قرار حاسم للراحل النقاش غيّر وجه عملية اختطاف وزراء "أوبك" في فيينا
شكّلت عملية فيينا محطةً بارزة في تاريخ العمليات الفلسطينية الخارجية، لكن مسارها المعروف كان سيبدو مختلفاً لولا وعي الراحل أنيس النقاش لخلفيات العملية ومؤدى كل خطوة فيها.
لا تزال حقبة طويلة من "الحروب السرية" بين حركات المقاومة والاستخبارات الإسرائيلية طيّ الكتمان، بسبب المحاذير التي ينبغي أن تأخذ بالحسبان عند تناول تفاصيل القضايا الأمنية التي ما برحت تشكل جزءاً من النضال المستمر.
وإن كان ضباط العمليات والتخطيط الاستخباري أو العسكري في جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية ينشرون مذكراتهم عند انتهاء فترات الخدمة، فإن تجارب قادة المقاومة وعناصرها، تظلّ مخبأة أو محظورة من التداول طوال حياتهم، ليكون موتهم أو استشهادهم فرصةً تسمح بتبيان بعض ما خفي أو استبطن.
واحدٌ من هؤلاء كان "مازن" حين كان في حركة "فتح"، أو "خالد" في عملية فيينا، أما اسمه الحقيقي فأنيس النقاش؛ المناضل الذي حملته الثورة الفلسطينية والآمال بدعم حركات المقاومة إلى النمسا والجزائر وفرنسا وغيرها من البلدان.
فيينا.. حصار "أوبك"
لمع اسم النقاش ما بعد عام 1975، حين كان في الـ24 من عمره، وإن كانت علاقاته برموز المقاومة الفلسطينية وعمله ضمن صفوفها كان قد بدأ في مرحلة أبكر، أي منذ سنين دراسته الأولى، حيث كان - كما يروي - متابعاً لأخبار الحرب العربية - الإسرائيلية، ومؤيداً للنهوض الناصري في مصر، ومشاركاً في التظاهرات المؤيدة لحقّ الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم.
لقد كان هذا العام حاسماً في نشاط النقاش الأمني - إذ أهله للعب دور في الساحة الخارجية وتعرّفه على واحد من أبرز اليساريين المناصرين للقضية الفلسطينية وهو ايليش راميريز سانشيز المعروف بـ"كارلوس" - والذي اختتم باعتقاله عام 1980 بعد محاولته اغتيال رئيس وزراء إيران السابق في عهد الشاه شاهبور بختيار.
حينذاك، أي في 21 كانون الأول/ديسمبر 1975، ضجّ العالم بخبر اختطاف 11 مندوباً في مؤتمر منظمة "أوبك" النفطية بالإضافة إلى عشرات الحاضرين، من قبل مجموعة مؤلفة من 6 مسلحين "يخبئون أسلحتهم في حقائب معدات رياضية"، وفق ما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في ذلك الوقت.
شكّلت السنوات الـ5 الأولى في سبعينات القرن المنصرم الفترة الذهبية في عمليات المقاومة الفلسطينية الخارجية، فاشتهرت عمليات خطف طائرات "العال" الإسرائيلية وطائرات "بوينغ" التي تقلّ إسرائيليين، واستهداف السفارات الإسرائيلية في دول مختلفة، واختطاف الإسرائيليين من أجل المبادلة، وإن كان ذلك أمام عدسات الكاميرات (كما في ميونخ عام 1972)، وذلك بهدف إثارة القضية الفلسطينية في الخارج ولفت الرأي العام الدولي إلى مظلومية الفلسطينيين، بالإضافة إلى استنزاف أجهزة الأمن الإسرائيلية.
وكانت "حرب الأشباح" هذه، وفق تسمية الإسرائيليين ايان بلاك وبني موريس، تجري بمساهمة كبيرة من أحد أبرز الأدمغة الأمنية الفلسطينية ومسؤول العمليات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وديع حداد، الذي عرف بتعاونه مع منظمات وحركات ثورية خارجية والتنسيق معها لتنفيذ عمليات مشتركة تخدم القضية الفلسطينية.
خطط حداد لعملية فيينا وأوكل مهمة التنفيذ والإشراف إلى "خالد" أي النقاش، ثم أشرك كارلوس بالعملية نظراً لخبرته في تنفيذ عمليات مشابهة وتحمّله عبء إلصاق تهمة العملية به بدلاً عن النقاش الذي كان يفضّل التواري عن الأضواء وإكمال مهامه العسكرية والأمنية سراً.
وهدفت العملية كما أعلن حينها، بحسب مقابلة سابقة مع النقاش، إلى إذاعة بيان للمقاومة الفلسطينية عبر الإذاعات النمساوية والتعريف بالقضية الفلسطينية في أوروبا، لكن أسباباً أهم دفعت المخططين لاختطاف وزراء الذهب الأسود وإحداث خرق في أجهزة الأمن الموكلة بحمايتهم.
النقاش.. الرؤية السياسية شرط المقاومة
عملاً بـ"مبدأ أيزنهاور" في عام 1957، والذي يهدف إلى مواجهة "الخطر الشيوعي" الذي "يتهدد" بلدان الشرق الأوسط، تكفلت الإدارات الأميركية المتعاقبة بدعم الأحزاب والمنظمات والدول اليمينة، فضلاً عن استخدام القوات العسكرية والأجهزة الأمنية لمحاربتها.
وجرى العمل بهذا المبدأ في بلدان عربية شهدت، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، تصاعداً في تأييد الاتحاد السوفياتي والمبادئ الشيوعية، وذلك من خلال دعم الأحزاب المناوئة للاشتراكية عبر المال والمساندة السياسية. ويمكن ملاحظة الأمر بشكل واضح عند مراجعة تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، حيث دعمت الولايات المتحدة أطرافاً يمينية في حربها على المنظمات والأحزاب اليسارية والمقاومة الفلسطينية، كما يبيّن الباحث السياسي أسعد أبو خليل في كتابه "أميركا أشعلت حرب لبنان".
ويوضح النقاش أنه، وفي ذلك الوقت، اتضح للمقاومة الفلسطينية أن الاستخبارات الأميركية طلبت من حكومة الشاه والمملكة العربية السعودية أن يمولا جهات وأطراف يمينية لبنانية في بدايات الحرب الأهلية، ما دفع بهذه المقاومة إلى التفكير بأفعال "تأنيبية" لهاتين الدولتين، تظهر حجم الخطئية التي ارتكبتاها وتجبرهما على دفع مبالغ وازنة إلى قوى المقاومة الفلسطينية. وهذا ما انتهى بالتخطيط لمهاجمة المشاركين في اجتماع "أوبك".
أما اللافت الذي ذكره النقاش عند استذكاره لهذه العملية، فهو الطلب الذي وجّه إليه من قبل المسؤولين عن العملية باغتيال وزيري النفط السعودي والإيراني بعد الحصول على فدية، وهو الطلب الذي عارض تنفيذه لأسباب سياسية وإنسانية، حيث لم يجد تفسيراً يبرر أهمية إعدام هذين الوزيرين في دعم القضية الفلسطينية، بل رأى أن اغتيالهما هو "قرار سياسي مشبوه" يهدف لأمور أخرى.
استمرت عملية الخطف التي نفذها النقاش و"كارلوس" ورفاقهما ما يقارب 46 ساعة، جرى خلالها نقل الوزراء وعدد آخر من وفود الدول عبر حافلة من مقرّ الاجتماع إلى مطار مهجور، حيث كانت تقف إحدى الطائرات، ليتم الإفراج عن جميع الرهائن باستثناء وزراء الدول. ومن هناك، جرى الانتقال إلى الجزائر الرائدة بمثل هذا النوع من المفاوضات، حيث جرى إطلاق سراح الوزراء مقابل "مساعدات مشروطة" وضمان حرية الخاطفين.
تكشف هذه العملية ونقد النقاش اللاحق لبعض جوانبها السياسية، عمق وعيه السياسي بشروط النشاط الأمني والعسكري الخارجي، وضرورة اقتران مثل هذه العمليات برؤية سياسية سليمة تساعد على الخروج بنتائج مثمرة، ولذلك نجده غير آسف على النجاح المحدود الذي حققته العملية، والذي كان ليكون "أكبر" لو وافق على قرار قيادته باغتيال وزير النفط السعودي السابق، أحمد زكي يماني، وهو الذي - يا للمصادفة- توفي أمس الثلاثاء، أي بعد ساعات من وفاة النقاش.