رحلة تعاطف من الشمال الصابر إلى الجنوب الصامد
في ظلال الأرياح التي عصفتها ذكرى الثاني عشر من تموز/يوليو، كان حشد من أبناء بلدة بينو في عكار يتحفزون للقاء الأرض التي احتضنت بطولات الأيام الثلاثة والثلاثين، يقودهم إليها كاهن الرعية الأب حنا الشاعر.
-
-
الكاتب: نقولا طعمة
- 25 تموز 2017
سنوات مضت دون أن يتمكنوا من زيارة الأرض التي عرفوا ناسها
أيام قليلة من التحضير، ويوم حان الموعد، وحلت الساعة
الثالثة فجراً، انطلقوا بالناقلة الضخمة، تنهب بهم الأرض مسرعة نحو الجنوب
اللبناني، وما هي إلا ساعات تعانق بزوغ الشمس، حتى كانوا في المعلم البطولي "مليتا"،
وقد ترافق وصولهم، دون توقع أو تخطيط، مع انطلاق المقاومين يتتبعون الإرهابيين
الذين هددوا الوطن بأمنه، وسلام أبنائه، في جرود القلمون.
سنوات مضت دون أن يتمكنوا من زيارة الأرض التي عرفوا
ناسها، وأحبوا دماثة خلقهم، وطول اناتهم يوم اضطروا لمغادرة قراهم ومنازلهم تحت
قصف الطيران الهمجي، فكانوا شديدي التوق للعودة للالتقاء بالأرض التي أنبتت هؤلاء
القوم، منبت أبطال المقاومة.
في مليتا
كاهن الرعية المنظم للرحلة الأب حنا الشاعر لم يستطع كتم مشاعره
زوار "مليتا" من بينو العكارية شيء قبل وصولهم "مليتا"،
وشيء آخر بعد خروجهم منها. سمعوا عنها، وعن أبطالها، وأحبوهم دون أن يروهم، وعرفوا
رواياتهم بالتناقل. لكنهم، في مليتا، وما يحوطها، لمسوا، وتحسسوا، ورأوا بأم العين
ما يدهش، من غير المتوقع، وأقل ما قيل: "صحيح أن ما تراه غير ما تسمعه".
كاهن الرعية المنظم للرحلة، الأب حنا الشاعر، لا يستطيع
كتم مشاعره، ويصرح لـ"
الميادين نت": "زرنا معالم الوطن السيادية
والدينية، ودهشنا لما رأيناه في مليتا، التي سمعنا عنها الكثير، فهي عنوان
العنفوان، ومقاومة العدو الإسرائيلي على لبنان. فهمنا ماذا يعني أن يحفر ناس ثلاث
سنوات في الأرض، ليعبرها آخرون بثلاث دقائق. كم هو عمل عظيم أنجزه ابطال المقاومة
ليتخفوا عن الآلة العسكرية العدوة، وليسطروا منها إنجازات بطولية مقاومة، وأعمالا
تنم عن ذكاء، وبعد نظر، وحنكة، وتضحية".
أضاف: "أسعدنا أن تتوافق رحلتنا مع العملية الجارية
في جرود عرسال ضد الحركات الإرهابية، وهي متوافقة مع ذكرى حرب تموز المجيدة، التي
امتزجت فيها دماء أبنائنا في الجيش اللبناني والمقاومة، وروت أرض الجنوب البطل،
ونحن اليوم نشعر بالأمان الكبير بتلاحم الجيش الوطني مع المقاومة، وتعاونهما
للدفاع عن أرض الوطن”.
ويفيد الشاعر إن الوفد زار "سهل الخيام، وبوابة
فاطمة، وقال: "أطللنا على فلسطين التي يتوق كل شريف لعودتها لأصحابها، كما
زرنا قانا حيث المغارة التي مكث فيها السيد المسيح، وكانت زيارتنا ليس فقط زيارة
للمعالم الدينية فيها، إنما زيارة لها لما تعنيه من أرض للمقاومة حيث تعمدت فيها
دماء شهدائنا شبانا وكهولا. كان سرورنا كبيرا، والتقينا أهلنا أبناء الجنوب
الصامد، وملأت الغبطة قلوبنا خصوصا لما لمسناه من حسن ضيافة، وترتيب ونظافة”.
وختم الشاعر بتوجيه التحية للجيش اللبناني وللمقاومة في
معركة تحرير عرسال، ولكل من ساهم في حماية الوطن من المخربين.
يتوقف الشاعر عند بعض محطات مليتا، سلسلة البراميل
المعلقة بعضها بالبعض الآخر، رمت بها طائرات الاحتلال الاسرائيلي على الغابة
لحرقها، لكنها لم تنل من عزيمة المقاومة، وشك من البنادق الاسرائيلية المصادرة من
الجيش المهزوم، ودبابة الميركافا المتحولة من اسطورة إلى قزم، واشياء كثيرة لا
يمكن الإحاطة بها كلها.
الأطفال والأولاد والصبايا والشباب كل منهمك فيما أدهشه،
الطفل جوزيف قفز متمركزا في الميركافا المقزمة، ومروان وشقيقه ميشال عانقا
البنادق، والتقطا الصور تحتها، والكل أمضى الوقت ملتقطا المواقف للاحتفاظ بذكريات
لا تنسى، ولا تعوض.
ويتحدث الشاب الجامعي "غدي" عن انطباعه، وعما
شاهده في "مليتا"، ويقول ل"الميادين نت":
“هنا أرض
البطولة، وكل ما فيها مدهش، لا يصدقه العقل. أحببت المقاومة منذ طفولتي، وأحببت
سيدها، لكنني بعد زيارة مليتا، عرفت المعنى الحقيقي للمقاومة، ولن أنسى ما شاهدت
وعرفت، وأتمنى أن أعود دائما لزيارتها. هي موقع يرفع رأس كل انسان، ويرفع اسم
وطننا عاليا في السماء".
طالت الرحلة، وحل الليل. كانت الساعة قد سجلت قضاء ما
يزيد على الثماني عشرة ساعة، والمشاركون لم يملوا، ولا تعبوا من الترحال الطويل من
أقصى الشمال العكاري إلى أقصى الجنوب، رغم أن مسيرا طويلا كان في انتظارهم. ولكن..لا
بد من العودة، مع أن قلوب المشاركين متعلقة بأرض الجنوب، وبما شاهدوه فيه، من
اهتمام، ومن حسن ضيافة، وكرم.
“جئنا تاركين قلوبنا وراءنا، في ارض البطولة، وبين أهلنا
المقاومين”، قالتها المشاركة في الرحلة سونيا كفروني- وهي رئيسة ل"نادي
الإرشاد والتضامن" في بلدتها، مضيفة: “سحرنا الجنوب بكل ما فيه، من معالم،
وتعامل، ورقي، وطيبة. على باب مليتا، استقبلنا شباب كأننا نعرفهم منذ زمن بعيد. وطالعتنا
في الفيلم الذي حضرناه الطلة المحببة للسيد القائد، يخبرنا عن معنى الصدق، وعن
صمود المقاومين، وكيف كانت هذه المنطقة، وماذا اسس المقاومون فيها. تمالكت نفسي
كثيرا قبل أن أصرخ: لبيك يا نصر الله".
أضافت: "أدهشتنا إنجازات مليتا، ومحتوياتها من
مخلفات العدو التي تنم عن بطولة رائعة.. الغابة، الأنفاق، غرفة الأخبار..العظمة في
كل شيء، مع تواضع المقاومين. تابعنا إلى بوابة فاطمة، وفي الطريق، كل ما تشاهده
عيناك تنم عن أن كل ما في المنطقة مقاوم. الأهل يبنون ما دمرته الآلة العسكرية
بتحد، وبإصرار على الصمود، حيث لا معنى للخوف، ولا مكان له".
وقالت إن "أهمية الرحلة أنها جاءت في تموز العنفوان،
وفي ذكرى معركة 2006 المجيدة، وهي تتوافق اليوم مع تحرير عرسال من الارهاب"، خاتمة
كلامها بنقل تحيات المقاومين في مليتا إلى الأهل في الشمال.