ميدانيات مصر: رسائل إلى من "يفهم" الأمر
تستمر العملية العسكرية والأمنية الشاملة، سيناء 2018، في كافة المحاور المتعرضة لتهديدات إرهابية على التراب المصري. من الواضح بعد مرور ثمانية أيام على انطلاق هذه العملية أن نتائجها كانت دسمة وذات تأثير فوري على التهديدات الإرهابية خاصة في شمالي سيناء.
دمرت وحدات المدفعية العاملة في نطاق شمالي سيناء 68 موقعاً لتمركز العناصر الإرهابية، واستهدفت القوات الجوية 137 موقعاً متنوعاً ما بين مواقع اختباء ومخازن ذخيرة وإعاشة. يضاف إلى ذلك إلقاء قوات الجيشين الثاني والثالث الميدانيين وقوات وزارة الداخلية القبض على 804 مجرم ومشتبه فيه وتصفية 53 عنصراً إرهابياً خلال الاشتباكات، وتدمير 528 مخزناً و67 عربة دفع رباعي و110 دراجات نارية تستخدمها العناصر الإرهابية. وأبطلت ودمرت وحدات المهندسين العسكريين خلال هذه الفترة 205 عبوات ناسفة و69 دائرة تفخيخ وشرك خداعي. بالإضافة إلى مصادرة كميات من الأسلحة والذخائر وقذائف الهاون وأجهزة اللاسلكي والمواد الكيميائية المستخدمة في صناعة المتفجرات، بجانب 1500 كغ من مادة سي فور شديدة الانفجار وكميات أخرى من مادة تي إن تي، ومحطة إعادة بث لاسلكية إستخدمتها العناصر الإرهابية في بث الموجات اللاسلكية.
هذه الحصيلة الكبيرة تُضاف إلى حصيلة الشهرين السابقين لانطلاق هذه العملية، وهي تشمل تصفية 52 عنصراً إرهابياً والقبض على 600 مشتبه فيه وتدمير 1650 ملجأ ومخزناً و72 عربة دفع رباعي و300 فتحة نفق إلى جانب إبطال مفعول 100 عبوة ناسفة.
استراتيجية القوات ومحاورها:
تتسم هذه العملية بسمات رئيسية تجعلها بالفعل العملية العسكرية الأكبر منذ انتهاء عمليات حرب السادس من أكتوبر 1973، السمة الأولى هي شمول هذه العملية لاتجاهات جغرافية واستراتيجية تتعدى حتى الأراضي المصرية، المسرح الأساسي للعمليات بطبيعة الحال هو شمال شرق سيناء، ملحقاً به بعض المناطق الواقعة وسط سيناء. الاتجاهات الفرعية المترتبة على هذا المسرح تشمل قوساً واسعاً يضم السواحل الشمالية والشرقية ومجرى قناة السويس، والحدود الجنوبية والغربية، ومحافظات الدلتا، والظهير الصحراوي الفاصل بين وادي النيل والحدود الغربية. هذه السمة شكلت حدود السمة الثانية لهذه العملية وهي "معركة القوات المشتركة".
جوهر الوحدات المشاركة في هذه العملية يتكون من قوات "مكافحة الإرهاب"، وهي وحدات مشتركة منتخبة من قوات الجيش والشرطة، تم تكليفها بالعمليات شمال سيناء وفي المنطقة الغربية المحاذية للحدود مع ليبيا، هذه الوحدات تعاونها وتشترك معها في العمليات قوات الصاعقة والمظلات والوحدات الخاصة البحرية بجانب قوات التدخل السريع والوحدات الخاصة في الأمن المركزي التابع لوزارة الداخلية، وتساند هذه القوات وحدات من سلاح المهندسين العسكريين والقوات البحرية والجوية، وتعمل كافة هذه القوات تحت قيادة غرفة عمليات القيادة العسكرية الموحدة لشرق القناة ومكافحة الإرهاب، التي تنسق بين الأسلحة والوحدات المشاركة في العملية.
تنوع وحدات هذه العملية الكبيرة، واتساع مسرح العمليات، يدفعنا بالضرورة إلى تناول الأدوار المطلوبة من كل وحدة في مختلف اتجاهات التحرك العملياتي.
في سيناء، تقوم وحدات مكافحة الإرهاب والتدخل السريع والمظلات والصاعقة والوحدات الخاصة البحرية والوحدات الخاصة في قوات الأمن المركزي بالتحرك في القطاعات المخصصة لها شمال ووسط سيناء، لتنفيذ عمليات تطهير شاملة اعتماداً على المعلومات الإستخبارية التي تم جمعها على مدار الشهرين الماضيين، وبدعم مدفعي وجوي. هذه التحركات تمتد إلى محافظات الدلتا التي تضطلع فيها وحدات من الجيش والشرطة بمهام تنفيذ الدوريات المشتركة وتأمين المرافق الحيوية.
سلاح المهندسين العسكريين كان له دوراً مهماً خلال الأيام الماضية في حماية القوات المتقدمة من مخاطر العبوات الأرضية الناسفة والشراك الخداعية، ونفذت عناصره عمليات مسح مضاد للألغام على طرق تقدم القوات، وأبطلت مفعول العبوات التي يتم اكتشافها، وأمنت المواد الكيمائية والمتفجرة التي تمت مصادرتها خلال المداهمات.
القوات الجوية تم تكليفها بمجموعة من التكليفات متعددة المحاور، فهي تنفذ في سيناء والحدود الغربية واجبات القصف الجوي بمقاتلاتها ومروحياتها، وعمليات الاستطلاع المستمر لأرض المعركة سواء بطائرات الإنذار المبكر والاستطلاع أو الطائرات دون طيار، وعمليات النقل الاستراتيجي للقوات والمعدات إلى سيناء ومناطق أخرى. وقد تمكنت القوات الجوية على الحدود الغربية بفضل الاستطلاع المستمر من إحباط محاولتي تسلل لما مجموعه سبع عشرة سيارة دفع رباعي، تم استهدافها قبل اختراقها الحدود المصرية. هذا النشاط تدعمه وحدات حرس الحدود المصرية المدعومة بقوات مشتركة من الجيش والشرطة، حيث تقوم هذه الوحدات على مدار الساعة عن طريق الدوريات والمراقبة الرادارية، بمسح وتأمين الحدود الشمالية والغربية والجنوبية.
تمّ إسناد دور هام جداً للقوات البحرية في هذه العملية، على عكس ما قد يعتقد البعض حيال عملية عسكرية برية، فتم تكليف زوارق الصواريخ وزوارق الدورية وبعض الفرقاطات بجانب سفينة الإنزال البرمائي "ميسترال"، بواجب تنفيذ دوريات قتالية لمسح نطاق الساحل الشمالي المصري بشكل عام، خاصة الساحل الشمالي لسيناء، وذلك بهدف قطع أي فرص لتموين أو هرب العناصر الإرهابية من سيناء. تقوم زوارق الدورية في هذا التكليف بمراقبة تحركات السفن في المنطقة وتفتيش السفن المشتبه بها، كما تنفذ الوحدات الخاصة البحرية حسب الضرورة عمليات برمائية انطلاقاً من سفينة الإنزال من فئة "ميسترال"، كذلك تنفذ وحدات من القوات البحرية دوريات منتظمة لتأمين قناة السويس بالتنسيق مع وحدات تأمين المجرى الملاحي التابعة للجيش المصري التي تتولى حراسة جانبي الممر الملاحي. الدور الأهم الذي تم إسناده للقوات البحرية في هذا التكليف كان تأمين المياه الاقتصادية المصرية من أي تهديدات "خارجية"، خاصة مناطق التنقيب عن الغاز، وهو دور لا يرتبط ارتباطاً مباشراً بمجريات العمليات الميدانية على الأرض، لكن يرتبط بشكل وثيق بالهدف الاستراتيجي طويل الأمد من عملية سيناء 2018 وهو توفير ظروف أمنية وعسكرية داخلية وإقليمية مناسبة لمصر لتهيئة مناخ داخلي اقتصادي جيد يسمح بإكمال مشوار التنمية.
من السمات البارزة في هذه العملية، الاهتمام بشكل أكبر من العمليات السابقة بالجانب التنموي والمدني في مناطق العمليات، عمليات القصف المدفعي والجوي لا تتم إلا في المناطق التي تؤكد المعلومات الاستخبارية وصور الاستطلاع الجوي وجود عناصر إرهابية فيها وخلوها من المدنيين، كذلك بدأت الوحدات المشاركة في العملية بسيناء منذ اليوم الأول في توزيع حصص تموينية وغذائية على السكان، وكذلك تستمر عمليات إنشاء عدة مناطق سكنية جديدة، ضمن خطة التنمية الشاملة لسيناء.
ردة فعل عناصر تنظيم داعش في سيناء على بدء عملية سيناء 2018 كانت دليلاً على حجم المفاجأة من شمولية تحرك القوات، ودقة المعلومات التي تم جمعها خلال الأسابيع الماضية، والأهم، نجاح عنصر المباغتة الذي فيه تم تسريب خبر إعلان وزارة الصحة حالة الطوارئ في مستشفيات شمال سيناء، قبل أسبوع من بدء العمليات، بحيث يصل عناصر داعش إلى قناعة أن العمليات بعد مرور أسبوع من تسريب الخبر المشكوك في صحته لن تنطلق، ومن ثم بدأت العمليات بقوة. لم ينفذ التنظيم أية عمليات منذ انطلاق العمليات وحتى الآن، واكتفى بإطلاق صاروخ باتجاه مدينة إيلات في فلسطين المحتلة، وببث تسجيل مصور يحتوى على بعض العمليات القديمة التي تعود إلى أوائل العام الماضي، بجانب تحذير للمصريين من المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ليؤكد التنظيم بصورة غير مباشرة ارتباط عناصر بشكل أو بآخر بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة، خاصة أن هذا التسجيل ظهر فيه نجل أحد القيادين بالإخوان ويدّعى عمر الديب، معلناً انضمامه لداعش، مع العلم أن هذا الشخص لقي مصرعه في اشتباك مع قوات الأمن، وكانت تتدعي بعض الجهات المعارضة أنه "مختفي قسرياً".
رسائل إلى من "يفهم" الأمر
احتوت مجريات العملية، وبيانات القوات المسلحة بخصوصها، رسائل هامة للمحيط الإقليمي المصري، تجعل لهذه العملية أبعاداً مهمة تتخطى البعد الميداني المحلي. الرسالة الأولى كانت في ظهور متكرر في بيانات القوات المسلحة لزوارق الدورية والوحدات البحرية الخاصة، أثناء تأمينها لعمليات التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، خاصة حقل "ظهر" المصري والذي يعدّ من ضمن الحقول الأكبر للغاز الطبيعي في المنطقة. هذه الرسالة موجهة بشكل واضح إلى تركيا، التي أعلنت بوضوح رفضها لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص واليونان، وقامت بحريتها باعتراض سفينة تنقيب تابعة لشركة "إيني" الإيطالية حاولت البدء في عمليات التنقيب لصالح جمهورية قبرص اليونانية. هذه الرسالة تم تأكيدها بظهور متكرر لزوارق الصواريخ المضادة للسفن في بيانات القوات المسلحة، وكذلك تنفيذ القوات البحرية لمناورة تم فيها إطلاق أربعة صواريخ أرض سطح من نوع HY-2B صينية الصنع يصل مداها إلى 350 كم.
ظهور زوارق الصواريخ المضادة للقطع البحرية، كان موجّهاً أيضاً لإسرائيل، خاصة أنّ أحد الأنواع التي ظهرت في بيانات المتحدث العسكري، كان زورق الصواريخ السوفيتي الصنع "OSA" وهو النوع الذي كان للبحرية الإسرائيلية معه تجارب صعبة كان أشهرها إغراق البارجة الإسرائيلية "إيلات" خلال حرب الاستنزاف التي شنتها مصر على إسرائيل عقب حرب 1967. وجهت مصر رسالة أخرى لإسرائيل لكنها كانت رسالة خاصة جداً وذات معاني مهمة، فقد ظهر في فيديو نشرته وزارة الدفاع المصرية عن قواتها للدفاع الجوي، طائرة مصرية من نوع فانتوم أف4 كانت تخدم في القوات الجوية وخرجت من الخدمة منذ سنوات، لكن المميز في هذه الطائرة أنها تحمل تمويهاً وترقيماً وعلامات مطابقة لمقاتلة إسرائيلية من نفس النوع كانت تخدم في السرب الجوي 201 الذي شارك في حرب لبنان عام 1982، وتظهر في الفيديو بوضوح عملية تشبيهية لإسقاط هذه الطائرة بصاروخ مصري. وكان من المفارقات التاريخية أن يتم نشر هذا الفيديو في نفس اليوم الذي أسقط فيه الدفاع الجوي السوري مقاتلة إسرائيلية من نوع أف 16.
الرسالة الثالثة كانت للدلالة على أن نطاق هذه العملية التكتيكي والاستراتيجي يشمل كامل المحيط الإقليمي لمصر وليس أراضيها فقط، حيث شاركت في العمليات وظهرت في بيانات القوات المسلحة طائرات الإنذار المبكر E2C-Hawkeye التي يصل مدى كشفها إلى ما يتعدى 600 كم، وبما أنه لا توجد ضرورة ملحة لاستخدام هذا النوع من الطائرات في وجود أنواع أخرى من طائرات الاستطلاع وتشكيلة من الطائرات دون طيار، فإننا من الممكن أن نضع هذه المشاركة في خانة قناعة مصرية بوجود تهديدات جدية في المحيط الإقليمي المصري، تهديدات تحتاج مصر إلى استخدام كافة قدراتها القتالية إلى أقصى حد، لمجابهتها. كما نستطيع أيضاً وضع زيارة مدير الاستخبارات الخارجية الروسي وقائد سلاح الجو اليوناني إلى مصر في نفس هذه الخانة التي تجد مصر نفسها فيها بحاجة إلى تطوير دورها في البحر المتوسط وليبيا في ظل التحديات الحالية.