدورية، بل تعدّاه لتدخل الفرقاطات وزوارق الصواريخ، بل وسفينة الإنزال البرمائي من فئة "ميسترال" إلى مسرح العمليات.

النقطة الأبرز في هذا الصدد تم تفجيرها خلال زيارة الرئيس المصري إلى المقرّ الجديد للقيادة العسكرية الموحدة لشرق القناة ومكافحة الإرهاب، حيث ذكر رئيس الأركان تفصيلياً حجم القوات المشاركة في عملية "سيناء 2018" الشاملة، بواقع 60 ألف مقاتل و3000 آلية ومركبة، و355 طائرة من مختلف الأنواع. حصة سيناء من هذه القوات بلغت أكثر من 42 ألف مقاتل موزعين على 88 كتيبة ومدعومين بنحو 700 مركبة عسكرية و230 طائرة و15 كتيبة للدفاع الجوي، وهو ما يعني عملياً إتمام الإفراغ الكامل لمضمون الملحق الأمني الخاص بوضعيات القوات المصرية في سيناء عموماً وفي المنطقة ج خصوصاً.

 

عملية سيناء..أهداف تتعدى الحرب على الإرهاب

هذه التعزيزات بشكل عام، تمثّل مصدر قلق واضح لإسرائيل، بدا ذلك جلياً في التغطيات الصحفية الإسرائيلية التي ركّزت بشكل خاص على النشاط البحري والجوي المصري شمالي سيناء. وعلى الرّغم من إيحاءات اسرائيلية متكرّرة بأن أي تعزيز عسكري مصري يتم بعد اتفاق مع إسرائيل، إلا أن تاريخ التعزيزات المصرية خلال عامي 2011 و2012، وكمّ القوات والآليات والطائرات التي دخلت إلى سيناء منذ انطلاق عملية "سيناء 2018"، كلّها عوامل تؤكد أن مصر لم تخطر إسرائيل بالتعزيزات القادمة إلى سيناء، ولو حدث هذا فسيكون على شكل "إخطار" وليس "إذناً" كما يحاول البعض الترويج. هذا تدعمه رسائل عدة حرص الجيش المصري على إرسالها ضمنياً من خلال البيانات المصوّرة التي يبثّها حول العملية الشاملة "سيناء 2018"، ومن خلال مجريات العملية ذاتها، من هذه الرسائل بث المتحدث العسكري لفيديو يتناول قوات الدفاع الجوي المصري، ظهرت فيه طائرة مصرية من نوع فانتوم أف4 كانت تخدم في القوات الجوية المصرية وخرجت من الخدمة منذ سنوات، لكنَّ المميز في هذه الطائرة أنها تحمل تمويهاً وترقيماً وعلامات مطابقة لمقاتلة إسرائيلية من نفس النوع كانت تخدم في السرب الجوي 201 الذي شارك في حرب لبنان عام 1982، وتظهر في الفيديو بوضوح عملية تشبيهية لإسقاط هذه الطائرة بصاروخ مصري. أيضا ظهرت في البيانات اليومية لسير عمليات "سيناء 2018" بشكل متكرّر زوارق الصواريخ المضادة للسفن، خاصة زورق الصواريخ السوفيتي الصنع "OSA"، وهو النوع الذي كان للبحرية الإسرائيلية تجارب صعبة معه أشهرها إغراق البارجة الإسرائيلية "إيلات" خلال حرب الاستنزاف التي شنّتها مصر على إسرائيل عقب حرب 1967. كذلك نفّذت القوات البحرية مناورة تم فيها إطلاق أربعة صواريخ أرض سطح من نوع HY-2B  صينية الصنع يصل مداها إلى 350 كلم. ولعلّ الرسالة الأبرز جاءت أثناء زيارة الرئيس المصري لمقرّ القيادة الموحّدة لشرق القناة ومكافحة الإرهاب، حيث وصل إلى هذا المقر مرتدياً الزي العسكري، وافتتح مقرّ القيادة الذي قام بإنشائه سلاح المهندسين العسكريين، على عمق 27 متراً تحت الأرض، مما يجعل من المستحيل عملياً على سلاح الجو الإسرائيلي تدميره بأية قنابل مخترقة للتحصينات يمتلكها في ترسانته حالياً. أيضاً كان هناك حرص أثناء الزيارة على إبراز دور كتائب الدفاع الجوي من خلال أعداد الطائرات الحربية في أجواء سيناء، وهو ما يُعدّ إشارة أخرى ترد بها مصر على الإشاعات التي تم تداولها حول غارات إسرائيلية في سيناء. آخر هذه الرّسائل أيضاً ما كشفت عنه الصحافة الإسرائيلية منذ أيام، من تعرّض شبكة الهاتف الخليوي في مناطق جنوب فلسطين المحتلّة إلى تشويش مستمر ومكثّف تسبب في شلل تام لترددات عمل خطوط الهواتف الجوّالة، وأكدت أن السبب الرئيسي لهذا التشويش هو عمليات حرب الكترونية شنها الجيش المصري بالتزامن مع بدء عملية سيناء 2018 لمنع أي محاولات للتفجير اللاسلكي للعبوات الناسفة المزروعة في طرق تحرك قواته، ولشكوك قوية في استخدام عناصر داعش في سيناء لخطوط هواتف جوالة خاصة بشركات تعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

إذن مصر لا تستهدف فقط من عمليّتها الشاملة في سيناء القضاء على الإرهاب، بل أهدافها تتعدّى ذلك لتشمل مواجهة التهديدات الإقليمية من إسرائيل وتركيا. إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام نشاط جوي وبحري في سيناء هو الأكبر منذ انتهاء عمليات حرب تشرين الأول/ أكتوبر، وكذلك تشهد انتشاراً تكتيكياً واسع المدى للجيش المصري بشكل سريع ومتوازن لتنفيذ عملية هي الأضخم، مع المحافظة على تماسك الجبهة الداخلية وعلى تأمين الحدود الجنوبية والغربية. هذا كلّه بالتأكيد يشكل تحدياً أمام أي دولة معادية لمصر أو لها علاقات متوترة معها.

اخترنا لك