لعبة الفلوجة.. أوسع من محيط مدينة وأكبر من حرب

المعركة أكبر من الفلوجة وأوسع من وضع بغداد السياسي وصراع أطراف دولية ولن تهدأ الماكينة الإعلامية التي تحارب مع داعش كما يرى هؤلاء. يستدرك بإجابته. لسنا نزيد من إظهار حسن النية فحراكنا أكبر ثقة وإيماناً بما قررناه عند خوض هذه المعركة من أن ننثني. لكنه اتفاق "الخال" مع القيادة في الحشد الشعبي ومع أبناء العشائر.

تتواصل المعركة لتحرير الفلوجة من داعش
يستريح أحمد، الذي اتخذ لقباً من الشمس اسماً حركياً له، ليأخذ قسطاً قلقاً من الراحة في دار الضيافة عند تخوم الفلوجة الشرقية. أحمد مقاتل في فصيل مقاومة عراقية ورتبته تمنحه أن يقود فوجاً من المقاتلين في جبهة الفلوجة. اسمه يتردد بين أوساط من اصطلح على تسميتهم عراقياً بـ"الحُجّاج"، في إشارة دينية لمن أدى فريضة الحج وإشارة عسكرية لرتبة قائد وليس أي قائد، وبين من يعرّف بـ"الخال" في إشارة واضحة للقائد الأبرز لهذا الفصيل، خصوصاً أن من ينطقها يضيف لها نكهة من القداسة.

لم نكن نعرف أحمد بشكله وسمرته وذقنه المتوسط. تجاور مع فريقنا وتشارك معه طاولة الغداء البارد والجبهة الساخنة. كان مجهولاً حينها، اتخذ زاوية من الأرض مستريحاً على سجادة يعلوها الغبار وفي حجره جهازا نداء. بقي صامتاً يحاور من يشاركنا بحديث اجتماعي، لكن أذنيه لا تبتعدان عما يذاع عبر صوت الأجهزة التي تروي قصصاً لا تحتاج لصورة من الميدان. جاء النداء من الجهاز يطلب تعزيزاً، رد أحمد بحزم: المنطقة لا يوجد فيها أكثر من خمسة مقاتلين، يضيف مستدركاً: من يواجهكم مسلحان بسلاح حفيف ومتوسط وثالثهما مطلق قذائف "أ ربي جي" جيد، والرابع يرصد الوضع وخامسهما مساعد عبر دراجة نارية.

أنهى الشمسي النداء وانسل إلى غرفة تتوسطها شاشة كبيرة تظهر مؤشراً على تحرك المحاور التي يديرها هو ويوجهها. كانت المهمة قد أنجزت أسرع من توقعاتنا، وباشر المقاتلون مرحلة جديدة. إنسانية هذه المرة ومعهم الشاب الأسمر. الوجهة تخوم الفلوجة الشمالية، مقاتلو الشمسي يعالجون رفيقهم الذي أصيب اثناء تفكيك عبوة بين الاشجار صنعها داعش من أدوات طبية وبأسلوب خادع تعتمد على سلك يتصل طرفه بأنبوبة طبية متصلة هي الأخرى بدائرة كهربائية تنتظر من يزيح الأغصان.

أنهى المقاتلون إسعاف رفيقهم وفرقوا من وصل إليهم من مدنيي الفلوجة الهاربين من المعارك وداعش، لإنهاء الإسعافات الأولية لمن اصيب من رشقات رصاص داعش، ولتقديم التموين من غذاء وماء وأملاح. غبار يعلو المشهد من الهرولة في الصحراء وأصوات تعلو الغبار أنتم أهلنا وإخواننا وأنفسنا. المشهد يحرك كل السواكن، مقاتلو هذا الفصيل تذمروا، التوجيهات وصلت بأن يسلموا أغطية نومهم لتكون سقفاً لسيارات نقل المدنيين الذين لم يكن متوقعاً وصولهم بهذه السرعة إلى ضفاف الفرات. تذمروا لكنهم باشروا مع الشرطة الاتحادية لتسقيف السيارات. 

مئات العائلات هربت من الفلوجة باتجاه القوات الأمنية العراقية
لا شيء هنا يطير كما التراب، ما إن تنهي شرب الماء حتى تعاود الشرب مرة أخرى وما إن تغسل وجهك حتى تعاود الكرة وهكذا دواليك حتى الملل، ما هو دوركم وهل لديكم من اعتقلتموه من المدنيين ومن سيمسك الأرض بعد تحريرها ولمَ تتحركون سريعاً لتسليم الأرض كأنكم متهمون أو تزيدون من إظهار حسن النية لأسباب تتصل بما أثير ضد وجودكم وحربكم؟ أسئلة كثيرة طرحت على من أدار المعركة في محور شمال الفلوجة وأغلبهم من مقاتلي فصيل مقاومة يعاونهم مقاتلون من عشيرة البو شعبان الأنبارية.

المعركة أكبر من الفلوجة وأوسع من وضع بغداد السياسي وصراع أطراف دولية ولن تهدأ الماكينة الإعلامية التي تحارب مع داعش كما يرى هؤلاء. يستدرك بإجابته. لسنا نزيد من إظهار حسن النية فحراكنا أكبر ثقة وإيماناً بما قررناه عند خوض هذه المعركة من أن ننثني. لكنه اتفاق "الخال" مع القيادة في الحشد الشعبي ومع أبناء العشائر. لا معتقلين ولا سجناء ولا أسرى. من كان بيدنا سلم للجهات المسؤولة. لكي أكون واضحاً معك، يأخذ نفساً عميقاً ويسند ظهره إلى حائط آجر ويبدأ بسحب سيجارة من علبة الدخان، المعركة نقاتل فيها عن يقين وإيمان. عاصمة العراق مهددة من هذا التنظيم ومحافظات العراق التي تتصل والفلوجة إدارياً مهددة منه والفلوجة أصلاً مهددة بوجوده. ثم إنها حرب ضد الإرهاب. ضد من قتل أبناء العشائر وضد فكر وإجرام.

بدأت أطالع وجهه لكي أنسق بين تفاصيل وجهه وما ينطق. طلبت منه أن يحدثني عسكرياً عن المعركة وأفقها ودور الحشد والفصائل. أجاب بثقة ودون تردد "إن طلب منا إكمال المشوار فسنكمله. دون تردد ودون توقف للحظة. وبلا استعجال فالحرب على من قاتل لتحرير أرض عراقية وبيد عراقية لإنقاذ عراقيين، إن أراد الاعلام الغربي أن يقدم واشنطن وطيرانها كقائد محوري لهذه العملية. ما تحرر على يدنا يزيد عن 700 كيلومتر وما بقي 100 كيلومتر مربع أخرى. لكنها بوسع الصراع العالمي وبحجم الحرب الكبرى. تتعدى حدود الفلوجة إلى البون الشاسع بين وطنيين وتجار سياسة. حربٌ السياسة فيها أوسع من محور القتال في الصقلاوية والسجر والكرمة. ولُب الأزمة كقشرها، والنفاق فيها ذكاء وفطنة.

يقول أحد القادة الميدانيين حين احتل الأميركيون العراق قاتلناهم واليوم عدونا على الأرض داعش
غادرنا أرض الصقلاوية إلى حيث مقرنا الأول في شرق الفلوجة. تراصفت في مدخل دار الضيافة السيارات مع الصواريخ والذخيرة بالرجال والخرائط بالحواسيب. سألت عن أحد "الحٌجّاج" فقيل إنه في الدور العلوي. انتقلنا إلى فضاء مفتوح يصل بين صالة وغرفة صغيرة. كلتا البوابتين مغلقتين على من فيهما. ومقاتل مهمته أمنية وسط الفضاء.السلام عليكم بادرناه كالعادة. أين "الحاج ...."؟ تفضل افتح الباب هو داخل الصالة على يسارك.

انسللنا إلى داخل الغرفة بشعور الفضول للاستكشاف الذي لم يتبدد، خمسةٌ جلوس كأنه وقت راحتهم وسادسٌ في زاوية الصالة همّ بالسلام. من زاويته التي اتخذها يتضح أنه كبير الاجتماع وخلا ذلك فزيه وعمره وحواره مع من جاوره يشير إلى أنه مقاتل كالبقية وإن غزا الشيب رأسه. حاولنا تحليل الحوار لنفهم الحضور ومسؤولياتهم. كان يمهر على إكمال وجبات التموين للنازحين موافقاً ومستفهماً.
زال الغبار قليلاً ولكن لم تتضح الصورة بعد. شرح المعركة وزاوية القتال فيها حافظاً عن ظهر قلب المحاور والصنوف والألوية والأفواج وما قدمت وما دورها.  بعد سؤال عام طرحناه على الحضور تكفل هو بإجابته. خمس دقائق كشفت إثرها الأوراق. همس أحدهم لنا تعريفاً هو "الخال". 

تمام هذا هو المطلوب. سأكون صريحاً معك. بأسئلة محددة واضحة، دوركم في الحرب وقتال داعش، والمدنيون. جواب سريع واضح كان ممن يحسب لقواته حساب: المهمة الأولية انتهت بتحرير الكرمة والصقلاوية والسجر والبو شجل وقرى وأرياف وتطويق داعش. سنقدم الدعم ونقاتل داعش داخل المدينة إن تقرّر ذلك . مدنيو الفلوجة هم أهلونا وإخوتنا. نقاتل لتحرير الأرض. نحن عراقيون تطوعنا لقتال منظمة إرهابية لتحرير النفس والأرض. واستهداف المدنيين يضحك الثكلى. لا تتصورن أن عراقياً من البصرة أو واسط أو ديالى يقاتل في جو لاهب وإرهاب عالمي يبحث عن فرصة إيذاء مدني عراقي. نحن ببساطة بندقية لقتال الإرهاب. حين احتل الأميركيون العراق قاتلناهم واليوم عدونا على الأرض داعش.

اخترنا لك