سوريون وسوريّات في لبنان: الوطن فوق الأكتاف

هؤلاء لا يمتلكون مبرراً منطقياً للهجرة. المستقبل المجهول يجب أن يكون محفّزاً للخروج. لبنان لا يزال قريباً. هذا التجاور بكل ما فيه من تعب يجعل الأمل بالرجوع يوماً ما، ممكناً. الهجرة تعني بداية جديدة. وكل البدايات تستلزم طلاقاً مع ما قبلها، وهذا ما لا طاقة لهم به، "فما بقي فيك لم يعد بإمكانك خسرانه بعدما فقدت الكثير"، يقول إياد بلسان جميع الحضور، كأن الوطن يربض فوق أكتافهم.

ما بقي فيك لم يعد بإمكانك خسرانه بعدما فقدت الكثير
هو بيت كأي بيت لبناني آخر. كبير نسبياً. لكن ساكنيه بعكس الكثير من أهل البلد الذي يستضيفهم، يقتسمون غرف البيت وزواياه حتى يضحي كل ركن منه بيتاً بذاته. هذا يحصل عادة مع طلاب الجامعات. ليسوا سوريين لاجئين ولا نازحين ولا مُقيمين. لا أحد يدري أي توصيف ينطبق عليهم، في بلد يتذمّر جلّ سكانه من حاملي الصفات الثلاث، إلا من يستطيع منهم نثر المال كيفما يمّم وجهه.

عدد من الشباب والشابات السوريين أمامي. يقولون إنهم يحيون حياتهم يوماً بيوم. لعلّهم في معيشتهم يقتربون من الكثير من اللبنانيين أيضاً، لكنهم محكومون بالأمل. ليس في الأمر أي وجه من وجوه الرومانسية. فهم مدفوعون إلى الأمل لأن لا منفذ سواه إلى مستقبل يبحثون عنه.  

بجسده النحيف يجلس قبالتك. يسند ذقنه على أصابع يديه المضمومتين. ينظر إليك بعينين مُتسائلتين لا تخلوان من الحرج. تتدخل صديقته حاثة إياه على الكلام. يبتسم. يأخذ نفساً عميقاً ثم ينطلق. زيد، إبن السابعة والعشرين، لم يعد لديه متسع لترف التجربة التي تهدر سني عمره. "لبنان مرحلة"، يقول حالماً بعمل براتب جيّد لأربع أو خمس سنوات. إذ ذاك سيستطيع إدخّار المال لدفعه بدل تغيّبه عن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري. لكن زيد الذي يتقاضى راتباً شهرياً لا يتجاوز 500 دولار، يبدو وكأنه يسعى لاجتراح المعجزات. فقد اختبر لبنان منذ مجيئه من سوريا، ويعرف أنه لا يمتلك عصاً سحرية. عمله السابق مع اليونيسيف في بلاده، لم يعبّد له الطريق إلى وظائف مشابهة في لبنان. أدرك سريعاً أنه في حاجة إلى إتقان اللغة الانكليزية، و"التشبيك" مع زمر المنظمات غير الحكومية للحصول على عمل.

"سأضطر للعمل طوال الأسبوع، بين وظيفة ثابتة براتب ضئيل وأخرى بمردود تطوّعي. المنافسة في لبنان شديدة. لا حلّ عندي للبقاء هنا إلا أن أسجّل دراسات عليا في الجامعة. إتقاني للغة والحصول على الماجيستير سيكونان بمثابة مرحلة جديدة أستطيع الانتقال منها إلى سوريا"، يقول زيد الذي سلّم نفسه مرة للأجهزة الامنية طالباً منهم سجنه على أمل تسوية أوضاعه، لكنهم واجهوه بعبارة "فلّ من هون (إذهب من هنا)".

زيد وأمثاله محكومون بالأمل. قد يكون الانعتاق من الموت القريب سبباً في اتّساع الأمل. مكاشفة النفس بأنه لا يزال هناك شيء ما يستحق الحياة يدفع إلى التشبّث بها. إياد (35 سنة) ابن الرقة، على عكس زيد ابن السويداء، كان في قلب الموت والدمار. مشاهد خروجه مع الآلاف من المدينة هرباً من تنظيم داعش لا تزال في رأسه. التماعة عينيه تروي ما لا يُحكى. "تغريبة تشبه تغريبة الفلسطينيين"، يقول إياد الذي وصل إلى لبنان بلباسه الذي عليه وفي جيبه حفنة من النقود. سنتان من دون يوم انقطاع أمضاهما عاملاً بدوام ليلي بمخبز كبير. بقي كما غيره من السوريين هناك رهناً بمزاجية صاحب العمل لأنه ببساطة هو الكفيل الذي يضمن له استمرارية إقامة العمل. صنوف من العنصرية المقيتة واجهها إياد، حامل شهادة الدكتوراه في الحقوق، لكي يتحصّل آخر كل شهر على 700 ألف ليرة لبنانية. يشغل إياد اليوم وظيفة "محترمة". عنصرية أقل، وراتب أفضل، لكنه حتماً لن يؤمّن له سكناً مستقلاً. لذلك فإنه يتقاسم إحدى غرف البيت مع حبيبته. عالمهما الواسع يربض بين جدران أربعة.

يُطرق الباب. تسمع أصوات ضحك ومزاح. وقت قصير يمضي ثم يُقرع الباب ثانية. يدخل علاء (27 سنة). يُسأل ثم يجيب أنه لم يوفّق في الحصول على الغرفة التي يريد، ثم يجلس صامتاً أغلب الوقت. نطق بكلمات متقطعة وحذرة جداً تدنو من الهمس. فقد ظلّ علاء متأرجحاً بين الشك والثقة. لم ينطق إلا حينما تحدّث كاتب هذه السطور، بما يتحدّث به الجميع دونما مواقف مُسبقة وأحكام جاهزة.

وبينما تروي لمى (21 سنة) التي تسكن في الأشرفية كيف أنها لم تستطع الحصول على عمل في التصوير بسبب لهجتها السورية، فضلاً عن النظرات الفوقية لجيرانها، تدخّل علاء ليقول لها إن بلادها ليست أشفى حالاً من هنا حتى قبل الأزمة.

"قبل الأزمة كانت هناك عنصرية تجاهنا، واليوم هناك حواجز كثيرة وتشبيح ... الجندي بيمشّي السير بإجرو"، قال علاء الذي لا يزال يبحث عن عمل وكفيل. العنصرية التي أتى علاء على ذكرها، يؤكّدها إياد الذي يتذكّر جيداً ما قاساه من المعاملة بوصفه إبن مدينة كل سكانها فلاحين وعمال، قياساً إلى مدن يرى أن الثروات والتنمية دخلت إليها، فيما تم استثناء محافظات أخرى كالرقة ودير الزور والسويداء.

شيئاً فشيئاً بدا الارتياح على علاء، حتى استطاع التكلّم متحرّراً من أي احتمال أن أكون مقرباً من السلطات السورية ووظيفتي نقل معلومات عنه، كما أفصح لي الموجودون عن اعتقاد شائع عندهم. فهم عند الحواجز الأمنية الحزبية يخضعون للكثير من السين والجيم، وأحياناً لغاية وحيدة عند عناصر هذه الحواجز لا تتخطى تزجية الوقت. لكنهم أيضاً لا يكتمون خوفهم من أن تكون وظيفة هذه الحواجز تسليمهم بطريقة ما إلى السلطات السورية، سواء لميول معارضة عند بعضهم أو لتخلّف البعض الآخر عن الخدمة العسكرية. "هكذا عشنا ونعيش في سوريا، لا تعتب علينا"، قالت إحدى الموجودين ضاحكة.

رغم كل ما سبق لا يريد أي منهم الهجرة. لا يمتلكون مبرراً منطقياً لذلك. المستقبل المجهول يجب أن يكون محفّزاً للخروج. لبنان لا يزال قريباً. هذا التجاور بكل ما فيه من تعب يجعل الأمل بالرجوع يوماً ما، ممكناً. الهجرة تعني بداية جديدة. وكل البدايات تستلزم طلاقاً مع ما قبلها، وهذا ما لا طاقة لهم به، "فما بقي فيك لم يعد بإمكانك خسرانه بعدما فقدت الكثير"، يقول إياد بلسان جميع الحضور، كأن الوطن يربض فوق أكتافهم.  

 

اخترنا لك