ليلة القبض على الانقلاب .. ماذا حدث في تركيا!

تتباين الآراء والتحليلات حول حقيقة ما حدث في تركيا ليلة 15 تموز/يوليو، ما بين اعتباره "انقلاباً فاشلاً" أو "تمثيلية مُحكمَة التأليف والإخراج". توغّلت التحليلات التي كانت مبنية في أغلبها على الأمنيات والميول السياسية. لم يلتفت الكثير من المحلّلين إلى المُعطيات الميدانية التي حدثت في هذه الليلة والتي تشكّل - بغضّ النظر عن طبيعة الانقلاب - تطوراً خطيراً وهاماً، يحدث في بلد تحتل قواته المُسلّحة مكانة متقدّمة وبارزة في التصنيفات العسكرية. فما تفاصيل ما حدث في ليلة الانقلاب؟

الخطّة الموضوعة للعمليات الجويّة في تلك الليلة تنقسم إلى عدة مراحل
انقسمت الخطة التي تم اتباعها في هذه الليلة على شقين اعتمد الأول فيهما على القوات البريّة في حين تم تكليف القوات الجويّة بتنفيذ الشقّ الثاني الأهم و الأكبر، برياً كان الاعتماد في المرحلة الأولى من الانتشار البري على قوات مشاة ميكانيكية وقوات مدرّعة متنوّعة تتبع لنحو 34 وحدة عسكرية ينتمي أغلبها للجيش الثاني بصفة أساسية، مع بعض الوحدات من الجيشين الثالث والرابع لتتراوح قوة الهجوم في المرحلة الأولى بين 2500 إلى 6 آلاف جندي كان يتوقّع إن ينضم إليهم ما يزيد عن 18 ألف جندي في المراحل اللاحقة. كانت قيادة العملية تتكوّن من قائد القوات البريّة وقائد القوات الجويّة السابق بجانب قائد الجيش الثاني وقائد قاعدة "انجرليك" الجوية وخمسة مستشارين عسكريين للرئيس التركي بجانب المستشار القانوني لرئيس الأركان والمدّعي العام العسكري و46 ضابطاً رفيع الرتبة من بينهم طيّارون في القواعد المشاركة في العملية. على المستوى الجوّي كانت قاعدة "أكينجي" شمال شرق أنقرة هي قاعدة العمليات الرئيسة وشاركت في العملية أيضاً قاعدتا "أنجرليك" و"ملاطيا" جنوبي البلاد وقاعدة لطيران الجيش غرب أنقرة.

كانت الخطّة الموضوعة للعمليات الجويّة في تلك الليلة تنقسم إلى عدة مراحل. اﻷولى منها يتم فيها قصف المواقع الحكومية التي قد تتم الاستعانة بها لمواجهة قوات اانقلاب  عسكرياً أو سياسياَ أو إعلامياً، على إن يتم هذا بالتزامن مع عمليات إنزال جوّي بالمروحيات على بعض المناطق بهدف السيطرة عليها، والقبض علي مَن يتواجد فيها من شخصيات مهمة أو ضبّاط كبار. في المرحلة الثانية كان الهدف اﻷساس هو تأمين اﻷجواء التركية وإسقاط الطائرة التي سيستقلّها الرئيس التركي. في المرحلة الثالثة كان مخططاً هبوط سرب من طائرات النقل العسكرية المحمّلة بالذخائر والعتاد في قاعدة أكينسي لبدء توزيعها على القوات التي يتوقّع انضمامها إلى قوّة اانقلاب في اﻷيام التالية. بالنسبة للخطة البريّة كان الواجب اﻷول فيها هو السيطرة على المرافق الحيوية في أنقرة واسطنبول وإغلاق جسر البوسفور بدعم من عناصر الشرطة الموالين للانقلاب، ثم توسيع السيطرة في باقي المدن انطلاقاً من الوحدات الموالية للانقلاب في كامل إنحاء تركيا، والتي اشتملت أيضاً على عدد من الوحدات البحرية كان من المُفترض إن يكون لها دوراً في مراحل الانقلاب اللاحقة.

تفاصيل العملية

انطلقت مساء يوم الانقلاب العمليات الجوية التي استمرت لنحو 7 ساعات حيث أقلعت مقاتلتان من نوع "أف16" تتبعان للسرب 141 من قاعدة "اكينسي" في اتجاه أجواء أنقرة وبدأتا في التحليق على ارتفاعات منخفضة وكسر حاجز الصوت وانضم إليهما عدد من المقاتلات يتراوح بين مقاتلتين وأربع مقاتلات بجانب عدد غير مُحدّد من المروحيات الهجومية من أنواع "AH-1 COBRA" و"AS-532 COUGAR" و"S-70 SIKORSKY". 
ونفذّت هذه التشكيلات غارات على مبنى البرلمان الذي كان اﻷكثر تعرضاً لغارات المروحيّات والمقاتلات. نفذّت المقاتلات أيضاً غارات على القصر الرئاسي الجديد ومقر قوات الشرطة الخاصة، وكان للمروحيات الدور اﻷكبر في غارات هذه الليلة حيث أغارت على قيادة طيران الشرطة والمقرّ العام للشرطة ومقرّ النائب العام بجانب المحطة التلفزيونية الرسمية ،"TRT" ونفذّت عمليتي أنزال اﻷولى كانت ناجحة واستهدفت حفل زفاف كان يحضره عدد من الضبّاط الكبار منهم رئيس اﻷركان العامة للجيش وتم إلقاء القبض عليهم ونقلهم من المكان، والثانية استهدفت مقرّ الاستخبارات العامة بغرض السيطرة عليه وتصفية قائد الجهاز، لكن فشلت العملية ولم تتمكّن قوة الأبرار من الهبوط. 
في المرحلة الثانية بدأت مقاتلات F16 الست في عمليات بحث عن الطائرة التي تُقلّ الرئيس التركي مدعومة بطائرة تانكر من نوع "KC135R"، أقلعت من قاعدة أنجرليك ونفذّت عملية تزويد بالوقود جواً لمقاتلتين على الأقل من المقاتلات الموالية للانقلاب، كان لانتشار أنباء مُتضاربة حول الوجهة التي اتجهت إليها الطائرة بعد إقلاعها من مطار دالامان في مرمرة الأثر الرئيسي في فشل البحث الجوي عنها لدرجة إن مقاتلتي F16 تابعتين لقوة الانقلاب كانتا بالقرب منها ولم تتعرفان عليها. كانت الفرصة مُتاحة أمام مقاتلات الانقلاب لتدمير الطائرة الرئاسية. شكّل هذا الفشل في استهداف الرئيس التركي نقطة تحوّل في مُجريات الانقلاب وأثّر بشكل رئيسي على القوات البرية للانقلاب، التي بدأت بالتحرّك في أنقرة واسطنبول بالتزامن مع بدء العمليات الجوية. هذا الفشل تبعه فشل آخر بعد تعذّر إقلاع سرب طائرات النقل من قاعدة ملاطيا في اتجاه قاعدة أكينجي. هذا السرب أشتمل على طائرتي نقل من نوع "A400M" وست طائرات من نوع "C130"، كانت تحمل أعتدة وذخائر وعدداً من الضبّاط. فشل إقلاع هذه الطائرات بسبب قيام أفراد تابعين لبلدية ملاطيا بإغلاق ممرات القاعدة بعربات الإطفاء ما جعل من المستحيل استخدامها.

انتهت العمليات الجوية فعلياً فجر اليوم التالي بعد إن تمكّنت الشرطة التركية من إيصال عدد من الطيارين إلى قاعدة "بالق أسير" قرب مرمرة وقاعدة "أرضروم" شرق البلاد وإطلاق عمليات جوية مضادّة للطائرات التابعة للانقلاب أسفرت عن إسقاط مروحية من نوع "AH-1 COBRA" تابعة لقوات الانقلاب أثناء قصفها لمبنى التلفزيون الحكومي. وفي صباح نفس اليوم تعرّض الممر الرئيسي لقاعدة اكينجي إلى غارة نفّذتها مقاتلة موالية للحكومة التركية من نوع "F-4".

انعكست نهاية العمليات الجوية والفشل في تحقيق الهدف الرئيسي منها على أداء القوة البرية التابعة لقيادة الانقلاب، في البداية انتشرت هذه القوات مدعومة بناقلات الجند والدبّابات في المناطق الرئيسية في أنقرة واسطنبول وعلى رأسها محيط القصر الرئاسي الجديد و جسر البوسفور ومطار أتاتورك ومقر القناة الفضائية الحكومية، ولكن قوبلت هذه القوات بمقاومة من قبل قوات الشرطة والمناصرين لأردوغان في محيط مبني المخابرات العامة ومطار أتاتورك ومبنى البرلمان عقب خطابه عبر الأنترنت. فشلت مفرزة من القوات الخاصة تم إرسالها إلى مقر إقامة الرئيس التركي في مرمرة في مهمتها بعد مغادرة الرئيس لمقر إقامته قبل وصولهم. كانت نقطة التحوّل في ما يتعلّق بالعمليات البرية لقوة الانقلاب هي عدم مشاركة الجيش الأول في الانقلاب وإعلانه دعم الحكومة التركية. النقطة الثانية تتعلّق بتعذّر الاستفادة من الموالين للانقلاب داخل الشرطة التركية التي قامت فرق محدّدة منها مدعومة بعناصر مدنية بالتصدي لعناصر الجيش المنتشرين في الشوارع والذين كان أغلبهم لا يعلم بالضبط سبب التحرّك في الشارع وظنّ بعضهم أنها "تدريبات" وربما هذا هو التفسير المنطقي الوحيد للطريقة المُهينة التي استسلم بها الجنود تاركين معداتهم وأسلحتهم وملابسهم لينتهي التحرّك البري لقوات الانقلاب بمشاهد مروّعة تم فيها إهانة الجنود وجلدهم وقتل بعضهم. هذه النهاية منعت من إتمام الجزء التالي من الخطة البرية والذي كان يقتضي بسحب القوات الموجودة في العراق على وجه السرعة وإعادة نشرها في المناطق الجنوبية.

نتائج الانقلاب .. انقلاب

منذ نهاية عمليات الانقلاب البريّة والجويّة دخلت تركيا في حال غير مسبوقة من الانفلات وردود الفعل الانتقامية نفّذتها القوات الخاصة في الشرطة مدعومة بعناصر المخابرات العامة، تمت مداهمة قاعدة أنجرليك الجويّة وإلقاء القبض على قائدها واعتقال أكثر من ثلاثة آلاف جندي و118 جنرالاً رفيع الرتبة على رأسهم قائد سلاح الجو السابق وقائد منطقة البحر المتوسط في البحرية التركية وقائد الجيش الثاني، بجانب اقتحام قاعدتي قونيا وأنجرليك الجويتين وقاعدة مرسين البحرية ومركز قيادة الجيش الثاني في مالاطيا ومطار صبيحة المدني في اسطنبول. شملت الإجراءات كافة القطاعات المدنية والعسكرية حيث تم عزل ما يقرب من ثلاثة آلاف قاض ونحو تسعة آلاف شرطي بجانب 30 محافظاً و47 حاكم مقاطعة ومايقرب من خمسمائة طالب بالكليّة العسكرية بالإضافة إلى قرارات العزل والمنع من السفر والإقالة التي ضمّت إقالة نحو خمسة عشر ألف موظف في وزارة التربية التركية!.

حجم القوات التي شاركت في هذا الانقلاب والشخصيات العسكرية الرفيعة التي شاركت فيه ترجّح فرضية إن التحرّك كان فعلاً انقلابياً مدبراً ولم يكن مجرد مسرحية استُهدف منها الرئيس التركي أيجاد مبرر للانتقام من خصومه، العملية كان مخططة بعناية وكان يكفي إسقاط طائرة أردوغان أو التمكّن من الوصول إلى مقر إقامته في مرمره لينجح الانقلاب، لذلك مثل عدم اعتقال أو قتل الرئيس التركي المسمار الأول في نعش المحاولة، لم تضع قيادة الانقلاب في الحسبان إمكانية معرفة الاستخبارات العامة لما يتم إعداده من تدابير لوجيستية تمهيداً للانقلاب خصوصاً في ما يتعلّق بسلاح الجو وعلى ما يبدو فإن الاستخبارات كانت على علم ولو بمعطيات محدودة بما قد يحدث وربما يُشير التحرّك الممنهج والمتزامن للموالين لأردوغان وعناصر الاستخبارات وقوات الشرطة الخاصة في اتجاه المواقع التي سيطرت عليها قوات الانقلاب إلى هذه الإمكانية. بقاء بعض القواعد الجوية بجانب قوات الجيش الأول خارج أطار الانقلاب مثل أيضاً جانب من جوانب الفشل يُضاف إليها حقيقة إن معظم العناصر التي نزلت إلى الشوارع ليلة الانقلاب لم يكن لديها علم بحقيقة الانقلاب أو دوافعه، بل كانت مبرّرات التحرّك التي زودوا بها هي أنها جزء من "تدريبات" وهو ما جعل أكثريتهم يبادرون بإلقاء السلاح والتخلّص من أسلحتهم فور اتّضاح الأمور لهم.

اخترنا لك