"الصندوق القومي اليهودي".. ذراع "خيرية" للاستيطان الإسرائيلي
احتلال الأراضي الفلسطينية، منذ نهايات القرن الـ19 حتى اليوم، لم يتمّ فقط باستخدام القوة المسلّحة، وإنما عمل الصهاينة على استخدام جمعيّات وشركات لقضم حقوق الفلسطينيين.
يعمل العدو الإسرائيلي على انتزاع كلّ ما يملك الفلسطيني، ويتذرّع بكلّ الذرائع للاستيلاء على أرضه وطمس هويته.
ولتحقيق وجوده، يستخدم هذا العدو كل الأساليب والوسائل. فتارةً، يلجأ إلى العنف، كما شهدنا ونشهد اليوم في حيّ الشيخ جراح. ويلجأ طوراً إلى الاحتيال والزيف، من خلال وسائل مبطَّنة، وسياسات تهجير قسري، وتطهير عرقي، لفرض هيمنة إسرائيلية، في محاولةٍ منه لتوسيع فكرة الاستيطان وترسيخها في أرض فلسطين وتهويدها.
جمعيّات وشركات تعمل تحت ظلّ العدو الإسرائيلي، تستولي على أراضي الفلسطينيين بالتحايل عليهم، من أجل شرائها منهم، وإقامة مستعمرات إسرائيلية فوقها. ومن هذه الجمعيات "الصندوق القومي اليهودي" (Keren Kayemeth Leisrael)، وهو منظمة صهيونية طرح إنشاءها مدرّس الرياضيات، اليهودي هيرمان شابيرا، في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897. وأقرّها المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901، كوسيلة لجمع المال من أجل شراء أراض فلسطينية كانت تحت الحكم العثماني آنذاك، واستكملت مسارها تحت الانتداب البريطاني لاحقاً، وصولاً إلى قيام "إسرائيل" عام 1948 "كحلم ورؤية لإعادة تأسيس موطن في إسرائيل للشعب اليهودي في كل مكان"، بحسب توصيفهم.
وفي إثر تسجيل "الصندوق القومي اليهودي" كشركة بريطانية عام 1907، تم تحديد فيينا مقرّاً أولَ له. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1914، نُقل المقر إلى مدينة هاغ الهولندية حتى عام 1922، حين استقر في القدس عاصمة فلسطين.
تذرّع الإسرائيليون بأن أهداف إنشاء الصندوق هي ترميم الأحياء الفلسطينية وتحسين الوضع البيئي، عبر التشجير، وخلق مساحات مفتوحة كوسائل تسلية للشعب اليهودي، بينما، حقيقةً، كانت الأهداف مزيَّفة بحجم زيف هذا الكيان، إذ إنّ الهدف الأساسي له هو قيام مشاريع إسكان وبنى تحتية من خلال ميزانيات بمئات ملايين الدولارات، مموَّلة من صهاينة وداعمين لهم عبر العالم.
نشاط هذا الصندوق شقّ طريقه قبل قيام "إسرائيل"، فالصفقات التي عقدها، سواء عبر استلامه أراضيَ فلسطينية من الحكم العثماني، أو عبر أراضٍ تسلّمها من سلطة الانتداب البريطاني، ومن خلال مخططات كـ"برافر"، الذي أقرّ ملكية نحو 800 ألف دونم من أراضي النقب لمصلحة "إسرائيل"، بالإضافةً إلى "تجارات مزيفة"؛ هذه الصفقات كلها ساهمت في تعزيز الاستيطان، بحيث كان يمتلك في نهاية عام 1947 ما يساوي 7% من الأراضي الفلسطينية.
بعد إعلان قيام "إسرائيل" عام 1948، تمّ إدراج "الصندوق القومي اليهودي"، على أنه جمعية "خيرية" إسرائيلية. كما جاء في النظام العام له أن الأراضي، التي يتم شراؤها، لا يمكن إعادة بيعها من جديد، وفي أقصى الحالات قد يتم تأجيرها فترةً زمنية محدَّدة، ووفق شروط معقَّدة، منعاً لانتقال الملكية إلى غير اليهود، بحيث سُجّلت في هذه المرحلة لمصلحة الصندوق ملكية أغلبية الأراضي التي تم إفراغها قسراً من سكانها ومالكيها الفلسطينيين.
عام 1950، أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانون "أملاك الغائبين"، الذي يسمح للمستوطنين بالاستيلاء على أراضٍ فلسطينية رُحِّل أهلها عنها، أو هاجروا منها. وبعد 4 سنوات، حصر الكنيست أعمال الصندوق في الأراضي الخاضعة لقوانين حكومة "إسرائيل"، منعاً للملاحقة القانونية الدولية.
في عام 1960، أُبرمت اتفاقية بين حكومة الاحتلال و"الصندوق القومي اليهودي"، سُلّمت فيها الأراضي التابعة للصندوق إلى سلطة "أراضي إسرائيل"، بحيث تم نقل إدارة الأراضي، التي كانت تحت سيطرته، إلى وكالة حكومية.
في العام عينه، تم شراء عشرات آلاف الدونمات في الضفة الغربية، بطرائق متعددة، لمصلحة الصندوق، بعضها عن طريق وسطاء اشتروا الأراضي من دون التصريح عن أهدافهم لينقلوا ملكيتها لاحقاً إلى الصندوق.
وكان جرى تجميد أعمال "كيرن كيمييت"، بعد قيام معاهدة أوسلو عام 1993، لتعاود نشاطها عام 2014، في إثر ضخّ مبالغ هائلة في حساباتها، من أموال صهاينة وداعمين لها عالمياً، وبدعمٍ حكومي "من تحت الطاولة".
وفي عام 2017، شرّعت "إسرائيل" التوسع الاستيطاني، عبر قانون "تبييض المستوطنات"، الهادف إلى ضمّ الضفة الغربية إلى "إسرائيل". كما يتيح القانون مصادرة الأراضي الخاصة بالفلسطينيين، وتوظيفها في المشروع الاستيطاني، بحيث أعلنت الحكومة الإسرائيلية رغبتها في البدء في مشروع "القدس الكبرى"، الذي يضم 300 ألف وحدة سكنية في القدس المحتلة، والهدفُ منه، في المدى البعيد، ربطُ مستوطنات في الضفة الغربية بغيرها في القدس المحتلة.
وتم افتتاح عدة مكاتب له في عدد من دول العالم، أبرزها: أستراليا، النمسا، الولايات المتحدة الأميركية، هولندا، السويد، فرنسا، البلقان، اسكوتلندا، جمهورية التشيك، وغيرها.
بناءً على هذا التوسُّع، خلق الصندوق شراكات دوليّة مع عدة شركات، أبرزها "هيمنوتا يروشلايم"، التي ساهمت في إخلاء منازل فلسطينية في القدس المحتلة، ووضعتها في عهدة المستوطنين. فهذه الشركة، وحدها، اشترت أراضيَ في الضفة الغربية بقيمة 100 مليون شيكل عام 2017.
كما أصبحت عمليات البيع تُعقَد عبر إعلانات صادرة عن الشركة المذكورة، من خلال البحث عن سماسرة ضليعين في اللغة العربية، وإبرام صفقات شراء عقارات من فلسطينيين في الضفة الغربية.
وتحت ذريعة ما يُسمّى مشروعَ "مدينة داوود" في القدس المحتلة، تم أيضاً التواطؤ بين الصندوق ومنظمة "إلعاد"، أو جمعية "إلى مدينة داوود"، التي تتولى عمليات الاستيلاء على المنازل الفلسطينية في أحياء شرقي القدس المحتلة. وبالإضافة إلى هذه العمليات التعسفية، وضمّ مزيد من الأراضي الفلسطينية، وإدراجها ضمن مخططات استيطانية، تواصل "إسرائيل" توسيع المستوطنات وإنشاء أخرى.
لم يمنع هذا "الصندوق"، وما خلّفه من استيطان، من أن يدافع الفلسطيني عن حقه وأرضه وقضيته. وفي سياق التصدي لعمليات البيع والشراء المزيَّفة، أعلنت السلطة الفلسطينية ملاحقتها الصندوق القومي اليهودي أمام المحكمة الجنائية الدولية. ورفض أهل هذه الأرض التخلي عن شبرٍ منها. وكما رأى العالم هذه المرة، لم يكن الصمت سيّد الموقف الفلسطيني.
بالتزييف والاحتيال قضم الاحتلال الإسرائيلي مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية. فـ"الصندوق القومي اليهودي" له أذرع خفية، تعمل على خلق بؤر إستيطانية وتحصينها، إلاّ أن قضية فلسطين ليست مجرد قضية عقارية، فـ"هذه الأرض لا تتسع لهويتين".