ميدانيات مصر: الجمعة الحمراء وما قبلها

منذ منتصف هذا الشهر، استمر تنظيم داعش في استهداف "المناديب" العاملين مع قوات الجيش وهم مدنيون من الأهالي يرافقون قوات الجيش خلال عمليات المداهمة والتفتيش، فجر التنظيم عبوة ناسفة أسفل سيارة أحدهم بالشيخ زويد مما أسفر عن استشهاده وإصابة فردين آخرين. ثم جاء الهجوم الكبير على مسجد قرية الروضة ليكون بمثابة شرارة يريد التنظيم إشعالها في محاولة لإيقاع شرخ بين أهالي سيناء وقوات الجيش، وإيصال إيحاء مضلل أنّ الوضع في سيناء يتدهور وأن الدولة فشلت في حماية أهالي سيناء.

التركيز على استهداف المدنيين في نطاق منطقة نشاط داعش في شمالي سيناء أصبح ملحوظاً بشكل أكبر منذ مطلع الشهر الماضي

شكّل الهجوم الإرهابي الذي شنته مجموعة مكوّنة من ما يقرب من 30 مسلحاً على مسجد قرية الروضة التي تقع على بعد 30 كم غربي مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء، شكّل صدمة كبيرة على المستوى الإنساني والداخلي المصري، لكنه لم يكن صادماً على المستوى الميداني والتكتيكي كون كل المقدمات التي ظهرت خلال الشهرين الماضيين "تمّ تناولها في تحليل سابق" أشارت بوضوح إلى أن الهدف الرئيسي حالياً أمام مجموعات داعش في سيناء هو "المدنيون".

التركيز على استهداف المدنيين في نطاق منطقة نشاط داعش في شمالي سيناء، والتي تشمل مدن رفح والشيخ زويد والعريش، أصبح ملحوظاً بشكل أكبر منذ مطلع الشهر الماضي، كان لهذا أسباب متعددة، على رأسها العمليات المستمرة والمتلاحقة لقوات الجيشين الثاني والثالث، والتي لم تسمح لعناصر التنظيم بالتقاط أنفاسهم أو بفترة هدوء تسمح لهم بالتجهّز أو الاستعداد لأي عمليات، الجيش الثالث منذ منتصف الشهر الحالي كثّف عملياته في مناطق وسط سيناء، وقتل 4 عناصر من داعش وألقى القبض على 24 ما بين إرهابي ومشتبه به، ودمر 6 عربات رباعية الدفع، و17 دراجة نارية، إلى جانب مصادرة كميات من المواد المتفجرة والذخائر وقطع غيار الدراجات النارية تم العثور عليها خلال مداهمات لمخازن تحت أرضية وأكثر من 19 نقطة تمركز للعناصر الإرهابية.

كذلك استمرت عمليات الجيش الثاني في مناطق جنوبي رفح والشيخ زويد، وتركزت عملياته حالياً على قريتي التومة والعراج ومحيطهما، ونتج عن عمليات الجيش خلال هذه الفترة مقتل 7 عناصر إرهابية، وإصابة واعتقال نحو 70 عنصراً، وتدمير 5 عربات دفع رباعي، و4 مخازن للذخيرة ومخزني وقود، بجانب مصادرة عدة عربات تحمل ذخيرة ومواد متنوعة.
في نفس السياق تستمر عمليات سلاح المهندسين للتمهيد لبدء عمليات المرحلة الرابعة من المنطقة العازلة الحدودية مع فلسطين المحتلة برغم محاولات العناصر الإرهابية إعاقة إتمام هذه العمليات خاصة في حي الإمام علي، لكن تواجد حملة عسكرية كبيرة في هذه المنطقة سمح باستمرار العمل والبدء في إخلاء عدد من المباني الحكومية في رفح تمهيداً لإزالتها، لوقوعها ضمن نطاق هذه المرحلة من مراحل إنشاء المنطقة العازلة.

شهدت الأيام الماضية أيضاً تكثيفاً ملحوظاً للعمليات الجوية والمدفعية؛ بطاريات المدفعية المصرية تستهدف بشكل يومي أي تحرك معادٍ يتم رصده على الشريط الحدودي مع رفح بجانب المناطق الواقعة غربها وجنوب الشيخ زويد، كذلك نشطت المقاتلات والطائرات دون طيار في أجواء جنوبي رفح والشيخ زويد وحققت إصابات مباشرة في ضربة على منطقة جنوبي قرية التومة.
السمة الأكثر وضوحاً خلال عمليات الفترة من أوائل الشهر الماضي وحتى اليوم، هي تمكن قوات الجيش من إحباط أكثر من 10 هجمات رئيسية على كمائن وتمركزات القوات، كان آخرها إحباط هجوم على كمين أمني جنوبي الشيخ زويد، وإفشال محاولتين لتفجير عبوات ناسفة؛ الأولى في شارع الخزان بوسط مدينة العريش، والثانية على طريق العريش – القنطرة قرب قرية الميدان الواقعة غربي العريش.

بالتالي أصبح من الواضح أن قدرة داعش على شن الهجمات المحدودة سواء على الكمائن والتمركزات العسكرية أو على الأرتال السيارة تقلصت بشكل كبير بدرجة مماثلة للتقلص الشديد الذي حدث في إمكانيات التنظيم على شنّ هجمات موسعة مثلما كان الحال عليه خلال عام 2015 ومنتصف عام 2016.
هذا الضغط العسكري المتواصل عن طريق العمليات العسكرية والأمنية المستمرة في منطقة العمليات، والإغلاق شبه المحكم للحدود مع فلسطين المحتلة سواء عن طريق المنطقة الفلسطينية العازلة على الجانب الآخر من الحدود أو المنطقة المصرية العازلة التي ستبدأ قريباً المرحلة الرابعة من عمليات إنشائها، يضاف إلى ذلك كله فشل تنظيم داعش في اللعب على أوراق "التهجير القسري لأهالي شمال سيناء، واستهداف الدولة للمدنيين واستهداف الأقباط وتهديد النشاط الاقتصادي"، وهي أوراق حاول خلال الفترة الماضية تفعليها للإيحاء تارة بأن الدولة ترحل قسرياً أهالي شمال سيناء، وتارة بترويج إعلام التنظيم أن الجيش يستهدف المساجد ومنازل المدنيين في منطقة العمليات، وتارة بمحاولة استهداف التنظيم للأقباط بهدف اللعب على الوتر الطائفي وتوتير العلاقة بين الدولة والكنيسة، وتارة آخرى بمحاولة استهداف النشاط الإقتصادي عن طريق المحاولات المتكررة للهجوم على مصنع إسمنت العريش والآليات الثقيلة العاملة وسط سيناء، وتهديد الأهالي العاملين سواء في المصنع أو في الملاحات بإيقاف أي تعامل بينهم وبين الجيش.

كل هذه الأوراق فشلت بشكل تام، وكان البديل بالنسبة للتنظيم التركيز على ضرب المدنيين وأفراد القبائل السيناوية، وهو ما بدء في التصاعد بشكل كبير منذ أوائل الشهر الماضي.

لا يجب أن ننظر لهذه العملية من وجهة نظر ميدانية تتعلق فقط بالضغط الذي يقع على داعش في سيناء

منذ منتصف هذا الشهر، إستمر التنظيم في استهداف "المناديب" العاملين مع قوات الجيش وهم مدنيون من الأهالي يرافقون قوات الجيش خلال عمليات المداهمة والتفتيش، فجر التنظيم عبوة ناسفة أسفل سيارة أحدهم بالشيخ زويد مما أسفر عن استشهاده وأصابه فردين أخرين. ثم جاء الهجوم الكبير على مسجد قرية الروضة ليكون بمثابة شرارة يريد التنظيم إشعالها في محاولة لإيقاع شرخ بين أهالي سيناء وقوات الجيش، وإيصال إيحاء مضلل أن الوضع في سيناء يتدهور وأن الدولة فشلت في حماية أهالي سيناء.
الهجوم على المسجد تم بنسق متعدد الأهداف، هاجم نحو 30 عنصر إرهابي المسجد بالرصاص أثناء خطبة الجمعة، ثم لاذوا بالفرار، المسجد تابع لأحدى الطرق الصوفية، ومن المعروف ان عدة إصدارات لتنظيم داعش أوائل العام الحالي أشارت بالسلب الى الصوفيين في سيناء وهددت باستهدافهم، هذا من الممكن ربطه بتوقيت الهجوم الذي يأتي في الذكرى السنوية لاغتيال الشيخ سليمان أبو حراز أحد أهم مشايخ الحركة الصوفية في سيناء، والذي ذبحه التنظيم في نفس هذا الشهر من العام الماضي. منطقة الهجوم بشكل عام تعد من مناطق معيشة قبيلة السواركة أحدى أكبر قبائل سيناء، ومن الممكن اعتبارها مستهدفة في هذا الهجوم الذي كان واضحاً بشكل لا يقبل الشك أن هدفه الرئيسي كان إيقاع أكبر عدد من الضحايا. وهو ما تحقق فعلا للآسف باستشهاد أكثر من 300 وأصابه أكثر من 100 فرد. لتصبح هذه الجريمة الأكبر من حيث عدد الضحايا في تاريخ مصر.


لا يجب أن ننظر لهذه العملية من وجهة نظر ميدانية تتعلق فقط بالضغط الذي يقع على داعش في سيناء، هذا الضغط يشمل أيضاً كامل أراضي مصر، فوزارة الداخلية سددت خلال عشرة أيام مضت ضربتين قويتين على المجموعات المسلحة "الرديفة" لداعش في الداخل المصري، فشنت مداهمات متزامنة على شقق سكنية يختبئ بها عناصر من تنظيم "لواء الثورة" في محافظات القاهرة والجيزة وكفر الشيخ والبحيرة، صادرت خلالها كميات من الذخائر والأسلحة والمواد المتفجرة، بجانب سيارات كان يتم إعدادها لتنفيذ عمليات تفجيرية. كما نفذت الشرطة مداهمة مماثلة لشقة سكنية في مدينة السادس من تشرين الأول/أكتوبر، صادرت بها متفجرات وأسلحة تعود لتنظيم "حسم" الإرهابي المسلح المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين. يضاف إلى ما سبق الفشل الواضح على مدار هذا العام للتنظيمات المسلحة في أدامة تواجدها في مناطق محددة، حيث فشلت في إيجاد موطئ قدم لها في محافظات الصعيد، وفشلت محاولاتها المتكررة للتمركز في محافظات الدلتا او في الظهير الصحراوي للمحافظات الجنوبية او حتي في المناطق المتاخمة للحدود مع ليبيا، والتي تتعرض أي محاولات لاختراقها لضربات مستمرة من القوات الجوية المصرية كان أخرها منذ أيام بتدمير عشر عربات دفع رباعي محملة بالذخائر حاولت التسلل إلى داخل الحدود.


على المستوى الإستراتيجي، توقيت عملية الروضة يأتي في ظل نشاط مصري متزايد على المستوى الإقليمي سواء في ملفات سوريا وليبيا والمصالحة الفلسطينية، أو في الملف اللبناني مؤخراً، أو في ما يتعلق بالتعاون المتزايد مع اليونان وقبرص، والذي قد يؤرق أطرافاً اقليمية مثل تركيا التي حذرت منذ فترة هذه الدول من أجراء مناورات "ميدوزا 5" البحرية. تركيا تعرضت أيضاً لضربة موجعة في مصر بعد الكشف عن خلية تجسس كبيرة لها. بالتالي العنوان الأكبر لهذه العملية هو "دور إقليمي لدولة ما تريد توجيه ضربة لمصر لمحاولة تحجيم دورها المتزايد، وتحقيق تأثير داخلي سلبي في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في مصر". 
رد فعل الجيش المصري على عملية الروضة جاء سريعاً وفي نفس يوم العملية، بسلسلة غارات جوية تتبعت طرق هروب العناصر التي نفذت العملية، وتمكنت طائراتها دون طيار من تدمير سيارتين وقتل من بهما من عناصر إرهابية، لتبدأ حملة جوية تشمل مناطق شمال ووسط سيناء بالتزامن مع عمليات موسعة للتفتيش والتمشيط، واكبتها أيضاً القبائل في شمالي سيناء حيث أعلنت عن تحديد مثلث أمني يربط ما بين قرى البرث والعجراء والنقيزات. الرد العسكري المصري على هذا الحادث سيكون حتماً على قدره، وربما يكون في مكان أخر مثل ليبيا أو حتى أبعد من ذلك، لكن الأكيد أن حادث الروضة سيفتتح الفصل الأخير من فصول حكاية تنظيم داعش شمالي سيناء، بعد أن أصبح فعلياً معادي للجميع في سيناء دون استثناء، نهاية يقترب منها التنظيم في سيناريو مشابه لما يحدث له في سوريا والعراق، ولما حدث مع التنظيمات الجهادية المصرية عقب حادثة الأقصر عام 1997.

اخترنا لك